Avicenna
φιλόσοφος
بسم العليم الحكيم، والصلاة والسلام على رسوله العربي محمد،
الكتابة في تاريخ الصين الاقتصادي كان من المشاريع الكبيرة من الناحية البحثية حيث اخذ منا ما يقارب النصف عام وكاد يأخذ اضعاف تلك الفترة لو أردنا التعمق في مجمل الجانب الاقتصادي ومحدثاته. مع ذلك، ابن سينا لم ير التحدي في اتباع الطريقة العلمية والجانب الحيادي عند الكتابة عن دولة لا علاقة له بها. لذا قررنا بعد كتابة موضوع الصين ان نبدأ مشروعاً أصغر من الناحية الجغرافية، لكنه أكثر صعوبة لكثرة الآراء وتداخل الكذب بالحقيقة. هذه الأيام يكاد الكلام في تاريخ بيت المقدس يكون محرماً عسيراً وواضحاً في بعض الأحيان للجميع. فالمسلم العربي يرى من الأرض ملكاً لأهلها وان يهود اوروباً قاموا بسرقة الأرض، واليهودي يرى من الأرض وعداً الهياً كانت لهم بعد ان طُرِدوا مغصوبين منها. وما بين هذا وذاك تصدر الكثير من الآراء التي ترمي لجانب دون الآخر من دون محاولة فهم ودراسة تاريخ هذه الأرض بشكل كامل وبلا أي ألوان وتحويرات.
هذا الموضوع ليس بموضوع ديني، وابن سينا هنا يقوم مقام الابراهيمي الموحد لا فارق عنده بين بني إسحاق وإسماعيل. هذا الموضوع أيضاً لن يعني بالسياسة كذلك فهي كالسم لوث دراسة التاريخ والباحث فيه. قرار هذا الموضوع في أصول تأريخية حاله حال موضوع الصين والفارق ان لدى المستقبل رأي راسخ في بعض المعالم والقضايا التي تخص هذا التاريخ.
وأما نحن، فنكون من المبحرين فيه والمدركين لمصاعبه ومستدركاته وكأننا رأينا كل العقبات لطريق السائل. لذا سهُل علينا التفهم لما قالوه اول ما اشتغلنا به وكأنَ الزمان الذي اشتغلنا فيه بذلك ريعان الحداثة. فوجدنا في هذه العلوم من توفيق الله ما قصَّر علينا بسببه مدة التفطن لما أورثوه، ثم قابلنا جميع ذلك بالنمط من العلم الذي سميناه بالتأريخ، فوقفنا على ما تقابل وعلى ما عصى، وطلبنا لكل شيء وجهة، فحق ما حق، وزاف ما زاف.
ولعلنا أردنا التمكن من نشر العلم وهذا عسير على ما وُجدنا فيه وعليه. فنحن من الباحثين ومريدي العلم ولسنا من طارحيه والكاتبين فيه. فلو كنا من الأخيرين لكتبنا فيه الكتاب واخذنا بيد الناس نعلمهم. انما نحن على قدر نفوسنا تكون فينا كفاية العلم ما شاء الله لها ان تكون حتى نطمع بالمزيد ونستمر بالبحث. وقد يكون في كلامي القليل (بل الكثير) من النزعة الابن سينائية فهيهات ان نكون محفوظين من الرأي فنحن مستقبلين قبل ان نكون كتاباً وبحكم اصلنا عند العرب وتربيتنا في بيوت الإسلام فلن يكون بمقدورنا اقناع الكاتب بحقيقة الجانب الحيادي حتى يرى هو بنفسه ويطلع على ما كتبناه فيكون هو الحاكم بذلك..
وما جمعنا هذا الكتاب لنظهره إلا للذين يقومون منا مقام أنفسنا، وأما المريدين لمستدركات تأريخ بعيد الدول فقد اعطيناهم ما هو كثير في تاريخ الصين ومحدثات تطورها الاقتصادي. ولهم الوفير من القادم فيما قد نذكر ما يصلح لهم زيادة ما أخذوه، وعلى كل حال فاستعانة بالله وحده.
---------------------------------------------------
يقول المؤرخ سايمون سيباغ ان الصورة الرومانتيكية لمدينة داوود كانت بعيدة عن واقع المدينة المعتمد تاريخيا. حيث اشارت الدلائل التاريخية من باقيا قطع الفخار، والمنحوتات، وحتى التاريخ المدون في الكتاب المقدس على ان تاريخ المدينة ملوث بقرون من فترات فارغة لا علم لنا بها ولا فكرة لدينا عما حدث فيها. على العموم، الثابت مما وصل الينا من تلك الفترة هو ان المدينة كانت في عز قوامها وامنها أيام داوود حتى عُدت شبه منيعة لاي تدخل خارجي.
دير السلام تلك كانت شبه غير موجودة في بدايات العصر البرونزي، بينما كانت ممالك مصر وام المدن "اوروك" (العراق حديثاً) في قمة الازدهار. ولكن لعلي اشير لها باسم دير السلام لتواجد الاسم اورسالم الذي صار اورشليم (والتي قد تعني ايضاً "مملكة إله نجم المغيب") على بعض منقوشات الفخار من مصر القديمة. في نهايات الحقبة البرونزية، أسس الكنعانيون من دير السلام مساكن لهم وجعلوا من المدينة حصناً منيعاً بتأمينهم لمصادر المياه عن طريق ممرات تحت الأرض وتحويطهم المدينة بجدار بقطر سبعة أمتار تقريباً مستخدمين بذلك اطناناً من الحجارة. يرجح المؤرخون على ان المنطقة كانت تُستخدم للاحتفال بالربيع..
فراعنة مصر أرادوا حكم كنعان أكثر من مرة، ولكن التاريخ لم يثبت قيامهم بهذا من عدمه. كل ما وصلنا له هو بغض حكام مصر الشديد لكنعان والذي فسره المؤرخون لوجود نقوش مكسورة ترمز للمدينة وحضارة كنعان. وهنا يجدر التنبيه على ان المصريين القدماء كانوا يؤمنون بلعنة صاحب الاسم المكسور لذلك هم كانوا يكتبون "أسماء" اعدائهم على الفخار ويكسرونه لتفعيل اللعنة.
بحكم التاريخ وكيفية سيره، سيطرة المصريين على القدس كانت مسألة وقت فحسب. ففي سنة 1458 قبل الميلاد، اجتاح المصريون فلسطين واحكموا سيطرتهم على اغلب الحصون في يافا وغزة. وبعد مئة سنة تقريباً، كان ملك دير السلام (عبدي هيبا) يتوسل لأخناتون (ملك مصر الحديثة) ويطلب منه على الأقل ارسال خمسين من الرماة للدفاع ان مملكته من الممالك المجاورة وقطاع الطرق.
وهذه احدى رسائل الملك لأخناتون:
رسالة خادمك عبدي هيبا. أسجد عند قدمي الملك سبع مرات وسبع مرات. أي خطأ اقترفته بحقك ياسيدي. إنهم يدينونني أمام سيدي الملك قائلين: "لقد ثار عبدي هيبا على سيده الملك". لكني أدرك أنه لا أبي ولا أمي وضعاني في مكاني هذا , إنما ذراع الملك القوية. لماذا من بين جميع الناس أقترف ذنباً ضد سيدي الملك؟ أقسم بحياة الملك أني قلت لمندوب سيدي الملك لماذا تفضل العابيرو* على الحكام . لهذا السبب أني مُدان أمام سيدي الملك, مُدان لأني أقول: "لقد ضاعت أرضي سيدي الملك". أتمنى على سيدي الملك أن يعلم بأن (إنهيامو) قد أخذ التي وضعها هنا سيدي الملك . وصرنا بلا حامية. فلعل سيدي الملك يهتم لأمر أرضه. لعل سيدي يهتم لأمر أرضه. أنا أقول: سأفد على سيدي الملك. سأزور سيدي الملك لكن الحرب ضدي قاسية وتمنعني من التوجه لسيدي أتمنى على الملك أن يستحسن رأيي ويرسل ليّ حامية لأتمكن من التوجه إلى سيدي وزيارته. أقسم بحياة سيدي الملك. كلما جاء مندوبو الملك كنت أقول لهم : لقد ضاعت أرضي سيدي الملك لكنهم ما أصغوا ليّ. لقد ضاع الحكام ولم يبقى لسيدي الملك حاكم موالٍ واحد. لعل الملك يعير مسألة الجنود الرماة اهتمامه ويرسل إلينا عدد منهم لم يبق ثمة أرض للملك. فلقد سلبها العبيرو كلها. إذا جاءنا الجنود الرماة في هذا العام فإننا سنحفظ أراضي سيدي الملك . وإلا فإن الأرض سوف تضيع.
