العرب وجهة نظر يابانية لنوبواكي نوتوهارا من الكتب غير التقليدية في ما أظن، فنحن نحتاج إلى شخص لا يجامل في عكس انطباعاته تجاه شعب ما؛ لأنه عاش معهم لفترات طويلة، ولكن في الوقت نفسه لا نحتاج شخصًا لا يرى إلا أخطائنا.
فمثلاً الكتاب يرى في تشخيصه للواقع العربي أن الاستبداد والطغيان السياسي هو ما أوقعه في هذا التخلف -تقريبًا نفس رؤية الكواكبي للموضوع-، فيعوز استبداد الأب مع ابنه أو عائلته والأستاذ مع طلبته وكل استبدادٍ مصغّر في المجتمع العربي إلى الاستبداد السياسي الكبير في الابتداء؛ ويرى أن هذا الاستبداد يورّث عدم المسؤولية في المجتمع؛ وهذا ما جعله يأخذ موقفًا من كل أديب تزلّف للحكومات المتستبدة مثل الأديب حنا مينة.
ثم أفرد فصلًا يدلل فيه على أن الطغيان الصغير سببه الطغيان الكبير من خلال قصص ومشاهدات عاشها في العالم العربي عنونه بـ(كارثة القمع وبلوى عدم الشعور بالمسؤولية)، فلا ترى إلا المثالب والأخطاء، ثم أظن لَمّا رأى نفسهُ قد أكثر من هذا، ذكر في صفحة ونصف موقفين جيدين يتعلقان بالكرم!
ربما ظنَّ أن ما سوف يصحح البوصلة لدى القارئ هو تنبيهه على أخطاء مجتمعه أكثر من ذكر محاسنه التي قد تؤدي بشكل أو بآخر الى تصالحه مع الذات وعدم التغيّر الى الأفضل!
وذكر في هذا الفصل «
لا أقصد هنا المفاضلة ولست من القائلين بتفوق شعب على آخر. ولقد كرت مرات عديدة أن علينا الا نسقط قيمنا المسبقة على المجتمعات الأخرى»، ولكن كان الفصل كله مقارنة بين مجتمعه والمجتمعات العربية؛ وأن الأمر في مجتمعه أفضل من حال المجتمعات العربية فهو قد فاضَلَ بشكل أو بآخر، والإشكالية الثانية أنه بدأ يُسقط قِيَمَهُ على المجتمعات الأخرى، كما في (صـ46) عندما تكلم عن حكم غضّ البصر وتقيّد المرأة بالجلوس في منزلها!
الفصل هذا لا يخلو من أشياء صحيحةٍ نتفق معهُ فيها، ولكن الناس عمومًا لا تستسيغ النقد إذا كان مكثقفًا، فحتى لو كان صحيحًا فإن الناس ترفضه وتمجّه وتراه غير منصف.
ويبدو أن المؤلف قد امتعض من أجواء المدن والتحضر، فلذلك تراه مدهوشًا بالبداوة والفلاحة، وفي الفصل الذي يليه تغيّرت لهجة المؤلف قليلًا؛ فأصبح يرى مناقب في البدو لا يجدها في اليابانيين!
فامتدحهم من حيث البساطة وقوة الصبر وحسن التدبير؛ فالبيئة الصحراوية وقلة الأدوات تَستلزم من البدوي أحيانًا أن يخترع بالقليل المتاح طريقة لتعدد الاستخدامات مثل استخدام العقال في عدة أمور، هنا يقول المؤلف: «
أما نحن اليابانيين فعلى العكس من ذلك نجد الكثير من المؤسسات الخاصة التي تستخدم خبراء ليقدموا لنا الحيلة عندما نحتاج بدلًا م أن نتدبرها بأنفسنا». وكذا من حيث الكرم بل تراه يقول: «
في اليابان نستخدم كلمة البخل بين الأصدقاء بصورة عادية وأحياناً إيجابية، أي بالمعنى الاقتصادي تحديدًا، ولا نُحَمّلها معنًى سلبيًا، أمّا عند البدو العرب؛ فإن البخل ليس فيه أي معنى إيجابي على الإطلاق!» إلخ ....