*يجدر النظر في لفظ "عابيرو" حيث رمز هذا الاسم تاريخياً لقطاع الطرق والقبائل البدوية المحبة للحروب واخذ العبيد. لم يتفق المؤرخون على أصل تلك القبائل ولم يتفقهوا على علاقة هذا الاسم بالعبرانيين ولعلها مجرد صدفة انهم امتلكوا نفس الاسم كون لفظ عابيرو كان مستخدماً في جميع انحاء الشرق الأوسط واستخدمه البابليون كرمز للتشرد والبدوية. في حين ان كلمة "عبري" ترجح لعبور نهر الفرات عند بعض المصادر.
بعد الدراما العظيمة الموجودة في رسائل عبدي هيبا, تنقطع اخبار القدس حتى نصل لمملكة كلها قلاع بنيت على يد الكنعانيين وأرض القلاع تلك تسمى صهيون وكانت جزئاً من المناطق التي احكم داوود عليها السيطرة لاحقاً في بدايات القرن الثالث عشر قبل الميلاد. في هذه الفترة, منطقة البحر المتوسط تمر في تغيرات عنيفة اثر قدوم "أناس البحر" من بحر ايجة على شكل هجرات جماعية وحركات سلب بحرية هزت كيان مملكة مصر. وفي تلك الفترة تحديداً ظهر "العبرانيون" لأول مرة على المسرح التاريخي. يجدر التنويه ايضاً على ظهور الفلستيون وهم الأقوام ألتي جائت من البحر بعد سقوط اليونان وممالك ايجة.. أيضاً لاحظوا تشابه الاسم مع فلسطين والاخير استخدم لاحقاً من قبل اليونان (بعض المؤرخين يقول بعلاقة الفلستين مع الكنعانيين العرب وهذه خرافة, الفلستين كانوا غريبين على كنعان).. ايضاً قد نرى اصل الاسم الحديث في الآرامية وهذا يستحق موضوعاً لوحده..
خلال العصور المظلمة تلك (والتي دامت لثلاث قرون تقريباً) ظهر العبريون (جماعة غامضة من الموحدين) ليحكموا السيطرة على جزء صغير من ارض كنعان ويؤسسوا مملكتهم الخاصة. مؤسس العبريين والأب الروحي لفكرهم مذكور في سفر التكوين وهو أبرام ابن تارح وابرام هو الأصل الكلداني لاسم إبراهيم والذي يعني "الاب العالي" او "الاب الرفيع". اكد على نسبه سفر التكوين عند اليهود ونساب العرب وبعض المسلمين من أمثال عبد الله بن عباس..
هاجر إبراهيم من اور ليستوطن حبرا (الخليل اليوم) وهي الأرض التي وعدها الله إياه في كنعان حسب البيان اليهودي. رحلة إبراهيم ليست بواضحة التأريخ وفي كتب اليهود الكثير من التناقضات التي جعلت من وضع تاريخ ثابت لرحلته شيئاً مستحيلاً. تم اختبار إبراهيم بعد ذلك بذبح ابنه إسحاق (وفي هذه اختلاف، فيقول بعض مفسري المسلمين انا الابن الاكبر لإبراهيم هو إسماعيل وليس إسحاق كما زعمت اليهود).
اليهود أكملوا القصة لقولوا بان حفيد إبراهيم (يعقوب) اتخذ الحيلة لكسب ميراثه ولكنه غُفر ذنبه بعد ان "صارع" رجلاً غريباً تبين انه "الله" فيما بعد ولذا يسمونه إسرائيل (والذي يعني "الذي تصارع مع الله"). بحكم التراجم وكمية النقل والكتابة في الكتاب المقدس على مر عصور مختلفة وعلى لسان مؤلفين غير معروفين، فنوع الصراع ذاك غير معروف وكيفية فوز يعقوب وحقيقة استخدامه الحيلة في كسب ميراثه ليست بمؤكدة, ولكن اتفاق اليهود هو انه ارتكب معصية تاب عليها ومنحه الله الرحمة كفوز في صراع مع رجل غريب. ولكن محور القضية هو ان إسرائيل ولد وولدت معه قبائل إسرائيل الاثنا عشر. وبعد ما يقارب النصف قرن من الزمن, ذكر الإسرائيليون انهم كانوا عبيداً عند الفرعون في مصر حتى حررهم الأمير العبري موسى بمعجزة من الله. وبعدها انزل الله الوصايا العشر على بني إسرائيل بألواح موسى ووعدهم ارض كنعان اذا ما اخذوا بتلك الوصايا. لم يذكر العبرانيين اسم ربهم وقالوا بان الرب أجاب سؤال موسى عن اسمه ب "انا من انا" او "أَهْيَهِ أشير أَهْيَه". فلدينا الآن اله بلا اسم يرمز له الإسرائيليون ب يِهْوڤَ أو يَهْڤِ..
هنا يجدر الذكر ان بعض المؤرخين يقول بان كتب اليهود المقدسة كانت لها نسختين، نسخة كتبها اليهود عبدة رب موسى ونسخة كتبها الكنعانيون. السبب وراء ذاك الافتراض ان التكوين ظهر مرتين في سفر التكوين، قصة آدم ظهرت بشكلين وحتى الطوفان ظهر كقصتين. بل حتى قصة تغيير اسم يعقوب لإسرائيل كانت على اثنين..
يذكر ان موسى مات قبل الوصول لأرض الميعاد وان يوشع هو من قاد الإسرائيليون لكنعان وتوثق التوراة الرحلة لكنعان كأنها حرب دموية طاحنة، ولكن ادلة التاريخ لم توثق أي حرب طاحنة في كنعان تلك الفترة، ولكن هناك ادلة عن بعض القبائل المستوطنة حديثاً والموحدة لله في ارض كنعان. سكن يوشع شمال دير السلام واسس معبد ليهوه (إله موسى) ليصنع بذلك قراراً له في دير السلام. في الجانب الجنوبي يقطن اليبوسيون من اهل كنعان الساميين وهم متحالفين مع قبيلة يهوذا (أحد أبناء يعقوب واحد القبائل الاثني عشر لإسرائيل).
بسبب المشاكل الداخلية وكما يقولون "غيرة" طالوت من داوود, خرج داوود حتى سكن عند الملك الفيلستيني وهجم الفليستينيين مرة ثانية على يهوذا حتى هزموا طالوت وبنيه. يُقال ان رجلاً جاء لداوود يخبره بانه قاتل طالوت فقتل داوود ذلك المرسال وكتب قصيدة يمدح بها طالوت وابنه.. الفيلستيين أعطوا اسمهم للأرض والتي حورها الرومان فيما بعد لتصبح فلسطين المعروفة حالياً.
قبائل يهوذا الجنوبية عينوا داوود ملكاً لهم وكانت حبرا عاصمةً لهم. وقبائل إسرائيل الشمالية كانوا تحت قيادة أحد أبناء طالوت المتبقين ولكن الأخير قُتل بعد حرب دامت لسبع سنين وبفضل كاريزما داوود عينت القبائل الشمالية داوود ملكاً لهم. وهنا اتحدت مملكة يهوذا الجنوبية مع باقي قبائل إسرائيل الشمالية تحت حكم داوود!
براعة داوود في القيادة تظهر بعد دخوله لدير السلام المعروفة آن ذاك بيبوس (نسبةً لليبوسيين وهم اهل كنعان الساكنون فيها في ذلك الوقت). فتح داوود حصون صهيون وسميت مدينة صهيون بمدينة داوود!
وحتى ازيدك من حكمة داوود وقدرته على الحكم, داوود لم يقتل اليبوسيين وقرر ان يرفعهم لقرارات الحكم والجيش ويدير البلاد رفقتهم. بعدها أعاد بناء الحصون والجدران المهدمة بعد الحرب وقام باستعادة تابوت العهد وجاء به لدير السلام. اعلن داوود بذلك اسم رب موسى في ارض فلسطين وقام بتاسيس دولة حتمية دائمة بعدما وعده ربه بدوام ملكه الذي لن يزول لأبد الدهر. أختار داوود من دير السلام قلباً لمملكته التي امتدت من لبنان حالياً وحتى أراضي مصر الشمالية (مرة ثانيةً, اختيار في غاية الحكمة لتوحيد قبائل إسرائيل الشمالية). ومع ان مملكة داوود كانت عظيمة نسبياً الا انها كانت لا شيء مقارنة ببابل التي لم ترى من دير السلام غير تجمع للقبائل تحت امير يملك كاريزما تقطع الجبال. ولن يبالغ الباحث لو قال بان داوود كان السبب الأساسي وراء بقاء مملكة العبرانيين تلك.
مات داوود بعد توحيد قبائل بني إسرائيل وترك ابنه سليمان خليفةً لهم ووكل اليه مهمة بناء هيكل او معبد ليهوه. ومع ان سليمان قام بتلك المهمة على اكمل وجه, الا ان مصادر العبرانيين تقول بانه كان اقل رحمة من ابيه داوود وحكم بقبضة من حديد. اخذ بناء المعبد من سليمان سبع سنين، وبنا قصره العظيم في العقد والنصف من الزمن. وبشكل عام، ورث سليمان كاريزما اباه ووكل عظام الفينيقيين في البناء والهندسة لأنهاء هيكله وقام بالتجارة مع ممالك السودان ووصل بعلاقاته لأرض اليمن.
المهم هو ما حصل بعد تسع سنين من موت سليمان, حيث قرر فرعون مصر (شيشنق الأول) ان يغزوا مملكة الإسرائيليين ويدمر وحدتهم (التي لم تكن وحدة واقعية في الحقيقة). بما ان حفيد داوود كان حافظاً للمعبد ودير السلام (بحكم النسب وبموافقة القبائل الشمالية) قرر ان يدفع الغالي والثمين من كنوز ابيه سليمان حتى يدفع بشر الفرعون بعيداً عن دير السلام وارض داوود. يُقال ان كمية الذهب كانت شيئاً مهولاً حتى انها اقنعت الفرعون نفسه بالكف عن دير السلام ولكنه قرر شن حملة على المناطق الساحلية وترك خلفه نقوشاً لتخلد حملته تلك. ليس ذلك فحسب, بل بعد رجوعه من حملته الساحلية, قام بنقش قصة تدميره للسواحل الإسرائيلية على جدران معبد آمون حتى تكون هذه الواقة الأولى من الاحداث التوراتية المدعومة بشكل كامل اركيولوجياً.
وبعد خمسين سنة من المشاكل العائلية بين مملكتي إسرائيل ويهوذا، قرروا اخيراً عقد الصلح. وتلى ذلك الحدث زواج الملك السابع لإسرائيل (احاب بن عمري) من الاميرة الفينيقية ايزابيل (وما ادراك ما ايزابيل!).
*ابن سليمان الذي تكلمنا عنه كان الملك الرابع لإسرائيل ولكن لا أهمية لمن تلوه في الوقت الحالي..
نرجع لايزابيل, المشكلة في تلك المرأة هي انها كانت من عبدة الاوثان وكانت توجه زوجها للدفاع عن دين اجدادها وترك دين الإسرائيليين. ووصلت بها السيطرة على إسرائيل ان "ملك إسرائيل" قام بنفي نبي زمانهم لنقده آلهة ايزابيل. ببساطة، الزواج هذا شكل كارثة بكل معنى الكلمة لإسرائيل وكل شيء بنوه حتى الآن (كيف لا واصل دينهم وهو التوحيد قد تم هده كلياً وملكهم هو من قام بذلك!).
غير هذه المصيبة, لدينا مصيبة الاشوريين الذين خرجوا من نينوى العراق حتى يعيدوا مجدهم ويفتحوا منطقة البحر المتوسط. ولردع الاشوريين, قررت إسرائيل عقد اتفاقية عسكرية مع ممالك سوريا ويهوذا ليقاوموا التهديد الاشوري. وفي خضم الحرب, مات الملك احاب بضربة سهم واندلع فتيل الثورة في إسرائيل بموته! حيث قام احد الجنرالات بقتل أبناء احاب السبعين وتعليق رؤوسهم في باب مدينة السامرة. ليس ذلك فحسب, بل قام الثوار بقتل الملك الجديد لمملكة إسرائيل ومعه ملك يهوذا! ببساطة, كانت حملة قتل جماعي للأسر الحاكمة في ذلك الوقت ولعلها ردة فعل على خراب الممالك الذي نزل بسبب ايزابيل وعائلتها ممن دمروا مبدأ التوحيد عند قبائل إسرائيل. اوه, بالحديث عن ايزابيل.. هم قرروا رميها من فوق قصرها حتى تدهسها عجلات العربات الحربية ثم رموا بجثتها للكلاب (حسناً, قد تكون ردة الفعل تلك مبالغ فيها لكن نكمل القصة..)
لجمال القدر في مملكة إسرائيل, حازت بنت ايزابيل عام 841 قبل الميلاد على مقاليد الحكم وقررت قتل كل ذرية النبي داوود (بمن في ذلك احفادها) حتى تفرغ لها الساحة وتُخمد حس المقاومة عند بني يهوذا.
ولجمال القدر مرة ثانية، نجى احد الامراء من حملة القتل الجماعي تلك وكان اسمه يوآش. بالطبع بقاء ذلك الأمير كان بالسر حتى يبلغ قليلاً وينافس جدته عثليا على حكم قبائل إسرائيل. وفترة سبع سنين كانت كافية حتى يكره فيها شعب إسرائيل عثليا مثلما كرهوا أمها ايزابيل لحبها الشديد لعبدة الاوثان وجلبها لرجال الدين الفينيقيين ممن روجوا لعبادة بعل وغيره (ونرى بعل مذموماً بالتناخ والقرآن). بعد فترة من الزمن وعند بلوغ الأمير السابعة من العمر، دعى كاهن المعبد اليهودي لاجتماع سري حتى يتوج فيه بني إسرائيل ملكهم الجديد. وعند معرفة الملكة بهذه المؤامرة ذهبت راكضة من القصر للمعبد حتى امسك بها حراس المعبد وقتلوها خارج أبوابه. بعد ذلك قُتل جميع كهنة بعل ودُمرت جميع الاصنام في المعابد والحصون.
حكم الملك يوآش لأربعين سنة حتى سنة 801 عند هزيمته من قبل ملك سوريا والذي اجبر سكان المعبد في دير السلام على دفع الأموال والذهب للكف عنهم. وبعدها بثلاثين سنة نرى ملك إسرائيل يقتحم دير السلام ويأخذ الباقي من كنوز المعبد (هي صارت مغارة علي بابا ببساطة). ومع كل هذه السرقات في وضح النهار, الا ان مملكة دير السلام كانت في عز نموها الاقتصادي والعسكري في محاولة للدفاع المستقبلي ضد التهديد الخارجي المستمر.
بالحديث عن التهديد الخارجي..
الإمبراطورية الاشورية لن تقبل بالمحاولات فحسب, هم قرروا انهاء ما بدأوه والاستحواذ على دير السلام. وهنا قررت قبائل إسرائيل الشمالية عقد التحالف المعتاد للتصدي للتهديد الاشوري حتى صدموا هم وممالك سوريا برفض يهوذا للتحالف. لذا قرروا شن حملة على دير السلام كذلك في طريقهم لرفضها التحالف. الان تخيل معي عزيزي القارئ السيناريو الحالي, انت جالس في مكانك تواجه تهديداً من الاشوريين واولاد عمك متحالفين ليقضوا عليك وعلى الاشوريين. ماذا تفعل؟
تتحالف مع الاشوريين ضد اولاد عمومتك!!! وبذلك أرسل ملك يهوذا المال والدعم المادي للآشوريين حتى قضوا على ممالك سوريا وإسرائيل. الان لدى ملك يهوذا معضلة، نستسلم لآشور ام نحارب وندافع عن مدينة داوود؟
كان الجواب من النبي اشعيا الذي أخبر ملك يهوذا بشيء مشابه لعبارة "للبيت رب يحميه". ويذكر التأريخ تواجد مؤلفين لكتاب أشعيا والفارق بينهم يعادل المائتي سنة..