ثم في الفصول الأخيرة من الكتاب تكلّم المؤلف عن الروائيين العرب الذين ترجم أعمالَهم إلى اليابانية، فأصبحت أعمالهم هي مدخلًا للعرب في اليابان، وأغلب الأعمال هي انعكاساتٌ لتوّجه المؤلف نفسه وهذا لا يعيب بحد ذاته، فإبراهيم الكوني هو المدخل إلى ثقافة الصحراء والتي كما أسلفنا جذبت المؤلف، فأراد أن يستزيد منها قراءةً ومعايشةً، وأما عبد اللطيف اللعبي فهو المعتقل من قبل طغاة العالم العربي والذي يمقتهم المؤلف، وأما يوسف إدريس فهو كاسر التّابو المتعلق بالدين ورجاله وكما تقدم أن المؤلف امتعض من حكم غضّ البصر وامتعض كذلك من إبقاء «النساء الجميلات» في المنزل وامتعض من سلوك الأستاذ علي حسن السمني المستقيم وفق الشريعة الإسلامية واعتباره أن من يتقيّد بهذه القيود لن يتقدم؛ فهو يقيس الأمور وفق منظورٍ مادي.
ففي هذه الفصول الثلاث استعراضٌ لأدب هؤلاء ورواياتهم وآراء المؤلف فيها، ثم أتى الملحق وهو في نظري أهمّ من هذا كله، وهي لقاءات قديمة مع المؤلف الذي وُصِفَ بـ«المستعرب»؛ وذلك أن لفظ المستشرق قد لا يكون ملائمًا له فهو قابعٌ في أقصى الشرق فيكون حينئذٍ مُسْتَغْرِبًا إن اهتمّ في الشأن العربي باعتبار أن العالم العربي يقع غرب اليابان، ولكن حُدد وصفه بـ«المستعرب» تميزًا عن أي ثقافةٍ في الاتجاه الغربي لليابان.
كانت هذه اللقاءات والأخص اللقاء الثاني تتكلم عن المجتمع الياباني، والذي في ما أظن لدينا قصورٌ كبيرٌ في فهمه، أو لا يُفهم إلا من خلال ثقافة الأنمي والمانجا والدراما، رغم أن هذه ليست مقياسًا حقيقيًا، فالمضمون الترفيهي أحيانًا لا تجزم أنه انعكاس للواقع الياباني، ولكن تستطيع أن تستخلص من القواسم المشتركة بينها = الانعكاس الحقيقي، فمثلًا قد يَلحظ الناقد وجود صورةٍ نمطية للشخصيات النسائية في هذه الأعمال، وهذا يَعني أنها مطلوبة بشدة من المشاهدين في هذا القطاع، فالمنتج الذي يريد زيادة عدد المتابعين لأعماله وبالتالي الأرباح لا بُدَّ أن يخضع لشروط المشاهدين، فالمفهوم هنا يتقاطع مع المال، فمن خلال هذا تستطيع أن تخرج بصورة عن المجتمع الياباني من خلال الأعمال الترفيهية؛ وذلك لأن المال لا يكذب.
نعم من المهم أن تقرأ للآخرين وهم يتحدثون عنك؛ ولكن الأهم أن لا تعطل عقلك وتلغي ذاتك وتسلم بكل ما قيل، لأن صاحب الكلام أكثر تطورًا –وفق المفهوم المادي- منك، فقد يكون ما قاله مجرد هراء لا قيمة له، أو سوء فهم، أو خطأ محض، لأن المعيار لتقويم الأمور ليست أقوال الآخرين بل الحق الذي ننطلق منه وبه نقيس الأمور، ونحتاج إلى مَن ينبهنا إن حِدنا عنه، لا أن يخترع لنا سُبلاً جديدة بدلًا عنه.