عموماً، بعد موت ملك آشور قررت إسرائيل اعلان الثورة ولكن هيهات.. الملك الحالي اشد ضراوة من الملك السابق وقرر ان يسحق قبائل إسرائيل الشمالية حتى قيل ان عشراً من القبائل الاثني عشر قد مُحيت من على وجه الأرض كلياً! وتم ترحيل سبع وعشرين الفاً من سكان المناطق الباقية لآشور وحتى الان بقي بعض يهود العراق وإيران ممن يقولون برجوع نسلهم للقبائل العشر الممحية على يد آشور.يجدر التنويه ان الباقي من اليهود عند الكثير من المؤرخين هم من قبيلتين من يهوذا المسيطرة على دير السلام.
وهنا يظهر حزقيا ليحقق نبوئة اشعيا ويقود حملة عظيمة ضد الاشوريين بتحالف مع مصر وثوار بابل حتى ينهوا ظلم واستبداد آشور (في الحقيقة حتى يكبحوا التوسع المخيف للإمبراطورية). ونجحت الحملة العظيمة بتخليص العالم من سرجون الثاني ملك آشور المستبد ولكن هيهات للمرة الثانية..
الملك القادم مجرم حروب اتعس من سابقيه! وصل بسمعته عنان السماء حتى سموه ملك العالم وكبح تقدم الثوار وتحالف دير السلام ومصر حتى حكم الأراضي بين الخليج الفارسي وقبرص. ومرحباً بكم في عصر اله آشور الذي كان قلبه في العراق محاطاً بالجبال العالية من الشرق وبنهر الفرات غرباً حتى صارت مملكة عظيمة منيعة يقودها جبابرة شابهوا بتوسعهم المغول بعد الميلاد..
لن أتكلم اكثر عن هولات الحروب وبعض الطرق البشعة عند الاشوريين لمقاومة الثوار وكتم روح الثورة. و يجدر التذكير على انهم لم يكونوا مخربين فحسب, بل قاموا بأمور عظيمة في الادب والفنون والعلوم ولكن لن اتطرق لكل هذا لأنه خارج سياق الموضوع (اعلم تروني مستعجلاً ولكن الطريقة الوحيدة لتغطية قرون من التاريخ في موضوع صغير صدقوني).
ملك آشور قرر انهاء ما بدأه ابائه والسيطرة على دير السلام وتدمير يهوذا. تقدمهم كان "كحركة الصقر" يكادون لا ينامون في مدينة اخذوها حتى دمروا ما بعدها. وتمكن جيش آشور بذلك من كسر الدفاعات المصرية وتدمير جميع الحصون الشمالية حتى حاصر الجيش دير السلام لليال طوال. يُقال ان حزقيا قام بتسميم جميع الابار خارج جدران دير السلام حتى يبطئ من عملية تقدم الاشوريين ويصعب الحصار عليهم. جلس بعدها حزقيا في بيت الرب يدعوه ان ينجي دير السلام ويحميها من بني آشور. وهكذا أجاب الله دعاء حزقيا وصحى جيش اشور وخيامهم تغطي جثثاً من الموتى حتى سحب ملك اشور جيشه شرق دير السلام. يُقال انه قام بذلك لا لمعجزة الهية ولكنه احكم سيطرته على دير السلام وقرر قمع الثورات الباقية شرقاً ودليل ذلك انهم دفعوا له الذهب والفضة وهو قد هجر ما يعادل المائتي الف من يهوذا.. المهم في الامر ان دير السلام لا تزال خارج السيطرة الكلية لآشور والباطشين من ملوكها!
وبعد موت حزقيا, قام ولده منسى باختيار التبعية لسوريا والكنعانيين حتى انه قمع الثورات في دير السلام وتزوج بأميرة عربية. غير هذا فهو لم يبقي على معتقد وثني وفكر كنعاني الا واعتنقه بما في ذلك المشي على النار وتبجيل بعل وحتى التضحية بالأطفال وغير ذلك من الأمور البشعة عند كنعان.
ويرجع لنا العراق بالمفاجئات لتخرج منه الثورة البابلية العظيمة التي انهت الوجود الاشوري عن بكرة ابيه حتى يخرج بذلك الملك العظيم نبوخذنصر ليعيد المجد لبابل ويجتاح نينوى قبل آشور. خلال الصراعات الشرقية تلك يخرج لنا الملك يوشيا ليكتشف نصوصاً من كتاب عبري في هيكل سليمان تهدد بزوال إسرائيل ومملكة يهوذا ما لم يرجع شعبها للتوحيد وترك الاصنام. وبعد تدمير الاصنام وحفظ الوصايا العشر وتابوت العهد وصل يوشيا خبر حملة مصر عبر أراضي يهوذا. ومع ان مصر كانت خراجة لاعانة آشور وكبح الزحف البابلي الا ان يوشيا خاف استبدال اشور بمصر فخرج لقتالهم ولكنه سقط قتيلاً ومعه سقط حلم الحرية والاستقلال لدير السلام. وبعد مقتل يوشيا, توجت مصر اخاه يهوياقيم لحكم يهوذا حتى فشلت حملة مصر وصارت دير السلام قطعة من كعكة بابل الصاعدة..
وخلال عصر كله ثورات ومشاكل, اغتنم يهوياقيم الفرصة وقرر ان يعلن استقلال دير السلام عن بابل من تلقاء نفسه. اعقب ذلك تحذير من نبي إسرائيل إرميا (وقيل ان من اسمائه الخضر) على ان الله سيدمر دير السلام ولكن يهوياقيم تجاهله تحذيره وقام بحرق جميع مخطوطاته وكتبه.
ويأتيك بعدها نبوخذ نصر بقواته ليحاصر دير السلام ويرسل الملك والآلاف من النبلاء لبابل. نبوخذنصر ليس ببربري قاتل وكان يُعرف بباني الحضارات, حيث قام باستخدام قضاة إسرائيل والنبلاء فيهم ليعينوه في الحكم ويقيموا محاكمه ونظامه القضائي في بابل. تهجير اليهود لبابل جعلهم يرون تخلف مدينتهم دير السلام عن باقي العالم بعدما وجدوا التطور الفضائي المرعب في بابل التي وصفها بنو زمانها بقلب العالم وجنته. ملك دير السلام الجديد صدقيا (عذراً ولكن يهوذا تعد تنصيب ملك جديد كشرب شاي بعد الظهيرة) قرر سجن النبي ارميا ويُقال انه كان قريباً من قتله بتهمة الخيانة ولكن وصل نبوخذنصر المدينة عام 586 ليحرقها عن بكرة ابيها. بعدها سبيت نساء بيت المقدس وعلق الامراء من أيديهم امام الحصون ليكونوا عبرة ليهوذا وتحذيراً لاتخاذ ملك جديد وبداية مقاومة كما في السابق. هذا والنبي ارميا لا يزال محبوساً بسجن الهيكل يصف المجاعة وصورة الموت التي وصلت لها دير السلام بعد قيام بابل وحصارها المدينة. والان قد تقولون ماذا عن صدقيا الملك؟
هو حاول الهروب ولكن الجيش البابلي امسك به وجلبه لنبوخذنصر حتى يسمع الحكم عليه. كان الحكم بقتل أولاده امام عينيه ثم اقتلعوا عينيه تلك واخذوه حياً لبابل.. بعدها وصل الحرس لارميا وسلموه لاحد الجنرالات حتى يُرحل مع عشرين الف يهودي لبابل. وبعد ذلك بشهر امر نبوخذنصر بمحي ما بقي من دير السلام بما في ذلك الحصون والجدران والقصور وجميع المنازل. ثم قاموا بهدم الهيكل واخذ جميع ما بقي من ذهب وفضة (بالله هل بقي ذهب وفضة بعد كل الدفع الذي صنعه ملوك يهوذا لتجنب الحروب). يجدر الذكر ان تابوت العهد اختفى للابد بعد تلك الحملة التي لم تبقي على ارض صهيون غير الاسم وحطام المعبد ودماء الكهنة.
ومع ان دمار دير السلام كان دماراً لممالك إسرائيل، ولكن اليهود لا يزالون موجودين! فهم في ارض بابل الان محتفظين بالكثير من تعاليم التوراة واخلاقيات اليهود حتى انهم صاروا أكثر اتباعاً لها طمعاً في الرحمة واعادتهم لأرض داوود دير السلام.
السبي البابلي جعل من البابليين وحوشاً في نظر قبائل يهوذا وبيانهم يقول ان نبوخذ نصر قد صار مجنوناً اخر حياته يأكل الحشائش كقطيع الغنم. غير هذا فابنه كان واهناً بعيداً كل البعد عن الحكمة حتى ان اباه وضعه في السجن رفقة يهويا كين (احد ملوك يهوذا). باقي ملوك بابل كانوا محبين للبذخ حتى ان الملك بلشزار اقام حفلاً بغنيمة جده التي اخذها من يهوذا ويُقال انه وجد نقشاً على الجدار بعد ذلك يقول:
MENE MENE TEKEL UPHARSIN
وهي جملة آرامية تعني بزوال حكم بابل وتتنبأ بان أيام بقائهم معدودة!
______
والغضب الساطع آتن!
ما فرغت بابل من باقي الممالك حتى ظهر لها كورش العظيم الذي وضع مملكة مبنيةً على وحدة بعض ممالك ليديا (غرب تركيا حالياً) ليكون بذلك اول ملوك فارس. كورش دخل مدينة نبوخذنصر في ليلة وضحاها حتى يصير ملك العالم الجديد ويرث بذلك كل ما بنته حضارة بابل (التي ملكت ارث آشور بدورها). ومن بين بين جميع ما ورثه كورش, لدينا محبوبة الجماهير دير السلام!
كورش كان عسكرياً وقيادياً فذاً ولكنه لم يسلك طريق الاشوريين والبابليين في الترهيب وكبح الأصوات العالية بالتهجير والقمع. هو جاء من باب التسامح الفكري والديني هادفاً بذلك انشاء أكبر امبراطورية عرفتها الأرض. لم يقم كورش بالعفو عن اسرى قبائل يهوذا فحسب بل قرر فتح باب الرجوع لأرضهم واخبرهم بان الاله الذي مكنه من كل تلك الممالك يستحق ان يبني له معبداً في دير السلام. وهنا تحصل الصدمة عن بني إسرائيل! هذا الرجل اعطاهم حقوق مواطن كاملة في المملكة وحرية العودة لأرضهم وهذا في غاية الإنسانية ولكن ان يعيد بناء الهيكل!! ولذا نرى بعض بني يهوذا من ذلك الوقت يرى كورش هو المسيح الموعود في التوراة وهو مخلص شعب إسرائيل المذكور فيها.
يجدر القول هنا ان الكثير من اليهود قرر البقاء في بابل وعدم العودة لدير السلام وذاك لهيكلة المدينة الاقتصادية العالية التي جعلت الكثير من العائلات اليهودية تعيش حالة غير مسبوقة من الثراء والترف. بقاء العائلات اليهودية شيء نلاحظه حتى في التاريخ الحديث حيث كان الكثير من اليهود يعيشون في العراق وإيران قبل تأسيس دولة إسرائيل وهم مثلوا نسبة كبيرة نسبياً من اكبر المدن حتى نهاية العصر العباسي وغزو المغول وبقي العراق وايران عاصمتان لقيادة "مملكة" يهوذا حتى نهاية العصر الذهبي للإسلام. ويجدر القول ان الكثير من المصادر تبين ان ثلث سكان بغداد كانوا يهوداً سنة 1885 للميلاد! والان لم يبق غير خمس وعشرين يهودياً في إيران واقل من خمسين يهودياً في العراق (لا تسألني كيف حسبوا الخمسين هؤلاء)..
وبعد تسع سنين من نهاية السبي البابلي، مات كورش العظيم في احدى معاركه في وسط اسيا حتى يخلده التاريخ حامياً لليهود معيداً لهيبتهم وقاضيا على الظلم الذي نشرته آشور وبابل. مات وماتت معه حماية دير السلام وهي في أمَسِ الحاجة للدعم وإعادة البناء. ولكن بقيت امبراطورية فارس تحت قيادة حكام يتبعون طريقة كورش في التعامل مع دير السلام على الأقل لذا استمرت عملية بناء الهيكل حتى تم انهاؤه سنة 515 ليقام بذلك اول احتفال منذ السبي البابلي. يُقال ان كبار اليهود ممن شهدوا هيكل سليمان قاموا بالبكاء عند رؤية الهيكل الذي بنته فارس حيث لم يكن يُقارن بما وضعه سليمان من هيبة في هيكله الذي لم يعد له وجود بعدما دكه جيش بابل.
وبحلول العام 336 قبل الميلاد, ظهر الكسندر المقدوني على الساحة ليحاصر الملك الفارسي داريوس الثاني لحدود الإمبراطورية الشرقية. بعدها غير وجهته لمصر حتى دخل دير السلام وطلب منهم (او بشكل اصح, "امرهم") ان يشاركوا في حملته ولم يكن عند اهل دير السلام غير الزهور والترحيب الحار للصاعد مدمر الدول. حتى ان بعض مؤرخي اليهود يؤكد ان اليهود استقبلوا الكسندر بأجمل ترحيب وكأنه كورش الفارسي وهو ايضاً مشى على طريق الأخير حتى انه ذبح اضحية لإله بني إسرائيل.
بعد وصوله لأراضي مصر, انشأ الاسكندر مدينة الإسكندرية وعاد شرقاً ليقضي على فارس ويتجه بعد ذلك لأفغانستان طامحاً لحكم العالم اجمع وتوحيده تحت قيادة مقدونيا. الكسندر لم يكن بالحاكم المتجبر ومحب سفك الدماء, ولكن بحكم طريقة عمل العالم آن ذاك فالحرب شيء لا بديل له لحلم توحيد العالم..
وبعد فتح العالم تقريباً, رجع لبابل ليموت فيها لسبب غير مؤكد. وقبل مماته سأله الناس لمن ترك مملكته فأجاب: "للأقوى فيكم".
دير السلام كانت مدينةً شبه مستقلة خلال عهد ألكسندر ومن خلفه حتى ان يهوذا صكت عملتها الخاصة بنقش "يهود" واضعةً بذلك مدينةً لإله موسى محكومةً بيد حفظة المعبد ورجال الدين. المدينة كانت بعيدةً نسبياً عن النظام الاقطاعي لكن الاسر النبيلة والارستقراطيين كانوا موجودين وينافسون بثرائهم كبار رجال الدين وحفظة المعبد. قدرة اليهود الاقتصادية بدأت ترتفع بد سيطرتهم على أصول تجارية عالية الربح وقليلة المخاطر بين بابل ودير السلام حتى ان أيديهم كانت في اغلب المزايدات والأسواق السوداء. كل هذا راجع لتعرفهم ومحافظتهم على مختلف الأفكار والثقافات حتى بعد رجوع استقلالية دير السلام..
وفي عام 223, ظهر انطيوخوس الثالث (تباً لهذه الأسماء التي لا تُكتب) الملك المقدوني ليقتل مجد الكسندر تجاه الشرق حتى وصل الهند وشن حملات كثيرة على فلسطين لتحصيل دير السلام. وبعد عشرين سنة تقريباً, اثبت انطيوخوس جدارته بهزيمة المصريين ورحبت دير السلام بالإمبراطور الجديد. ذاك الرجل لم يكن كباقي الملوك, جيشه كان نقطة القوة عنده حيث جمع خيرة المشاة الكرد والرماة الفارسيين مع الفيلة والاحصنة ليري جيوش مصر العجائب! اعلم الملك الناس بنيته في اصلاح المعبد والاسوار بعد فتحه العظيم وأعطى اليهود حقهم في تولي امورهم وحكم مدينتهم. غير هذا فهو اعطاهم كل الاحترام من ناحية الشعائر الدينية والحدود الابراهيمية التي سنتها التوراة لهم.
الحياة في دير السلام صارت ثيوقراطية متعصبة للتوراة وحفظ يوم السبت. احترام اللباس الديني والشعائر الصحيحة كانت شيئاً لابد منه وغير ذلك عقوبته الموت. الزُناة كانوا يُرمون بالحجارة من جميع اهل المدينة، تارك الشعائر الدينية قد يُحرق، رجال الدين يرمون الناس من فوق التلة عقاباً على بعض الكبائر الأخرى وغيرها من أنواع العقوبات الشائعة في ذلك الوقت..
المعبد كان قلب الحياة اليهودية وفريضة الحج جعلت الألوف يتوافدون (وبالأخص من اهل بابل وفارس) حتى يصلون فيه ويضحون بالمواشي تقرباً ليهوه. ولكن هذا لا يعني ان الحياة كانت كلها دينية محضة.. فالناس كانوا يحتفلون خارج بيبان المعبد, يرقصون حاملين بأيديهم شُعلاً ليُنيروا دير السلام. غير هذا فلدينا الطبقة الراقية من دير السلام والتي كانت اشبه بأرستقراطية اليونان وبعيدة كل البعد عن باقي الشعب. هنا صار لدينا المجتمع المذكور ادناه:
اهل المال يتشبهون بالإغريق ويأخذون أسمائهم بغية الحداثة وكسب الرقي. رجال الدين كالسيف في بطون الشعب يقتلون من أرادوا وحكمهم حكم الله. باقي الشعب "غلبان حفظه الله" ويقنع نفسه بالهيكل الذي بناه كورش والعملة التي كُتب عليها "يهود".
بعد مقتل الملك ذو الاسم الغريب ذاك، صار على يهود الإسكندرية وبابل ان يدفعوا مالاً سنوياً للمعبد حتى كثرت قطع الذهب فيه وبدأت بجذب انظار ملوك مقدونيا الذين كانوا يعانون من شح الموارد بعد حروبهم مع فارس وغيرهم من الممالك الصغيرة في الشرق. يجدر البلاغ هنا ان التاريخ يكره ابن سينا لدرجة انه قرر جعل اسم ملك المنطقة الجديد انطيوخوس الرابع (مثل اسم ابيه حرقهم الله). الملك هذا معجب بنفسه للغاية ووصلت فيه قصص الجنون لمراحل طويلة (اترك لكم البحث فيها). أحد المؤرخين يذكر انه كان يلبس اللباس الفاخر ويمشي بين الناس حتى اذا نظروا له رماهم بالحجارة. وكان يستحم في أماكن عامة ويحب ان يرى بعض الجثث امامه اثناء ذلك.. نعم درجة امتياز في الجنون!!
عموماً, ذاك الرجل قرر ان يعيد مجد ابيه ويرجع الأراضي التي اخذتها باقي الممالك فقرر بدأ حملة لكسر الوتد المصري مرة اخيرة حتى يسيطر على الجانب الشرقي من البحر الأبيض ويركز بعدها على باقي الممالك. وفي طريقه لمصر, ثارت دير السلام كارهة لحكمه ورافضة لطريقته. ويا ويل دير السلام من الملك المجنون..
رجع لدير السلام واحكم سيطرة كلية عليها حتى وصل المعبد. بعدها امر كبار الكهنة ان يذبحوا ذبائحهم لوجهه حتى يُثبتوا ولائهم. بالطبع رفض رجال الدين وحظة المعبد عرض المجنون فقرر ان ينهي الوجود اليهودي ويقضي على الروح الثورية في دير السلام. وفي سنة 167 يوم السبت, دخل من لا يُسمى دير السلام وذبح الآلاف من سكانها ودمر جدران المدينة ليضع بهدها معابده الخاصة ويعطي وصاية المدينة لاحد القادة اليونانيين. منع انطيوخوس الذبائح وكل خدمة لمعابد اليهود وهدم أي قيمة للسبت, وبعد ذلك امر بإراقة دم الخنزير دخل الهيكل. ليس ذلك فحسب, هو احل كل شيء ووضع جميع رياضات اليونان (التي لم تحوي مفهوم الملبس في قاموسها). لم يلبث اهل دير السلام حتى ثاروا يبكون على ما حصل في ارض ربهم التي ملأها الوثنيون بكل محرم حتى دخلت الكبائر داخل هيكل الرب.. للأسف, اخمد الملك تلك الثورات بلمح البصر وصار اهل دير السلام يعتادون على حالهم حتى فضل بعضهم بذخ اليونان وأصبحت ترى رجال الدين يمشون امام المعبد بعد الصلاة ليشاهدوا العاب اليونان في ملاعبهم. من كان يقاوم النظام الحالي او يفكر حتى بترك العمل يوم السبت فعقوبته الحرق او الصلب (هذه جديدة من ارض اليونان). يذكر المؤرخون كيف مات الكثير من اليهود لرفضهم اكل الخنزير, وكيف رمى حراس المعبد اليونان النساء من فوق جدران المعبد لتطهيرهم أولادهم الذكور. وصلت الحال لقتل كل من يحمل التوراة او اجباره على تمزيقها امام الناس ثم قتله.. ولكن يبقى دين موسى حياً في قلوب البعض حتى خرجت روحٌ عجيبة بين الشعب جعلت الكثير من سكان دير السلام يفضلون الموت على تدنيس توراة موسى التي لم يقارنوها بحياتهم. وبدأت الثورات بالحراك ولكن انطيوخوس لم يأخذهم على محمل الجد وقرر الرجوع لانطاكية للاحتفال بنصره العظيم وترويضه لعبدة يهوه.. ويا له من احتفال ذاك الذي قام به في انطاكية!
بعيداً عن احتفال المجنون ذاك, ظهر رجل في دير السلام اسمه متتيا يؤمر بالتضحية لوجه الملك انطيوخوس ليثبت تركه لليهودية واخلاصه للملك الجديد. فرد عليهم متتيا: "لو تبعت جميع ممالك الأرض ملككم, فلن امشي واولادي الا على دين آبائنا" فتقدم رجل ليذبح القربان بدلاً عنه فثارت أعصاب متتيا ليخرج سيفه ويقتل اليهودي الذي تقدمه ثم الجنرال الانطاكي.. خرج متتيا بعد ذلك ليصيح بالناس ويقول: "من حفظ منكم العهد فليتبعني" فخرج هو وابنائه الخمسة وبعض اليهود ممن ثار ضد الملك. ومع انهم دخلوا حرباً مع الجند الانطاكي ولكنهم ابقوا بحفظ السبت حتى مات متتيا تاركاً الراية لابنه يهوذا الذي قاد ثورة هدت الجيش الانطاكي حتى سماه اهل دير السلام بيهوذا المطرقة. في البداية لم يعر انطيوخوس الثوار أي اهتمام وقرر توجيه اهتمامه تجاه العراق وفارس وارسل المزيد من الجند لسحق الثوار في دير السلام. ولكن يهوذا هزمهم ايضاً حتى احس الملك المجنون بالخطر وقرر ان يرجع لدير السلام ليدير المدينة التي حررها يهوذا ذاك حتى ان اليهود فيها رجعوا لتناول لحومهم وتقرير شرائعهم. وفي طريقه لدير السلام اصابته نوبة صرع وسقط ميتاً من عربته (ندعو من الله ان لا يرجع اسمه في كتب التاريخ مرة ثانية).
وفي شتاء عام 164 قبل الميلاد, فتح يهوذا كل يهودا ودير السلام وأعاد جميع الشعائر والذبائح امام الهيكل. واليهود يحتفلون بتحرير دير السلام ذاك حتى يومنا هذا بما يسمونه بال حانوكا او عيد الانوار.. يهوذا لم يكتفي بتحرير دير السلام واراضي يهودا بل قاد حملة فتوحات تجاه الأردن لتحرير اليهود من سلطان اليونان وجبروته. ومع ان حملته كانت ناجحة نسبياً الا ان دولة السلوقيين لم تسكت ليهوذا واخذت دير السلام في يومين. وضع جنرال السلوقيين تهديداً بحرق دير السلام اذا لم يسلم يهوذا واعوانه انفسهم. بعدها خرج يهوذا طالباً النجدة من روما (رحبوا باللاعب الجديد) وبما ان روما عدوة اليونان قرروا الاعتراف بالحكم الذاتي لدير السلام. ويرجع لك المطرقة والرومان بظهره ليستعيد دير السلام ويقطع رأس الجنرال السلوقي ويداه وعلقهم فوق الهيكل لتأكل منهم الطير ويكون ذلك عبرة لكل من يحاول تهديد مدينة الرب بعد ذلك..
ولعلي اقف هنا لان قصة "جاء ملك واخذ دير السلام ليعيدها بعد ذلك رجل مغوار" قد تكون صارت مملة عند البعض وأريد ان أوضح لما لم اترك بعض هذه القصص واخترت ان ادخل في أعماق اغلب الاحداث. المشكلة هي انك عندما تغطي التاريخ تعرف الناس بشيء قد جهلوه عن ماضيهم وترك بعض الاحداث لن يقتلك لو تكلمنا عن تعريف عربي ببعض من تاريخ اليابان او استراليا. ولكن اذا تكلمنا عن الهند لاهل الهند فلن اقدر على ان اجتاز أي شيء فيُقال ترك الحدث هذا لرسوخه على الجانب هذا او ذاك. فأتمنى من القارء ان يصبر على بعض الاحداث التي قد لا تبدوا ممتعة للبعض (واعدكم ستنتهي هذه الرتابة بميلاد ابن مريم!)
حسناً, اين كنا.. نعم, المقاومة التي قادها يهوذا استكملها اخاه جوناثان الذي خرج فجأة من الصحراء ليقاتل السلوقيين ويفتح الكثير والكثير من المدن من بينها غزة وبعض مناطق مصر (بمساعدة ملك مصر بطلميوس) وحتى الكثير من أراضي سوريا ولبنان حالياً. والاسرة المناضلة لم تنتهي بعد, فمن بين الاخوة سيمون الذي حصن دير السلام وقاد جيشه حتى ازاح القوات اليونانية عن المنطقة كلياً. المشكلة ان جوناثان كان قد سقط تحت يد اليونانيين اسيراً ذلك الوقت وقرروا بعد هزيمة سيمون لهم ان ينتقموا بقتل أخيه الأسير. لم يهز مقتل أخيه رمشاً له وصار اكثر عزيمةً لسحق اليونان وتحرير اليهود كلياً والا الابد فصار بطلاً بمعنى الكلمة. ولكن تباً مرة ثانية, صادف ان ذهب سيمون لعشاء مع زوج ابنته حتى يغتاله ويقتل اثنين من أولاده ومع انه حاول قتل ولده الأخير يوحنا ولكن الأخير هرب باعجوبة ووصل دير السلام ليتولى مقاليد الحكم. وعند محاولته اخضاع قتلة ابيه, قتلوا امه وباقي اخوته امام عينيه. وبالطبع جاء بعدها السلوقيين وملكهم الجديد ليستولوا على دير السلام ويأخذوا فلسطين ولا كان شيئاً قد حدث. وبحكم سيطرة اليونان مرة أخرى, أجبر يوحنا بالخروج باليهود لمحاربة الممالك في العراق وفارس إضافة الى المملكة الفرثية. يوحنا قرر التعاون مع ملك الفرثيين (بحكم تواجد بعض اليهود في مملكته) حتى قُتل ملك اليونانيين في الحرب وعاد يوحنا لدير السلام ليعلن استقلالها مرة ثانية (ابن سينا لا يضحك).
واسمعوا بقية القصة, رجع يوحنا وعمر المدينة وبنا المزيد من الجدران ليقود بعدها المزيد من الحملات على نقاط واسع لم يسبق له مثيل منذ أيام داوود. وبعد موته خلفه اخوه ارسطوبولس الذي اخذ الباقي من جنوب لبنان ولكن هنا نكون وصلنا لمرحلة كان فيها ملوك إسرائيل اكثر يونانيةً من اليونان انفسهم. يا رجل انظر لاسمه فحسب! بعد فترة وجيزة خرج ارسطو ذاك ليرمي بأمه السجن ويقتل اخاه الذي احبه الشعب حتى يفرغ له الجو ويتجنب أي ثورات في دير السلام. ثم بعد ذلك أصابه الجنون ليموت خوفاً من أخيه الاخر الكسندر.
الكسندر ذاك كان عديم القلب محباً للحروب. استغل بُعد الرومان وضعف اليونان ليشن الحروب على الدول المجاورة له ويأخذ الخطوة الأولى لبناء امبراطورية يهودية خالصة. ولم يكبح ألكسندر المغرور ذاك الا النبطيين العرب الذين هزموه بعد تقدم وصل حتى مصر ليترك فتوحاته ويعود لدير السلام. وليونانية ألكسندر العنيفة استقبله اهل دير السلام أبشع استقبال وقاموا برمي الفواكه عليه اثناء دخوله فارسل لهم جيشه ليقتلوا ستة الف منهم. وبسبب الحرب الاهلية تلك، قرر السلوقيين مهاجمة دير السلام واستغلال الموقف فخرج هارباً للتلال المجاورة. وبعد تخطيط عميق، رجع غاضبا ليقتل خمسين الفاً من سكان دير السلام (لا تعليق). الكسندر قاوم الثورات وصلب 800 من الثوار بعد قتل زوجاتهم واطفالهم امام اعينهم ليموت هو ايضاً بعد ذلك مسرفاً بشرب الخمر. لكن مهلاً, هنا لدينا بعض التغيير!!
الرجل ترك زوجته لتقود دير السلام وامبراطورية اليهود التي امتدت لتغطي اغلب ما نعرفه ببلاد الشام. فكانت زوجته المسماة بسلومة اول امرأة تحكم دير السلام منذ موت ايزابيل مكروهة الجماهير. حسناً هي لم تكن حاكمة بمعنى الكلمة فهي كانت في الستينات من العمر ومن حكم كانوا بعض الجنرالات والممالك من خلف الستار ولكن أولادها كان لهم دور كبير في تاريخ دير السلام حيث حكمت اسرهم لحوالي القرن وبنوا الجدار الغربي كما هو معروف حالياً. ولكن كالعادة, صارت لدينا بعض المشاكل بين الاخوة ليتحاربوا فيما بينهم ويلجئ احدهم لملك نبطي غني اسمه الحارث فساعده على هزيمة أخيه حتى امسكوا به وحبسوه في الهيكل. ولكن دعنا من عراك الاخوة هذا ورحبوا بدخول روما المباشر اخيراً!
بحكم السياسة الرومانية, كان ميزان القوى مبني على ثالثة اشخاص آن ذاك. الأول اسمه بومبيوس وهو قيادي محنك رفع راية روما لأول مرة محارباً ممالك الشرق حتى دخيل لفلسطين وامسك بالاخ الأسير ولكنهم حرروه بعد ذلك بفترة وجيزة. بومبيس لم يرد قتل وتشريد اليهود, ولكنه أراد اثبات جدارته عن طريق فتوحات فرض السيطرة تلك. المحارب الروماني الثاني كان اسمه كراسوس وهو رجل غني عرف بعجرفته وحبه لسفك الدماء. المشكلة في ذلك الرجل انه دخل حرب الممالك مستعجلاً ومع انه دخل دير السلام ونهب أموالها الا انه سقط على يد مملكة فرثيا التي استبدلت فارس والسلوقيين (وكانت مدعومة وداعمةً لليهود بشكل عام). حسناً هنا يبقى لدينا ثالث القادة الرومان.. ومن غير القيصر!
رفع القيصر نفسه لحكم جميع روما عام 48 قبل الميلاد وذلك بعد هزيمته لبومبيوس. ومع ان بومبيوس حاول الهروب لمصر، الا ان القيصر لاحقه حتى استقبله المصريون برأس بومبيوس المخلل كترحيب منهم به. واظن هذا كافياً حتى تعرف كيف دخلت روما على الخط وللقيصر قصة تطول في مصر لعلنا نجتازها..
حسناً هنا نكون انتهينا من اغلب ما قبل التاريخ! وبعد مولد ابن مريم تتعقد الأمور!
بشكل عام, عيسى استمر في نشر رسالته هو وانصاره الاثني عشر. وكان يذهب بين فترة والأخرى لدير السلام حتى يبلغ الناس بالرسالة ويأمرهم بان يتوبوا لان وقت الحساب قد اقترب وكان عيسى يرمز لكل ذلك بمملكة السماء حسب وثائق بني إسرائيل. وكلما كان يأتي دير السلام كان يُقابل بمحبين له يسمونه بالمسيح الموعود وبعضهم كان يقول انه نبي جديد جاء لبني إسرائيل. ولكن هذا لا يعني ان اليهود احبوه وجعلوه نبياً عليهم, بل العكس! اغلب اليهود كان يحارب أفكاره ويرجمونه متى ما رأوه فكيف لهذا الصبي ان يجادل كبار قومه ورجال الدين الذين حفظوا الهيكل لسنين ويحاول نصحهم كذلك!
اتهموه بالكذب ثم جاءت عليه اتهامات الجنون والشرك بعد ان قال بانه هو والأب واحد.. كل هذه احداث تكلمت عنها كل كتب التاريخ لتصور عيسى بصورة محب الدين الثوري الذي اراد ان يستحدث اليهودية ويجعلها اكثر تطوراً وتماشياً مع العالم.. وهذه النظرة البعدية عن الايمان شيء طبيعي ليس على القارئ ان يستغربه عند دراسة التاريخ! فاغلب كتب التاريخ لن تقول لك بان عيسى ولد بمعجزة وعمل كذا وكذا, واغلب كتب التاريخ لن تجعل من عيسى نبي كذبه قومه.. في النهاية يتم أخذ كل شيء بشكل سطحي ويتم عكسه كما هو ولك التقدير..
وبعد ان المملكة الفرثية بأخبار تدبير مؤامرة لعيسى قررت إبلاغه ان الرومان على عجلة ليقتلوه تعوناً مع كبار دير السلام خوفاً على مكانتهم من تعاليمه التي صارت تجذب الناس حوله. ولكن عيسى لم يكترث ووصف مدبري الكمائن بالثعالب وباشر تبليغ رسالته حتى كان يخطب في الناس يومين ويأخذ الثاني زيارةً لدير السلام حبيبة قلبه التي تعلق بها منذ صغره. وفي سنة 33 بعد الميلاد صادف وصول عيسى لدير السلام وصول أنتيباس الوالي على منطقة شرق الأردن ونفسه الذي امر بقتل يحيى. ارسل عيسى حوارييه للمدينة ليجلبوا له حماراً "من تلك التي يُرفع عليها الملوك". وتبلغ كتب التاريخ ان الحواريين أعطوا قصصاً مختلفةً نسبياً عما حصل في الأيام الثلاث القادمة. فعند دخول المسيح عيسى لدير السلام رحب به أصحابه قائلين "مرحباً بابن داوود ملك إسرائيل" وعند وصوله الهيكل قال "اهدموه فأبني واحداً لم يُصنع بأيدي بشر" ثم قال بعدها بانه سيعيد بناء الهيكل بثلاثة أيام فكان تفسير هذا القول عند النصارى انه قصد الخراب والدمار الأخلاقي الذي حصل في دير السلام وهذا يتم إصلاحه برسالته وحدها. وبمرور اليوم, يروي المؤرخين ان عيسى كان يعلم الناس ويداوي مرضاهم شمال الهيكل وكانت هذه الأماكن مليئة بالحجاج المغتسلين حتى يدخلوا المعبد بطهارة. وبعد ذلك كان يرجع لأصحابه يكلمهم ليلاً..
يُقال انه كان ايضاً يناظر منتقديه وخصوصاً أرستقراطي الهيكل الذين عضوا على دين آبائهم بالنواجد ورفضوا الاعتراف بان عيسى هو المسيح الموعود في كتبهم. هذا وابن مريم لم يقل انه هو المسيح وكل كلامه كان بتركيز على الصلاة لله وحده ومحبة الناس فكان مع اليهود في غالب الامر ان لم يكن كله الا دمار المجتمع الذي كان فيهم والشكر لتبادل الثقافات على مر القرون الماضية. وفي احدى زياراته السرية لدير السلام سمع ان أحد الحواريين قد باعه بثلاثين قطة من الفضة، ولكنه تجاهل الامر واستمر في مسيره داخل المدينة. وبعد حلول الليل حاصره الرومان واعانهم على تبيين مكانه بين الناس الحواري الذي باعه ليشهر باقي الحواريين سيوفهم ويحاولوا تخليص عيسى وفتح طريق له حتى يهرب.. ولكن امسك الرومان بابن مريم وهرب باقي الحواريين بمختلف الاتجاهات حتى لا يُمسكون الا اثنين منهم بقوا تابعين لعيسى بالسر حتى يحرروه في أقرب فرصة من الجند الرومان. وفي منتصف الليل جاء الكاهن حتى يستجوب عيسى ويقرأ عليه العقوبة فلم يجب عيسى على أي من اسئلتهم بخصوص المسيح والهيكل، ولكنه قال بأنهم سيرون ابن آدم جالساً على مقاليد الحكم محمولاً بسُحب السماء" ليهتف الناس بعد ذلك بان يُقتل..
امسك الرومان بيسوع وشددوا عليه الحراسة حتى يمنعوا أي تدخل من اليهود الثوار أنصاره. بشكل عام، اليهود كانوا كارهين لعيسى ولكن اين يكن فهو يهودي في نهاية الامر ومن دم داوود فتقبلهم له اعظم من تقبلهم الرومان الوثنيين. ولكن لن ينفع في ذلك الوقت نداء ضعفاء الشعب عند حضور كبيرهم.
عند اسر عيسى يخبر التاريخ بأن كبار الرومان استجوبوه وسألوه ان يبين لهم معجزات ودلائل نبوته ويحيي لهم الميت فيؤمنون به. ولكن ابن مريم ظل ساكناً لا ينطق. سأله أحد الرجال "انت ملك بني إسرائيل؟" فأجابه عيسى "هذا كلامكم". حتى الان اختلف التاريخ في الجهة التي طالبت بقتل عيسى فتقول غالبية النصوص ان العملية كنت رومانية التخطيط، ولكن الفكرة جاءت من سادة اليهود. ولكن البعض الاخر يقول ان الفكرة كانت هي ايضاً رومانية وعداوة اليهود المبالغة لعيسى كانت كذبة وضعوها لبداية حرب أهلية. عموماً تم تعليق يسوع على الصليب ومرفق معه رباط كتب عليه "ملك اليهود". كثرت الاخبار في احداث يسوع وهو مصلوب حتى ان البعض قال بيبوس شفتاه من الحر والعطش لتقبل عليه نساء المدينة ويحملوا له اسفنجة كلها ماء لتعينه وتصبره. وفي صباح يوم الاحد (بعد ثلاثة أيام من صلبه) قال الرومان انه مات وتأكدوا من ذك بعد وخز جانبه بالرمح ليقبل عليه جميع اتباعه وأهله ويقوموا بوضعه في التابوت كما تقتضي الأعراف اليهودية. وهنا يبدأ التشويق! بعد دفنه قدم عليه بعض تابعيه وأمه حتى يزوروه ليجدوا باب التابوت مفتوحاً ورجُلين يقفان خلفهم يقولان: "لما تبحثون عن الاحياء بين الأموات؟"
ومع ان هذه كلها اقوال جاءت من تابعيه الا ان الكثير قالوا ان المسيح بنفسه قد جاء عليهم ليبين لهم انه لم يمت وان ليس عليهم ان يخافوا. وحتى من كذبوا عودة المسيح قالوا انه جاءهم بعد ذلك وبين لهم الجروح على بدنه ليثبت انه هو نفس عيسى لذي "صلبته" روما. بعض المؤرخين يقول ان أصحابه اخرجوه ودفنوه في مكان اخر ثم ابتدعوا كل هذا للتغطية على الامر. البعض يقول انه من الممكن ان المسيح لم يمت من الصلب اساساً ويا كثير القصص عن أناس وضعوا في التوابيت وهم احياء في الحقيقة.
وفي النهاية حتى لا ندخل أكثر في أمور المسيحية نقول بان هذه كانت خاتمة احداث المسيح (والذي لم تعترف به اغلب يهوذا بالمسيح حتى يومنا هذا) وقصة ابن مريم في بني إسرائيل وكل ما فيها من قيمة ممكنة لتاريخ دير السلام. والقادم من تاريخ تلك المدينة يخرج بنا من منظور دين إبراهيم حتى نرى دير السلام تُقاد بأيدي الوثنية التي كانت لها حصة ليست بهينة من تاريخ تلك الأرض (بغض النظر عن ممالك بني إسرائيل قبل المسيح والتي كانت اشبه باليونان او روما منها لدولة سامية).
يتبع..
التعديل الأخير: