hits counter

مِيزَانُ الأُمَمِ| في تأريخ دير السلام

Avicenna

φιλόσοφος
RXsOkPg.png


بسم العليم الحكيم، والصلاة والسلام على رسوله العربي محمد،

الكتابة في تاريخ الصين الاقتصادي كان من المشاريع الكبيرة من الناحية البحثية حيث اخذ منا ما يقارب النصف عام وكاد يأخذ اضعاف تلك الفترة لو أردنا التعمق في مجمل الجانب الاقتصادي ومحدثاته. مع ذلك، ابن سينا لم ير التحدي في اتباع الطريقة العلمية والجانب الحيادي عند الكتابة عن دولة لا علاقة له بها. لذا قررنا بعد كتابة موضوع الصين ان نبدأ مشروعاً أصغر من الناحية الجغرافية، لكنه أكثر صعوبة لكثرة الآراء وتداخل الكذب بالحقيقة. هذه الأيام يكاد الكلام في تاريخ بيت المقدس يكون محرماً عسيراً وواضحاً في بعض الأحيان للجميع. فالمسلم العربي يرى من الأرض ملكاً لأهلها وان يهود اوروباً قاموا بسرقة الأرض، واليهودي يرى من الأرض وعداً الهياً كانت لهم بعد ان طُرِدوا مغصوبين منها. وما بين هذا وذاك تصدر الكثير من الآراء التي ترمي لجانب دون الآخر من دون محاولة فهم ودراسة تاريخ هذه الأرض بشكل كامل وبلا أي ألوان وتحويرات.

هذا الموضوع ليس بموضوع ديني، وابن سينا هنا يقوم مقام الابراهيمي الموحد لا فارق عنده بين بني إسحاق وإسماعيل. هذا الموضوع أيضاً لن يعني بالسياسة كذلك فهي كالسم لوث دراسة التاريخ والباحث فيه. قرار هذا الموضوع في أصول تأريخية حاله حال موضوع الصين والفارق ان لدى المستقبل رأي راسخ في بعض المعالم والقضايا التي تخص هذا التاريخ.

وأما نحن، فنكون من المبحرين فيه والمدركين لمصاعبه ومستدركاته وكأننا رأينا كل العقبات لطريق السائل. لذا سهُل علينا التفهم لما قالوه اول ما اشتغلنا به وكأنَ الزمان الذي اشتغلنا فيه بذلك ريعان الحداثة. فوجدنا في هذه العلوم من توفيق الله ما قصَّر علينا بسببه مدة التفطن لما أورثوه، ثم قابلنا جميع ذلك بالنمط من العلم الذي سميناه بالتأريخ، فوقفنا على ما تقابل وعلى ما عصى، وطلبنا لكل شيء وجهة، فحق ما حق، وزاف ما زاف.
ولعلنا أردنا التمكن من نشر العلم وهذا عسير على ما وُجدنا فيه وعليه. فنحن من الباحثين ومريدي العلم ولسنا من طارحيه والكاتبين فيه. فلو كنا من الأخيرين لكتبنا فيه الكتاب واخذنا بيد الناس نعلمهم. انما نحن على قدر نفوسنا تكون فينا كفاية العلم ما شاء الله لها ان تكون حتى نطمع بالمزيد ونستمر بالبحث. وقد يكون في كلامي القليل (بل الكثير) من النزعة الابن سينائية فهيهات ان نكون محفوظين من الرأي فنحن مستقبلين قبل ان نكون كتاباً وبحكم اصلنا عند العرب وتربيتنا في بيوت الإسلام فلن يكون بمقدورنا اقناع الكاتب بحقيقة الجانب الحيادي حتى يرى هو بنفسه ويطلع على ما كتبناه فيكون هو الحاكم بذلك..

وما جمعنا هذا الكتاب لنظهره إلا للذين يقومون منا مقام أنفسنا، وأما المريدين لمستدركات تأريخ بعيد الدول فقد اعطيناهم ما هو كثير في تاريخ الصين ومحدثات تطورها الاقتصادي. ولهم الوفير من القادم فيما قد نذكر ما يصلح لهم زيادة ما أخذوه، وعلى كل حال فاستعانة بالله وحده.

---------------------------------------------------
Yx7nWmm.png

بداية قصة بيت المقدس تكون دُوِنت من قبل اليهود وذلك بعد فتح داوود ابن إيشا لحصن صهيون في مدينة القدس عند العرب او دير السلام مثلما نُقلت التسمية على لسان اليهود. في ذلك الوقت، كانت المدينة مجرد معقل جبلي في ارض حصلت على أسماء عديدة على مر التاريخ, مثل ارض كنعان, إسرائيل, فلسطين, ارض الميعاد, الخ.. يحيط بالمدينة الجانب الجنوب شرقي من البحر الأبيض المتوسط من الغرب ونهر الأردن من الشرق. موقع المدينة كان استراتيجياً جداً في ذلك الوقت وانحسار المنطقة وعزلتها عن باقي البلاد أعطاها لقب الحصن المنيع وحماها من هجمات قراصنة البحر وممالك مصر.

يقول المؤرخ سايمون سيباغ ان الصورة الرومانتيكية لمدينة داوود كانت بعيدة عن واقع المدينة المعتمد تاريخيا. حيث اشارت الدلائل التاريخية من باقيا قطع الفخار، والمنحوتات، وحتى التاريخ المدون في الكتاب المقدس على ان تاريخ المدينة ملوث بقرون من فترات فارغة لا علم لنا بها ولا فكرة لدينا عما حدث فيها. على العموم، الثابت مما وصل الينا من تلك الفترة هو ان المدينة كانت في عز قوامها وامنها أيام داوود حتى عُدت شبه منيعة لاي تدخل خارجي.

دير السلام تلك كانت شبه غير موجودة في بدايات العصر البرونزي، بينما كانت ممالك مصر وام المدن "اوروك" (العراق حديثاً) في قمة الازدهار. ولكن لعلي اشير لها باسم دير السلام لتواجد الاسم اورسالم الذي صار اورشليم (والتي قد تعني ايضاً "مملكة إله نجم المغيب") على بعض منقوشات الفخار من مصر القديمة. في نهايات الحقبة البرونزية، أسس الكنعانيون من دير السلام مساكن لهم وجعلوا من المدينة حصناً منيعاً بتأمينهم لمصادر المياه عن طريق ممرات تحت الأرض وتحويطهم المدينة بجدار بقطر سبعة أمتار تقريباً مستخدمين بذلك اطناناً من الحجارة. يرجح المؤرخون على ان المنطقة كانت تُستخدم للاحتفال بالربيع..


فراعنة مصر أرادوا حكم كنعان أكثر من مرة، ولكن التاريخ لم يثبت قيامهم بهذا من عدمه. كل ما وصلنا له هو بغض حكام مصر الشديد لكنعان والذي فسره المؤرخون لوجود نقوش مكسورة ترمز للمدينة وحضارة كنعان. وهنا يجدر التنبيه على ان المصريين القدماء كانوا يؤمنون بلعنة صاحب الاسم المكسور لذلك هم كانوا يكتبون "أسماء" اعدائهم على الفخار ويكسرونه لتفعيل اللعنة.

بحكم التاريخ وكيفية سيره، سيطرة المصريين على القدس كانت مسألة وقت فحسب. ففي سنة 1458 قبل الميلاد، اجتاح المصريون فلسطين واحكموا سيطرتهم على اغلب الحصون في يافا وغزة. وبعد مئة سنة تقريباً، كان ملك دير السلام (عبدي هيبا) يتوسل لأخناتون (ملك مصر الحديثة) ويطلب منه على الأقل ارسال خمسين من الرماة للدفاع ان مملكته من الممالك المجاورة وقطاع الطرق.

وهذه احدى رسائل الملك لأخناتون:


رسالة خادمك عبدي هيبا. أسجد عند قدمي الملك سبع مرات وسبع مرات. أي خطأ اقترفته بحقك ياسيدي. إنهم يدينونني أمام سيدي الملك قائلين: "لقد ثار عبدي هيبا على سيده الملك". لكني أدرك أنه لا أبي ولا أمي وضعاني في مكاني هذا , إنما ذراع الملك القوية. لماذا من بين جميع الناس أقترف ذنباً ضد سيدي الملك؟ أقسم بحياة الملك أني قلت لمندوب سيدي الملك لماذا تفضل العابيرو* على الحكام . لهذا السبب أني مُدان أمام سيدي الملك, مُدان لأني أقول: "لقد ضاعت أرضي سيدي الملك". أتمنى على سيدي الملك أن يعلم بأن (إنهيامو) قد أخذ التي وضعها هنا سيدي الملك . وصرنا بلا حامية. فلعل سيدي الملك يهتم لأمر أرضه. لعل سيدي يهتم لأمر أرضه. أنا أقول: سأفد على سيدي الملك. سأزور سيدي الملك لكن الحرب ضدي قاسية وتمنعني من التوجه لسيدي أتمنى على الملك أن يستحسن رأيي ويرسل ليّ حامية لأتمكن من التوجه إلى سيدي وزيارته. أقسم بحياة سيدي الملك. كلما جاء مندوبو الملك كنت أقول لهم : لقد ضاعت أرضي سيدي الملك لكنهم ما أصغوا ليّ. لقد ضاع الحكام ولم يبقى لسيدي الملك حاكم موالٍ واحد. لعل الملك يعير مسألة الجنود الرماة اهتمامه ويرسل إلينا عدد منهم لم يبق ثمة أرض للملك. فلقد سلبها العبيرو كلها. إذا جاءنا الجنود الرماة في هذا العام فإننا سنحفظ أراضي سيدي الملك . وإلا فإن الأرض سوف تضيع.

*يجدر النظر في لفظ "عابيرو" حيث رمز هذا الاسم تاريخياً لقطاع الطرق والقبائل البدوية المحبة للحروب واخذ العبيد. لم يتفق المؤرخون على أصل تلك القبائل ولم يتفقهوا على علاقة هذا الاسم بالعبرانيين ولعلها مجرد صدفة انهم امتلكوا نفس الاسم كون لفظ عابيرو كان مستخدماً في جميع انحاء الشرق الأوسط واستخدمه البابليون كرمز للتشرد والبدوية. في حين ان كلمة "عبري" ترجح لعبور نهر الفرات عند بعض المصادر.

بعد الدراما العظيمة الموجودة في رسائل عبدي هيبا, تنقطع اخبار القدس حتى نصل لمملكة كلها قلاع بنيت على يد الكنعانيين وأرض القلاع تلك تسمى صهيون وكانت جزئاً من المناطق التي احكم داوود عليها السيطرة لاحقاً في بدايات القرن الثالث عشر قبل الميلاد. في هذه الفترة, منطقة البحر المتوسط تمر في تغيرات عنيفة اثر قدوم "أناس البحر" من بحر ايجة على شكل هجرات جماعية وحركات سلب بحرية هزت كيان مملكة مصر. وفي تلك الفترة تحديداً ظهر "العبرانيون" لأول مرة على المسرح التاريخي. يجدر التنويه ايضاً على ظهور الفلستيون وهم الأقوام ألتي جائت من البحر بعد سقوط اليونان وممالك ايجة.. أيضاً لاحظوا تشابه الاسم مع فلسطين والاخير استخدم لاحقاً من قبل اليونان (بعض المؤرخين يقول بعلاقة الفلستين مع الكنعانيين العرب وهذه خرافة, الفلستين كانوا غريبين على كنعان).. ايضاً قد نرى اصل الاسم الحديث في الآرامية وهذا يستحق موضوعاً لوحده..

خلال العصور المظلمة تلك (والتي دامت لثلاث قرون تقريباً) ظهر العبريون (جماعة غامضة من الموحدين) ليحكموا السيطرة على جزء صغير من ارض كنعان ويؤسسوا مملكتهم الخاصة. مؤسس العبريين والأب الروحي لفكرهم مذكور في سفر التكوين وهو أبرام ابن تارح وابرام هو الأصل الكلداني لاسم إبراهيم والذي يعني "الاب العالي" او "الاب الرفيع". اكد على نسبه سفر التكوين عند اليهود ونساب العرب وبعض المسلمين من أمثال عبد الله بن عباس..

هاجر إبراهيم من اور ليستوطن حبرا (الخليل اليوم) وهي الأرض التي وعدها الله إياه في كنعان حسب البيان اليهودي. رحلة إبراهيم ليست بواضحة التأريخ وفي كتب اليهود الكثير من التناقضات التي جعلت من وضع تاريخ ثابت لرحلته شيئاً مستحيلاً. تم اختبار إبراهيم بعد ذلك بذبح ابنه إسحاق (وفي هذه اختلاف، فيقول بعض مفسري المسلمين انا الابن الاكبر لإبراهيم هو إسماعيل وليس إسحاق كما زعمت اليهود).

اليهود أكملوا القصة لقولوا بان حفيد إبراهيم (يعقوب) اتخذ الحيلة لكسب ميراثه ولكنه غُفر ذنبه بعد ان "صارع" رجلاً غريباً تبين انه "الله" فيما بعد ولذا يسمونه إسرائيل (والذي يعني "الذي تصارع مع الله"). بحكم التراجم وكمية النقل والكتابة في الكتاب المقدس على مر عصور مختلفة وعلى لسان مؤلفين غير معروفين، فنوع الصراع ذاك غير معروف وكيفية فوز يعقوب وحقيقة استخدامه الحيلة في كسب ميراثه ليست بمؤكدة, ولكن اتفاق اليهود هو انه ارتكب معصية تاب عليها ومنحه الله الرحمة كفوز في صراع مع رجل غريب. ولكن محور القضية هو ان إسرائيل ولد وولدت معه قبائل إسرائيل الاثنا عشر. وبعد ما يقارب النصف قرن من الزمن, ذكر الإسرائيليون انهم كانوا عبيداً عند الفرعون في مصر حتى حررهم الأمير العبري موسى بمعجزة من الله. وبعدها انزل الله الوصايا العشر على بني إسرائيل بألواح موسى ووعدهم ارض كنعان اذا ما اخذوا بتلك الوصايا. لم يذكر العبرانيين اسم ربهم وقالوا بان الرب أجاب سؤال موسى عن اسمه ب "انا من انا" او "أَهْيَهِ أشير أَهْيَه". فلدينا الآن اله بلا اسم يرمز له الإسرائيليون ب يِهْوڤَ أو يَهْڤِ..


هنا يجدر الذكر ان بعض المؤرخين يقول بان كتب اليهود المقدسة كانت لها نسختين، نسخة كتبها اليهود عبدة رب موسى ونسخة كتبها الكنعانيون. السبب وراء ذاك الافتراض ان التكوين ظهر مرتين في سفر التكوين، قصة آدم ظهرت بشكلين وحتى الطوفان ظهر كقصتين. بل حتى قصة تغيير اسم يعقوب لإسرائيل كانت على اثنين..

يذكر ان موسى مات قبل الوصول لأرض الميعاد وان يوشع هو من قاد الإسرائيليون لكنعان وتوثق التوراة الرحلة لكنعان كأنها حرب دموية طاحنة، ولكن ادلة التاريخ لم توثق أي حرب طاحنة في كنعان تلك الفترة، ولكن هناك ادلة عن بعض القبائل المستوطنة حديثاً والموحدة لله في ارض كنعان. سكن يوشع شمال دير السلام واسس معبد ليهوه (إله موسى) ليصنع بذلك قراراً له في دير السلام. في الجانب الجنوبي يقطن اليبوسيون من اهل كنعان الساميين وهم متحالفين مع قبيلة يهوذا (أحد أبناء يعقوب واحد القبائل الاثني عشر لإسرائيل).


ZCAA2KQ.jpg

وفي هذا الوقت يخرج الفيلستيين ليهددوا كيان مملكة مصر ويجبروا رمسيس بعظمته ان يخرج ليحاربهم ويخلد التاريخ انه هزم اهل البحر أولئك. نزح الفيلستيون (القادمين من ايجة) شمال دير السلام واحتلوا سواحل كنعان ليبنوا فيها حصونهم ويؤسسوا عاصمتهم. وجود الفيلستيين كان خطراً على قبائل إسرائيل الضعيفة والتي كان عليها مقاومة عتاد وعظمة الحضارة اليونانية التي جاء بها الفيلستيين. الإسرائيليون لم يكونوا نداً لقوم كادوا يدمرون الممالك المصرية. اختار الإسرائيليون منهم قضاة ليقاوموا التهديد الفيلستيني ولكنهم تعرضوا لشر هزيمة في احدى المعارك حتى حُرق المعبد الذي شيده يوشع وخسروا تابوت العهد او السكينة. هنا قرر بنوا إسرائيل ان يتخذوا منهم ملكاً مختاراً من الله حتى ينصرهم على اهل البحر الجبابرة أولئك ويعيد لهم الملك. ومع ان القصة تطول الا ان نتيجة هذه القصة هي اختيار نبيهم (صموئيل) لرجل اسمه طالوت حتى يحارب جبابرة البحر أولئك (ويجدر الذكر انه شن بعض الحروب وحرر الكثير من الحصون بقصص بطولية خلدتها الواح مصر). المشكلة حسب سرد اليهود هو ان طالوت كان ملكاً "فيه بعض الشر في نفسه" فلم ير صموئيل الصلاح في بقائه ملكاً لبني إسرائيل. قرر النبي ان يبحث سراً عن ملك مستقبلي لبني إسرائيل ووجد ضالته في ولد عبقري من أولاد يسى من بيت لحم (من نسل يهوذا), وهكذا تم اختيار داوود حتى ينصرهم على الفيلستيين ويعيد التابوت. وتم تعيين داوود في جيش ملكهم طالوت كمقاتل جبهة امامية. والقصة هنا تطول اكثر وتتعدد فيها الحكايات ولكن هزم داوود وطالوت اهل البحر واعادوا تابوت العهد..

بسبب المشاكل الداخلية وكما يقولون "غيرة" طالوت من داوود, خرج داوود حتى سكن عند الملك الفيلستيني وهجم الفليستينيين مرة ثانية على يهوذا حتى هزموا طالوت وبنيه. يُقال ان رجلاً جاء لداوود يخبره بانه قاتل طالوت فقتل داوود ذلك المرسال وكتب قصيدة يمدح بها طالوت وابنه.. الفيلستيين أعطوا اسمهم للأرض والتي حورها الرومان فيما بعد لتصبح فلسطين المعروفة حالياً.

قبائل يهوذا الجنوبية عينوا داوود ملكاً لهم وكانت حبرا عاصمةً لهم. وقبائل إسرائيل الشمالية كانوا تحت قيادة أحد أبناء طالوت المتبقين ولكن الأخير قُتل بعد حرب دامت لسبع سنين وبفضل كاريزما داوود عينت القبائل الشمالية داوود ملكاً لهم. وهنا اتحدت مملكة يهوذا الجنوبية مع باقي قبائل إسرائيل الشمالية تحت حكم داوود!

براعة داوود في القيادة تظهر بعد دخوله لدير السلام المعروفة آن ذاك بيبوس (نسبةً لليبوسيين وهم اهل كنعان الساكنون فيها في ذلك الوقت). فتح داوود حصون صهيون وسميت مدينة صهيون بمدينة داوود!
وحتى ازيدك من حكمة داوود وقدرته على الحكم, داوود لم يقتل اليبوسيين وقرر ان يرفعهم لقرارات الحكم والجيش ويدير البلاد رفقتهم. بعدها أعاد بناء الحصون والجدران المهدمة بعد الحرب وقام باستعادة تابوت العهد وجاء به لدير السلام. اعلن داوود بذلك اسم رب موسى في ارض فلسطين وقام بتاسيس دولة حتمية دائمة بعدما وعده ربه بدوام ملكه الذي لن يزول لأبد الدهر. أختار داوود من دير السلام قلباً لمملكته التي امتدت من لبنان حالياً وحتى أراضي مصر الشمالية (مرة ثانيةً, اختيار في غاية الحكمة لتوحيد قبائل إسرائيل الشمالية). ومع ان مملكة داوود كانت عظيمة نسبياً الا انها كانت لا شيء مقارنة ببابل التي لم ترى من دير السلام غير تجمع للقبائل تحت امير يملك كاريزما تقطع الجبال. ولن يبالغ الباحث لو قال بان داوود كان السبب الأساسي وراء بقاء مملكة العبرانيين تلك.

مات داوود بعد توحيد قبائل بني إسرائيل وترك ابنه سليمان خليفةً لهم ووكل اليه مهمة بناء هيكل او معبد ليهوه. ومع ان سليمان قام بتلك المهمة على اكمل وجه, الا ان مصادر العبرانيين تقول بانه كان اقل رحمة من ابيه داوود وحكم بقبضة من حديد. اخذ بناء المعبد من سليمان سبع سنين، وبنا قصره العظيم في العقد والنصف من الزمن. وبشكل عام، ورث سليمان كاريزما اباه ووكل عظام الفينيقيين في البناء والهندسة لأنهاء هيكله وقام بالتجارة مع ممالك السودان ووصل بعلاقاته لأرض اليمن.


SDbhYwh.jpg

أيام سليمان كثرت فيها الاقاويل ولن اذكر الكثير فيها لأنها خارج الموضوع ولكنه مات بعد أربعين عاماً من حكم قبائل إسرائيل وبعدها ورثه احد بنيه. صارت مشاكل داخلية وانقسمت إسرائيل شمالية وجنوبية مرة ثانية حتى بقي حفيد داوود ليحكم قبائل يهوذا بينما حكم احد جنرالات الحرب القبائل الأخرى ووصلت المشاكل عنان السماء حتى أضاع ابن سينا خمس أيام في البحث فيها ليتركها في النهاية.

المهم هو ما حصل بعد تسع سنين من موت سليمان, حيث قرر فرعون مصر (شيشنق الأول) ان يغزوا مملكة الإسرائيليين ويدمر وحدتهم (التي لم تكن وحدة واقعية في الحقيقة). بما ان حفيد داوود كان حافظاً للمعبد ودير السلام (بحكم النسب وبموافقة القبائل الشمالية) قرر ان يدفع الغالي والثمين من كنوز ابيه سليمان حتى يدفع بشر الفرعون بعيداً عن دير السلام وارض داوود. يُقال ان كمية الذهب كانت شيئاً مهولاً حتى انها اقنعت الفرعون نفسه بالكف عن دير السلام ولكنه قرر شن حملة على المناطق الساحلية وترك خلفه نقوشاً لتخلد حملته تلك. ليس ذلك فحسب, بل بعد رجوعه من حملته الساحلية, قام بنقش قصة تدميره للسواحل الإسرائيلية على جدران معبد آمون حتى تكون هذه الواقة الأولى من الاحداث التوراتية المدعومة بشكل كامل اركيولوجياً.

وبعد خمسين سنة من المشاكل العائلية بين مملكتي إسرائيل ويهوذا، قرروا اخيراً عقد الصلح. وتلى ذلك الحدث زواج الملك السابع لإسرائيل (احاب بن عمري) من الاميرة الفينيقية ايزابيل (وما ادراك ما ايزابيل!).

*ابن سليمان الذي تكلمنا عنه كان الملك الرابع لإسرائيل ولكن لا أهمية لمن تلوه في الوقت الحالي..

نرجع لايزابيل, المشكلة في تلك المرأة هي انها كانت من عبدة الاوثان وكانت توجه زوجها للدفاع عن دين اجدادها وترك دين الإسرائيليين. ووصلت بها السيطرة على إسرائيل ان "ملك إسرائيل" قام بنفي نبي زمانهم لنقده آلهة ايزابيل. ببساطة، الزواج هذا شكل كارثة بكل معنى الكلمة لإسرائيل وكل شيء بنوه حتى الآن (كيف لا واصل دينهم وهو التوحيد قد تم هده كلياً وملكهم هو من قام بذلك!).

غير هذه المصيبة, لدينا مصيبة الاشوريين الذين خرجوا من نينوى العراق حتى يعيدوا مجدهم ويفتحوا منطقة البحر المتوسط. ولردع الاشوريين, قررت إسرائيل عقد اتفاقية عسكرية مع ممالك سوريا ويهوذا ليقاوموا التهديد الاشوري. وفي خضم الحرب, مات الملك احاب بضربة سهم واندلع فتيل الثورة في إسرائيل بموته! حيث قام احد الجنرالات بقتل أبناء احاب السبعين وتعليق رؤوسهم في باب مدينة السامرة. ليس ذلك فحسب, بل قام الثوار بقتل الملك الجديد لمملكة إسرائيل ومعه ملك يهوذا! ببساطة, كانت حملة قتل جماعي للأسر الحاكمة في ذلك الوقت ولعلها ردة فعل على خراب الممالك الذي نزل بسبب ايزابيل وعائلتها ممن دمروا مبدأ التوحيد عند قبائل إسرائيل. اوه, بالحديث عن ايزابيل.. هم قرروا رميها من فوق قصرها حتى تدهسها عجلات العربات الحربية ثم رموا بجثتها للكلاب (حسناً, قد تكون ردة الفعل تلك مبالغ فيها لكن نكمل القصة..)

لجمال القدر في مملكة إسرائيل, حازت بنت ايزابيل عام 841 قبل الميلاد على مقاليد الحكم وقررت قتل كل ذرية النبي داوود (بمن في ذلك احفادها) حتى تفرغ لها الساحة وتُخمد حس المقاومة عند بني يهوذا.

ولجمال القدر مرة ثانية، نجى احد الامراء من حملة القتل الجماعي تلك وكان اسمه يوآش. بالطبع بقاء ذلك الأمير كان بالسر حتى يبلغ قليلاً وينافس جدته عثليا على حكم قبائل إسرائيل. وفترة سبع سنين كانت كافية حتى يكره فيها شعب إسرائيل عثليا مثلما كرهوا أمها ايزابيل لحبها الشديد لعبدة الاوثان وجلبها لرجال الدين الفينيقيين ممن روجوا لعبادة بعل وغيره (ونرى بعل مذموماً بالتناخ والقرآن). بعد فترة من الزمن وعند بلوغ الأمير السابعة من العمر، دعى كاهن المعبد اليهودي لاجتماع سري حتى يتوج فيه بني إسرائيل ملكهم الجديد. وعند معرفة الملكة بهذه المؤامرة ذهبت راكضة من القصر للمعبد حتى امسك بها حراس المعبد وقتلوها خارج أبوابه. بعد ذلك قُتل جميع كهنة بعل ودُمرت جميع الاصنام في المعابد والحصون.

حكم الملك يوآش لأربعين سنة حتى سنة 801 عند هزيمته من قبل ملك سوريا والذي اجبر سكان المعبد في دير السلام على دفع الأموال والذهب للكف عنهم. وبعدها بثلاثين سنة نرى ملك إسرائيل يقتحم دير السلام ويأخذ الباقي من كنوز المعبد (هي صارت مغارة علي بابا ببساطة). ومع كل هذه السرقات في وضح النهار, الا ان مملكة دير السلام كانت في عز نموها الاقتصادي والعسكري في محاولة للدفاع المستقبلي ضد التهديد الخارجي المستمر.

بالحديث عن التهديد الخارجي..

الإمبراطورية الاشورية لن تقبل بالمحاولات فحسب, هم قرروا انهاء ما بدأوه والاستحواذ على دير السلام. وهنا قررت قبائل إسرائيل الشمالية عقد التحالف المعتاد للتصدي للتهديد الاشوري حتى صدموا هم وممالك سوريا برفض يهوذا للتحالف. لذا قرروا شن حملة على دير السلام كذلك في طريقهم لرفضها التحالف. الان تخيل معي عزيزي القارئ السيناريو الحالي, انت جالس في مكانك تواجه تهديداً من الاشوريين واولاد عمك متحالفين ليقضوا عليك وعلى الاشوريين. ماذا تفعل؟
تتحالف مع الاشوريين ضد اولاد عمومتك!!! وبذلك أرسل ملك يهوذا المال والدعم المادي للآشوريين حتى قضوا على ممالك سوريا وإسرائيل. الان لدى ملك يهوذا معضلة، نستسلم لآشور ام نحارب وندافع عن مدينة داوود؟

كان الجواب من النبي اشعيا الذي أخبر ملك يهوذا بشيء مشابه لعبارة "للبيت رب يحميه". ويذكر التأريخ تواجد مؤلفين لكتاب أشعيا والفارق بينهم يعادل المائتي سنة..

عموماً، بعد موت ملك آشور قررت إسرائيل اعلان الثورة ولكن هيهات.. الملك الحالي اشد ضراوة من الملك السابق وقرر ان يسحق قبائل إسرائيل الشمالية حتى قيل ان عشراً من القبائل الاثني عشر قد مُحيت من على وجه الأرض كلياً! وتم ترحيل سبع وعشرين الفاً من سكان المناطق الباقية لآشور وحتى الان بقي بعض يهود العراق وإيران ممن يقولون برجوع نسلهم للقبائل العشر الممحية على يد آشور.يجدر التنويه ان الباقي من اليهود عند الكثير من المؤرخين هم من قبيلتين من يهوذا المسيطرة على دير السلام.

وهنا يظهر حزقيا ليحقق نبوئة اشعيا ويقود حملة عظيمة ضد الاشوريين بتحالف مع مصر وثوار بابل حتى ينهوا ظلم واستبداد آشور (في الحقيقة حتى يكبحوا التوسع المخيف للإمبراطورية). ونجحت الحملة العظيمة بتخليص العالم من سرجون الثاني ملك آشور المستبد ولكن هيهات للمرة الثانية..

الملك القادم مجرم حروب اتعس من سابقيه! وصل بسمعته عنان السماء حتى سموه ملك العالم وكبح تقدم الثوار وتحالف دير السلام ومصر حتى حكم الأراضي بين الخليج الفارسي وقبرص. ومرحباً بكم في عصر اله آشور الذي كان قلبه في العراق محاطاً بالجبال العالية من الشرق وبنهر الفرات غرباً حتى صارت مملكة عظيمة منيعة يقودها جبابرة شابهوا بتوسعهم المغول بعد الميلاد..


لن أتكلم اكثر عن هولات الحروب وبعض الطرق البشعة عند الاشوريين لمقاومة الثوار وكتم روح الثورة. و يجدر التذكير على انهم لم يكونوا مخربين فحسب, بل قاموا بأمور عظيمة في الادب والفنون والعلوم ولكن لن اتطرق لكل هذا لأنه خارج سياق الموضوع (اعلم تروني مستعجلاً ولكن الطريقة الوحيدة لتغطية قرون من التاريخ في موضوع صغير صدقوني).

ملك آشور قرر انهاء ما بدأه ابائه والسيطرة على دير السلام وتدمير يهوذا. تقدمهم كان "كحركة الصقر" يكادون لا ينامون في مدينة اخذوها حتى دمروا ما بعدها. وتمكن جيش آشور بذلك من كسر الدفاعات المصرية وتدمير جميع الحصون الشمالية حتى حاصر الجيش دير السلام لليال طوال. يُقال ان حزقيا قام بتسميم جميع الابار خارج جدران دير السلام حتى يبطئ من عملية تقدم الاشوريين ويصعب الحصار عليهم. جلس بعدها حزقيا في بيت الرب يدعوه ان ينجي دير السلام ويحميها من بني آشور. وهكذا أجاب الله دعاء حزقيا وصحى جيش اشور وخيامهم تغطي جثثاً من الموتى حتى سحب ملك اشور جيشه شرق دير السلام. يُقال انه قام بذلك لا لمعجزة الهية ولكنه احكم سيطرته على دير السلام وقرر قمع الثورات الباقية شرقاً ودليل ذلك انهم دفعوا له الذهب والفضة وهو قد هجر ما يعادل المائتي الف من يهوذا.. المهم في الامر ان دير السلام لا تزال خارج السيطرة الكلية لآشور والباطشين من ملوكها!
وبعد موت حزقيا, قام ولده منسى باختيار التبعية لسوريا والكنعانيين حتى انه قمع الثورات في دير السلام وتزوج بأميرة عربية. غير هذا فهو لم يبقي على معتقد وثني وفكر كنعاني الا واعتنقه بما في ذلك المشي على النار وتبجيل بعل وحتى التضحية بالأطفال وغير ذلك من الأمور البشعة عند كنعان.


ecL8wPx.jpg

ويرجع لنا العراق بالمفاجئات لتخرج منه الثورة البابلية العظيمة التي انهت الوجود الاشوري عن بكرة ابيه حتى يخرج بذلك الملك العظيم نبوخذنصر ليعيد المجد لبابل ويجتاح نينوى قبل آشور. خلال الصراعات الشرقية تلك يخرج لنا الملك يوشيا ليكتشف نصوصاً من كتاب عبري في هيكل سليمان تهدد بزوال إسرائيل ومملكة يهوذا ما لم يرجع شعبها للتوحيد وترك الاصنام. وبعد تدمير الاصنام وحفظ الوصايا العشر وتابوت العهد وصل يوشيا خبر حملة مصر عبر أراضي يهوذا. ومع ان مصر كانت خراجة لاعانة آشور وكبح الزحف البابلي الا ان يوشيا خاف استبدال اشور بمصر فخرج لقتالهم ولكنه سقط قتيلاً ومعه سقط حلم الحرية والاستقلال لدير السلام. وبعد مقتل يوشيا, توجت مصر اخاه يهوياقيم لحكم يهوذا حتى فشلت حملة مصر وصارت دير السلام قطعة من كعكة بابل الصاعدة..

وخلال عصر كله ثورات ومشاكل, اغتنم يهوياقيم الفرصة وقرر ان يعلن استقلال دير السلام عن بابل من تلقاء نفسه. اعقب ذلك تحذير من نبي إسرائيل إرميا (وقيل ان من اسمائه الخضر) على ان الله سيدمر دير السلام ولكن يهوياقيم تجاهله تحذيره وقام بحرق جميع مخطوطاته وكتبه.

ويأتيك بعدها نبوخذ نصر بقواته ليحاصر دير السلام ويرسل الملك والآلاف من النبلاء لبابل. نبوخذنصر ليس ببربري قاتل وكان يُعرف بباني الحضارات, حيث قام باستخدام قضاة إسرائيل والنبلاء فيهم ليعينوه في الحكم ويقيموا محاكمه ونظامه القضائي في بابل. تهجير اليهود لبابل جعلهم يرون تخلف مدينتهم دير السلام عن باقي العالم بعدما وجدوا التطور الفضائي المرعب في بابل التي وصفها بنو زمانها بقلب العالم وجنته. ملك دير السلام الجديد صدقيا (عذراً ولكن يهوذا تعد تنصيب ملك جديد كشرب شاي بعد الظهيرة) قرر سجن النبي ارميا ويُقال انه كان قريباً من قتله بتهمة الخيانة ولكن وصل نبوخذنصر المدينة عام 586 ليحرقها عن بكرة ابيها. بعدها سبيت نساء بيت المقدس وعلق الامراء من أيديهم امام الحصون ليكونوا عبرة ليهوذا وتحذيراً لاتخاذ ملك جديد وبداية مقاومة كما في السابق. هذا والنبي ارميا لا يزال محبوساً بسجن الهيكل يصف المجاعة وصورة الموت التي وصلت لها دير السلام بعد قيام بابل وحصارها المدينة. والان قد تقولون ماذا عن صدقيا الملك؟
هو حاول الهروب ولكن الجيش البابلي امسك به وجلبه لنبوخذنصر حتى يسمع الحكم عليه. كان الحكم بقتل أولاده امام عينيه ثم اقتلعوا عينيه تلك واخذوه حياً لبابل.. بعدها وصل الحرس لارميا وسلموه لاحد الجنرالات حتى يُرحل مع عشرين الف يهودي لبابل. وبعد ذلك بشهر امر نبوخذنصر بمحي ما بقي من دير السلام بما في ذلك الحصون والجدران والقصور وجميع المنازل. ثم قاموا بهدم الهيكل واخذ جميع ما بقي من ذهب وفضة (بالله هل بقي ذهب وفضة بعد كل الدفع الذي صنعه ملوك يهوذا لتجنب الحروب). يجدر الذكر ان تابوت العهد اختفى للابد بعد تلك الحملة التي لم تبقي على ارض صهيون غير الاسم وحطام المعبد ودماء الكهنة.

ومع ان دمار دير السلام كان دماراً لممالك إسرائيل، ولكن اليهود لا يزالون موجودين! فهم في ارض بابل الان محتفظين بالكثير من تعاليم التوراة واخلاقيات اليهود حتى انهم صاروا أكثر اتباعاً لها طمعاً في الرحمة واعادتهم لأرض داوود دير السلام.

السبي البابلي جعل من البابليين وحوشاً في نظر قبائل يهوذا وبيانهم يقول ان نبوخذ نصر قد صار مجنوناً اخر حياته يأكل الحشائش كقطيع الغنم. غير هذا فابنه كان واهناً بعيداً كل البعد عن الحكمة حتى ان اباه وضعه في السجن رفقة يهويا كين (احد ملوك يهوذا). باقي ملوك بابل كانوا محبين للبذخ حتى ان الملك بلشزار اقام حفلاً بغنيمة جده التي اخذها من يهوذا ويُقال انه وجد نقشاً على الجدار بعد ذلك يقول:


MENE MENE TEKEL UPHARSIN

DSJ5NV1.jpg

وهي جملة آرامية تعني بزوال حكم بابل وتتنبأ بان أيام بقائهم معدودة!

______


والغضب الساطع آتن!

ما فرغت بابل من باقي الممالك حتى ظهر لها كورش العظيم الذي وضع مملكة مبنيةً على وحدة بعض ممالك ليديا (غرب تركيا حالياً) ليكون بذلك اول ملوك فارس. كورش دخل مدينة نبوخذنصر في ليلة وضحاها حتى يصير ملك العالم الجديد ويرث بذلك كل ما بنته حضارة بابل (التي ملكت ارث آشور بدورها). ومن بين بين جميع ما ورثه كورش, لدينا محبوبة الجماهير دير السلام!

كورش كان عسكرياً وقيادياً فذاً ولكنه لم يسلك طريق الاشوريين والبابليين في الترهيب وكبح الأصوات العالية بالتهجير والقمع. هو جاء من باب التسامح الفكري والديني هادفاً بذلك انشاء أكبر امبراطورية عرفتها الأرض. لم يقم كورش بالعفو عن اسرى قبائل يهوذا فحسب بل قرر فتح باب الرجوع لأرضهم واخبرهم بان الاله الذي مكنه من كل تلك الممالك يستحق ان يبني له معبداً في دير السلام. وهنا تحصل الصدمة عن بني إسرائيل! هذا الرجل اعطاهم حقوق مواطن كاملة في المملكة وحرية العودة لأرضهم وهذا في غاية الإنسانية ولكن ان يعيد بناء الهيكل!! ولذا نرى بعض بني يهوذا من ذلك الوقت يرى كورش هو المسيح الموعود في التوراة وهو مخلص شعب إسرائيل المذكور فيها.

يجدر القول هنا ان الكثير من اليهود قرر البقاء في بابل وعدم العودة لدير السلام وذاك لهيكلة المدينة الاقتصادية العالية التي جعلت الكثير من العائلات اليهودية تعيش حالة غير مسبوقة من الثراء والترف. بقاء العائلات اليهودية شيء نلاحظه حتى في التاريخ الحديث حيث كان الكثير من اليهود يعيشون في العراق وإيران قبل تأسيس دولة إسرائيل وهم مثلوا نسبة كبيرة نسبياً من اكبر المدن حتى نهاية العصر العباسي وغزو المغول وبقي العراق وايران عاصمتان لقيادة "مملكة" يهوذا حتى نهاية العصر الذهبي للإسلام. ويجدر القول ان الكثير من المصادر تبين ان ثلث سكان بغداد كانوا يهوداً سنة 1885 للميلاد! والان لم يبق غير خمس وعشرين يهودياً في إيران واقل من خمسين يهودياً في العراق (لا تسألني كيف حسبوا الخمسين هؤلاء)..

وبعد تسع سنين من نهاية السبي البابلي، مات كورش العظيم في احدى معاركه في وسط اسيا حتى يخلده التاريخ حامياً لليهود معيداً لهيبتهم وقاضيا على الظلم الذي نشرته آشور وبابل. مات وماتت معه حماية دير السلام وهي في أمَسِ الحاجة للدعم وإعادة البناء. ولكن بقيت امبراطورية فارس تحت قيادة حكام يتبعون طريقة كورش في التعامل مع دير السلام على الأقل لذا استمرت عملية بناء الهيكل حتى تم انهاؤه سنة 515 ليقام بذلك اول احتفال منذ السبي البابلي. يُقال ان كبار اليهود ممن شهدوا هيكل سليمان قاموا بالبكاء عند رؤية الهيكل الذي بنته فارس حيث لم يكن يُقارن بما وضعه سليمان من هيبة في هيكله الذي لم يعد له وجود بعدما دكه جيش بابل.

وبحلول العام 336 قبل الميلاد, ظهر الكسندر المقدوني على الساحة ليحاصر الملك الفارسي داريوس الثاني لحدود الإمبراطورية الشرقية. بعدها غير وجهته لمصر حتى دخل دير السلام وطلب منهم (او بشكل اصح, "امرهم") ان يشاركوا في حملته ولم يكن عند اهل دير السلام غير الزهور والترحيب الحار للصاعد مدمر الدول. حتى ان بعض مؤرخي اليهود يؤكد ان اليهود استقبلوا الكسندر بأجمل ترحيب وكأنه كورش الفارسي وهو ايضاً مشى على طريق الأخير حتى انه ذبح اضحية لإله بني إسرائيل.
بعد وصوله لأراضي مصر, انشأ الاسكندر مدينة الإسكندرية وعاد شرقاً ليقضي على فارس ويتجه بعد ذلك لأفغانستان طامحاً لحكم العالم اجمع وتوحيده تحت قيادة مقدونيا. الكسندر لم يكن بالحاكم المتجبر ومحب سفك الدماء, ولكن بحكم طريقة عمل العالم آن ذاك فالحرب شيء لا بديل له لحلم توحيد العالم..

وبعد فتح العالم تقريباً, رجع لبابل ليموت فيها لسبب غير مؤكد. وقبل مماته سأله الناس لمن ترك مملكته فأجاب: "للأقوى فيكم".

دير السلام كانت مدينةً شبه مستقلة خلال عهد ألكسندر ومن خلفه حتى ان يهوذا صكت عملتها الخاصة بنقش "يهود" واضعةً بذلك مدينةً لإله موسى محكومةً بيد حفظة المعبد ورجال الدين. المدينة كانت بعيدةً نسبياً عن النظام الاقطاعي لكن الاسر النبيلة والارستقراطيين كانوا موجودين وينافسون بثرائهم كبار رجال الدين وحفظة المعبد. قدرة اليهود الاقتصادية بدأت ترتفع بد سيطرتهم على أصول تجارية عالية الربح وقليلة المخاطر بين بابل ودير السلام حتى ان أيديهم كانت في اغلب المزايدات والأسواق السوداء. كل هذا راجع لتعرفهم ومحافظتهم على مختلف الأفكار والثقافات حتى بعد رجوع استقلالية دير السلام..

وفي عام 223, ظهر انطيوخوس الثالث (تباً لهذه الأسماء التي لا تُكتب) الملك المقدوني ليقتل مجد الكسندر تجاه الشرق حتى وصل الهند وشن حملات كثيرة على فلسطين لتحصيل دير السلام. وبعد عشرين سنة تقريباً, اثبت انطيوخوس جدارته بهزيمة المصريين ورحبت دير السلام بالإمبراطور الجديد. ذاك الرجل لم يكن كباقي الملوك, جيشه كان نقطة القوة عنده حيث جمع خيرة المشاة الكرد والرماة الفارسيين مع الفيلة والاحصنة ليري جيوش مصر العجائب! اعلم الملك الناس بنيته في اصلاح المعبد والاسوار بعد فتحه العظيم وأعطى اليهود حقهم في تولي امورهم وحكم مدينتهم. غير هذا فهو اعطاهم كل الاحترام من ناحية الشعائر الدينية والحدود الابراهيمية التي سنتها التوراة لهم.

الحياة في دير السلام صارت ثيوقراطية متعصبة للتوراة وحفظ يوم السبت. احترام اللباس الديني والشعائر الصحيحة كانت شيئاً لابد منه وغير ذلك عقوبته الموت. الزُناة كانوا يُرمون بالحجارة من جميع اهل المدينة، تارك الشعائر الدينية قد يُحرق، رجال الدين يرمون الناس من فوق التلة عقاباً على بعض الكبائر الأخرى وغيرها من أنواع العقوبات الشائعة في ذلك الوقت..

المعبد كان قلب الحياة اليهودية وفريضة الحج جعلت الألوف يتوافدون (وبالأخص من اهل بابل وفارس) حتى يصلون فيه ويضحون بالمواشي تقرباً ليهوه. ولكن هذا لا يعني ان الحياة كانت كلها دينية محضة.. فالناس كانوا يحتفلون خارج بيبان المعبد, يرقصون حاملين بأيديهم شُعلاً ليُنيروا دير السلام. غير هذا فلدينا الطبقة الراقية من دير السلام والتي كانت اشبه بأرستقراطية اليونان وبعيدة كل البعد عن باقي الشعب. هنا صار لدينا المجتمع المذكور ادناه:

اهل المال يتشبهون بالإغريق ويأخذون أسمائهم بغية الحداثة وكسب الرقي. رجال الدين كالسيف في بطون الشعب يقتلون من أرادوا وحكمهم حكم الله. باقي الشعب "غلبان حفظه الله" ويقنع نفسه بالهيكل الذي بناه كورش والعملة التي كُتب عليها "يهود".

بعد مقتل الملك ذو الاسم الغريب ذاك، صار على يهود الإسكندرية وبابل ان يدفعوا مالاً سنوياً للمعبد حتى كثرت قطع الذهب فيه وبدأت بجذب انظار ملوك مقدونيا الذين كانوا يعانون من شح الموارد بعد حروبهم مع فارس وغيرهم من الممالك الصغيرة في الشرق. يجدر البلاغ هنا ان التاريخ يكره ابن سينا لدرجة انه قرر جعل اسم ملك المنطقة الجديد انطيوخوس الرابع (مثل اسم ابيه حرقهم الله). الملك هذا معجب بنفسه للغاية ووصلت فيه قصص الجنون لمراحل طويلة (اترك لكم البحث فيها). أحد المؤرخين يذكر انه كان يلبس اللباس الفاخر ويمشي بين الناس حتى اذا نظروا له رماهم بالحجارة. وكان يستحم في أماكن عامة ويحب ان يرى بعض الجثث امامه اثناء ذلك.. نعم درجة امتياز في الجنون!!

عموماً, ذاك الرجل قرر ان يعيد مجد ابيه ويرجع الأراضي التي اخذتها باقي الممالك فقرر بدأ حملة لكسر الوتد المصري مرة اخيرة حتى يسيطر على الجانب الشرقي من البحر الأبيض ويركز بعدها على باقي الممالك. وفي طريقه لمصر, ثارت دير السلام كارهة لحكمه ورافضة لطريقته. ويا ويل دير السلام من الملك المجنون..
رجع لدير السلام واحكم سيطرة كلية عليها حتى وصل المعبد. بعدها امر كبار الكهنة ان يذبحوا ذبائحهم لوجهه حتى يُثبتوا ولائهم. بالطبع رفض رجال الدين وحظة المعبد عرض المجنون فقرر ان ينهي الوجود اليهودي ويقضي على الروح الثورية في دير السلام. وفي سنة 167 يوم السبت, دخل من لا يُسمى دير السلام وذبح الآلاف من سكانها ودمر جدران المدينة ليضع بهدها معابده الخاصة ويعطي وصاية المدينة لاحد القادة اليونانيين. منع انطيوخوس الذبائح وكل خدمة لمعابد اليهود وهدم أي قيمة للسبت, وبعد ذلك امر بإراقة دم الخنزير دخل الهيكل. ليس ذلك فحسب, هو احل كل شيء ووضع جميع رياضات اليونان (التي لم تحوي مفهوم الملبس في قاموسها). لم يلبث اهل دير السلام حتى ثاروا يبكون على ما حصل في ارض ربهم التي ملأها الوثنيون بكل محرم حتى دخلت الكبائر داخل هيكل الرب.. للأسف, اخمد الملك تلك الثورات بلمح البصر وصار اهل دير السلام يعتادون على حالهم حتى فضل بعضهم بذخ اليونان وأصبحت ترى رجال الدين يمشون امام المعبد بعد الصلاة ليشاهدوا العاب اليونان في ملاعبهم. من كان يقاوم النظام الحالي او يفكر حتى بترك العمل يوم السبت فعقوبته الحرق او الصلب (هذه جديدة من ارض اليونان). يذكر المؤرخون كيف مات الكثير من اليهود لرفضهم اكل الخنزير, وكيف رمى حراس المعبد اليونان النساء من فوق جدران المعبد لتطهيرهم أولادهم الذكور. وصلت الحال لقتل كل من يحمل التوراة او اجباره على تمزيقها امام الناس ثم قتله.. ولكن يبقى دين موسى حياً في قلوب البعض حتى خرجت روحٌ عجيبة بين الشعب جعلت الكثير من سكان دير السلام يفضلون الموت على تدنيس توراة موسى التي لم يقارنوها بحياتهم. وبدأت الثورات بالحراك ولكن انطيوخوس لم يأخذهم على محمل الجد وقرر الرجوع لانطاكية للاحتفال بنصره العظيم وترويضه لعبدة يهوه.. ويا له من احتفال ذاك الذي قام به في انطاكية!

بعيداً عن احتفال المجنون ذاك, ظهر رجل في دير السلام اسمه متتيا يؤمر بالتضحية لوجه الملك انطيوخوس ليثبت تركه لليهودية واخلاصه للملك الجديد. فرد عليهم متتيا: "لو تبعت جميع ممالك الأرض ملككم, فلن امشي واولادي الا على دين آبائنا" فتقدم رجل ليذبح القربان بدلاً عنه فثارت أعصاب متتيا ليخرج سيفه ويقتل اليهودي الذي تقدمه ثم الجنرال الانطاكي.. خرج متتيا بعد ذلك ليصيح بالناس ويقول: "من حفظ منكم العهد فليتبعني" فخرج هو وابنائه الخمسة وبعض اليهود ممن ثار ضد الملك. ومع انهم دخلوا حرباً مع الجند الانطاكي ولكنهم ابقوا بحفظ السبت حتى مات متتيا تاركاً الراية لابنه يهوذا الذي قاد ثورة هدت الجيش الانطاكي حتى سماه اهل دير السلام بيهوذا المطرقة. في البداية لم يعر انطيوخوس الثوار أي اهتمام وقرر توجيه اهتمامه تجاه العراق وفارس وارسل المزيد من الجند لسحق الثوار في دير السلام. ولكن يهوذا هزمهم ايضاً حتى احس الملك المجنون بالخطر وقرر ان يرجع لدير السلام ليدير المدينة التي حررها يهوذا ذاك حتى ان اليهود فيها رجعوا لتناول لحومهم وتقرير شرائعهم. وفي طريقه لدير السلام اصابته نوبة صرع وسقط ميتاً من عربته (ندعو من الله ان لا يرجع اسمه في كتب التاريخ مرة ثانية).

وفي شتاء عام 164 قبل الميلاد, فتح يهوذا كل يهودا ودير السلام وأعاد جميع الشعائر والذبائح امام الهيكل. واليهود يحتفلون بتحرير دير السلام ذاك حتى يومنا هذا بما يسمونه بال حانوكا او عيد الانوار.. يهوذا لم يكتفي بتحرير دير السلام واراضي يهودا بل قاد حملة فتوحات تجاه الأردن لتحرير اليهود من سلطان اليونان وجبروته. ومع ان حملته كانت ناجحة نسبياً الا ان دولة السلوقيين لم تسكت ليهوذا واخذت دير السلام في يومين. وضع جنرال السلوقيين تهديداً بحرق دير السلام اذا لم يسلم يهوذا واعوانه انفسهم. بعدها خرج يهوذا طالباً النجدة من روما (رحبوا باللاعب الجديد) وبما ان روما عدوة اليونان قرروا الاعتراف بالحكم الذاتي لدير السلام. ويرجع لك المطرقة والرومان بظهره ليستعيد دير السلام ويقطع رأس الجنرال السلوقي ويداه وعلقهم فوق الهيكل لتأكل منهم الطير ويكون ذلك عبرة لكل من يحاول تهديد مدينة الرب بعد ذلك..


ولعلي اقف هنا لان قصة "جاء ملك واخذ دير السلام ليعيدها بعد ذلك رجل مغوار" قد تكون صارت مملة عند البعض وأريد ان أوضح لما لم اترك بعض هذه القصص واخترت ان ادخل في أعماق اغلب الاحداث. المشكلة هي انك عندما تغطي التاريخ تعرف الناس بشيء قد جهلوه عن ماضيهم وترك بعض الاحداث لن يقتلك لو تكلمنا عن تعريف عربي ببعض من تاريخ اليابان او استراليا. ولكن اذا تكلمنا عن الهند لاهل الهند فلن اقدر على ان اجتاز أي شيء فيُقال ترك الحدث هذا لرسوخه على الجانب هذا او ذاك. فأتمنى من القارء ان يصبر على بعض الاحداث التي قد لا تبدوا ممتعة للبعض (واعدكم ستنتهي هذه الرتابة بميلاد ابن مريم!)

حسناً, اين كنا.. نعم, المقاومة التي قادها يهوذا استكملها اخاه جوناثان الذي خرج فجأة من الصحراء ليقاتل السلوقيين ويفتح الكثير والكثير من المدن من بينها غزة وبعض مناطق مصر (بمساعدة ملك مصر بطلميوس) وحتى الكثير من أراضي سوريا ولبنان حالياً. والاسرة المناضلة لم تنتهي بعد, فمن بين الاخوة سيمون الذي حصن دير السلام وقاد جيشه حتى ازاح القوات اليونانية عن المنطقة كلياً. المشكلة ان جوناثان كان قد سقط تحت يد اليونانيين اسيراً ذلك الوقت وقرروا بعد هزيمة سيمون لهم ان ينتقموا بقتل أخيه الأسير. لم يهز مقتل أخيه رمشاً له وصار اكثر عزيمةً لسحق اليونان وتحرير اليهود كلياً والا الابد فصار بطلاً بمعنى الكلمة. ولكن تباً مرة ثانية, صادف ان ذهب سيمون لعشاء مع زوج ابنته حتى يغتاله ويقتل اثنين من أولاده ومع انه حاول قتل ولده الأخير يوحنا ولكن الأخير هرب باعجوبة ووصل دير السلام ليتولى مقاليد الحكم. وعند محاولته اخضاع قتلة ابيه, قتلوا امه وباقي اخوته امام عينيه. وبالطبع جاء بعدها السلوقيين وملكهم الجديد ليستولوا على دير السلام ويأخذوا فلسطين ولا كان شيئاً قد حدث. وبحكم سيطرة اليونان مرة أخرى, أجبر يوحنا بالخروج باليهود لمحاربة الممالك في العراق وفارس إضافة الى المملكة الفرثية. يوحنا قرر التعاون مع ملك الفرثيين (بحكم تواجد بعض اليهود في مملكته) حتى قُتل ملك اليونانيين في الحرب وعاد يوحنا لدير السلام ليعلن استقلالها مرة ثانية (ابن سينا لا يضحك).

واسمعوا بقية القصة, رجع يوحنا وعمر المدينة وبنا المزيد من الجدران ليقود بعدها المزيد من الحملات على نقاط واسع لم يسبق له مثيل منذ أيام داوود. وبعد موته خلفه اخوه ارسطوبولس الذي اخذ الباقي من جنوب لبنان ولكن هنا نكون وصلنا لمرحلة كان فيها ملوك إسرائيل اكثر يونانيةً من اليونان انفسهم. يا رجل انظر لاسمه فحسب! بعد فترة وجيزة خرج ارسطو ذاك ليرمي بأمه السجن ويقتل اخاه الذي احبه الشعب حتى يفرغ له الجو ويتجنب أي ثورات في دير السلام. ثم بعد ذلك أصابه الجنون ليموت خوفاً من أخيه الاخر الكسندر.

الكسندر ذاك كان عديم القلب محباً للحروب. استغل بُعد الرومان وضعف اليونان ليشن الحروب على الدول المجاورة له ويأخذ الخطوة الأولى لبناء امبراطورية يهودية خالصة. ولم يكبح ألكسندر المغرور ذاك الا النبطيين العرب الذين هزموه بعد تقدم وصل حتى مصر ليترك فتوحاته ويعود لدير السلام. وليونانية ألكسندر العنيفة استقبله اهل دير السلام أبشع استقبال وقاموا برمي الفواكه عليه اثناء دخوله فارسل لهم جيشه ليقتلوا ستة الف منهم. وبسبب الحرب الاهلية تلك، قرر السلوقيين مهاجمة دير السلام واستغلال الموقف فخرج هارباً للتلال المجاورة. وبعد تخطيط عميق، رجع غاضبا ليقتل خمسين الفاً من سكان دير السلام (لا تعليق). الكسندر قاوم الثورات وصلب 800 من الثوار بعد قتل زوجاتهم واطفالهم امام اعينهم ليموت هو ايضاً بعد ذلك مسرفاً بشرب الخمر. لكن مهلاً, هنا لدينا بعض التغيير!!
الرجل ترك زوجته لتقود دير السلام وامبراطورية اليهود التي امتدت لتغطي اغلب ما نعرفه ببلاد الشام. فكانت زوجته المسماة بسلومة اول امرأة تحكم دير السلام منذ موت ايزابيل مكروهة الجماهير. حسناً هي لم تكن حاكمة بمعنى الكلمة فهي كانت في الستينات من العمر ومن حكم كانوا بعض الجنرالات والممالك من خلف الستار ولكن أولادها كان لهم دور كبير في تاريخ دير السلام حيث حكمت اسرهم لحوالي القرن وبنوا الجدار الغربي كما هو معروف حالياً. ولكن كالعادة, صارت لدينا بعض المشاكل بين الاخوة ليتحاربوا فيما بينهم ويلجئ احدهم لملك نبطي غني اسمه الحارث فساعده على هزيمة أخيه حتى امسكوا به وحبسوه في الهيكل. ولكن دعنا من عراك الاخوة هذا ورحبوا بدخول روما المباشر اخيراً!

بحكم السياسة الرومانية, كان ميزان القوى مبني على ثالثة اشخاص آن ذاك. الأول اسمه بومبيوس وهو قيادي محنك رفع راية روما لأول مرة محارباً ممالك الشرق حتى دخيل لفلسطين وامسك بالاخ الأسير ولكنهم حرروه بعد ذلك بفترة وجيزة. بومبيس لم يرد قتل وتشريد اليهود, ولكنه أراد اثبات جدارته عن طريق فتوحات فرض السيطرة تلك. المحارب الروماني الثاني كان اسمه كراسوس وهو رجل غني عرف بعجرفته وحبه لسفك الدماء. المشكلة في ذلك الرجل انه دخل حرب الممالك مستعجلاً ومع انه دخل دير السلام ونهب أموالها الا انه سقط على يد مملكة فرثيا التي استبدلت فارس والسلوقيين (وكانت مدعومة وداعمةً لليهود بشكل عام). حسناً هنا يبقى لدينا ثالث القادة الرومان.. ومن غير القيصر!

رفع القيصر نفسه لحكم جميع روما عام 48 قبل الميلاد وذلك بعد هزيمته لبومبيوس. ومع ان بومبيوس حاول الهروب لمصر، الا ان القيصر لاحقه حتى استقبله المصريون برأس بومبيوس المخلل كترحيب منهم به. واظن هذا كافياً حتى تعرف كيف دخلت روما على الخط وللقيصر قصة تطول في مصر لعلنا نجتازها..

حسناً هنا نكون انتهينا من اغلب ما قبل التاريخ! وبعد مولد ابن مريم تتعقد الأمور!


HKw4jWz.jpg

فقبله بستة أشهر وُلد يحيى ابن زكريا الذي كان يدعوا الله ليلاً نهاراً حتى انه اعتزل الناس وصار يدعوهم وينصحهم وهو يعيش في الصحاري. كان طيب القلب محب النصيحة حتى صار بعض الناس يتشاورون انه هو المسيح الموعود في التوراة. ولم تدم دعوته حتى جاء ابن خالته يدعوا معه ويسانده. هذا وكلاهما كان كارهاً لاحد النبلاء تحديداً من روما وكان اسمه أنتيباس. ذاك الرجل ببساطة كسر بعض قوانين التوراة وكانت له مكانة عالية في الإمبراطورية (والتي لها اليد العليا في كل شيء وفي كل مكان في ذلك الوقت) فمن الطبيعي ان تجد يحيى وعيسى يحذران الناس من افعاله. والقصة هنا تطول ايضاً، ولكن رقصت لذلك الروماني امرأة اسمها سلومة وهي بنت ملكة يهوذا في ذلك الوقت فأعجبه ذلك وقال لها ان تطلب أي شيء تريد. وهي سألته رأس يوحنا المعمدان او يحيى. وهذا كان ما حصل بالفعل محذراً بموته ابن خالته عيسى ليذهب الأخير ويتخذ من الصحاري حصناً له من بطش الرومان. مع ذلك كان عيسى كثير الزيارات لدير السلام.

بشكل عام, عيسى استمر في نشر رسالته هو وانصاره الاثني عشر. وكان يذهب بين فترة والأخرى لدير السلام حتى يبلغ الناس بالرسالة ويأمرهم بان يتوبوا لان وقت الحساب قد اقترب وكان عيسى يرمز لكل ذلك بمملكة السماء حسب وثائق بني إسرائيل. وكلما كان يأتي دير السلام كان يُقابل بمحبين له يسمونه بالمسيح الموعود وبعضهم كان يقول انه نبي جديد جاء لبني إسرائيل. ولكن هذا لا يعني ان اليهود احبوه وجعلوه نبياً عليهم, بل العكس! اغلب اليهود كان يحارب أفكاره ويرجمونه متى ما رأوه فكيف لهذا الصبي ان يجادل كبار قومه ورجال الدين الذين حفظوا الهيكل لسنين ويحاول نصحهم كذلك!

اتهموه بالكذب ثم جاءت عليه اتهامات الجنون والشرك بعد ان قال بانه هو والأب واحد.. كل هذه احداث تكلمت عنها كل كتب التاريخ لتصور عيسى بصورة محب الدين الثوري الذي اراد ان يستحدث اليهودية ويجعلها اكثر تطوراً وتماشياً مع العالم.. وهذه النظرة البعدية عن الايمان شيء طبيعي ليس على القارئ ان يستغربه عند دراسة التاريخ! فاغلب كتب التاريخ لن تقول لك بان عيسى ولد بمعجزة وعمل كذا وكذا, واغلب كتب التاريخ لن تجعل من عيسى نبي كذبه قومه.. في النهاية يتم أخذ كل شيء بشكل سطحي ويتم عكسه كما هو ولك التقدير..

وبعد ان المملكة الفرثية بأخبار تدبير مؤامرة لعيسى قررت إبلاغه ان الرومان على عجلة ليقتلوه تعوناً مع كبار دير السلام خوفاً على مكانتهم من تعاليمه التي صارت تجذب الناس حوله. ولكن عيسى لم يكترث ووصف مدبري الكمائن بالثعالب وباشر تبليغ رسالته حتى كان يخطب في الناس يومين ويأخذ الثاني زيارةً لدير السلام حبيبة قلبه التي تعلق بها منذ صغره. وفي سنة 33 بعد الميلاد صادف وصول عيسى لدير السلام وصول أنتيباس الوالي على منطقة شرق الأردن ونفسه الذي امر بقتل يحيى. ارسل عيسى حوارييه للمدينة ليجلبوا له حماراً "من تلك التي يُرفع عليها الملوك". وتبلغ كتب التاريخ ان الحواريين أعطوا قصصاً مختلفةً نسبياً عما حصل في الأيام الثلاث القادمة. فعند دخول المسيح عيسى لدير السلام رحب به أصحابه قائلين "مرحباً بابن داوود ملك إسرائيل" وعند وصوله الهيكل قال "اهدموه فأبني واحداً لم يُصنع بأيدي بشر" ثم قال بعدها بانه سيعيد بناء الهيكل بثلاثة أيام فكان تفسير هذا القول عند النصارى انه قصد الخراب والدمار الأخلاقي الذي حصل في دير السلام وهذا يتم إصلاحه برسالته وحدها. وبمرور اليوم, يروي المؤرخين ان عيسى كان يعلم الناس ويداوي مرضاهم شمال الهيكل وكانت هذه الأماكن مليئة بالحجاج المغتسلين حتى يدخلوا المعبد بطهارة. وبعد ذلك كان يرجع لأصحابه يكلمهم ليلاً..

يُقال انه كان ايضاً يناظر منتقديه وخصوصاً أرستقراطي الهيكل الذين عضوا على دين آبائهم بالنواجد ورفضوا الاعتراف بان عيسى هو المسيح الموعود في كتبهم. هذا وابن مريم لم يقل انه هو المسيح وكل كلامه كان بتركيز على الصلاة لله وحده ومحبة الناس فكان مع اليهود في غالب الامر ان لم يكن كله الا دمار المجتمع الذي كان فيهم والشكر لتبادل الثقافات على مر القرون الماضية. وفي احدى زياراته السرية لدير السلام سمع ان أحد الحواريين قد باعه بثلاثين قطة من الفضة، ولكنه تجاهل الامر واستمر في مسيره داخل المدينة. وبعد حلول الليل حاصره الرومان واعانهم على تبيين مكانه بين الناس الحواري الذي باعه ليشهر باقي الحواريين سيوفهم ويحاولوا تخليص عيسى وفتح طريق له حتى يهرب.. ولكن امسك الرومان بابن مريم وهرب باقي الحواريين بمختلف الاتجاهات حتى لا يُمسكون الا اثنين منهم بقوا تابعين لعيسى بالسر حتى يحرروه في أقرب فرصة من الجند الرومان. وفي منتصف الليل جاء الكاهن حتى يستجوب عيسى ويقرأ عليه العقوبة فلم يجب عيسى على أي من اسئلتهم بخصوص المسيح والهيكل، ولكنه قال بأنهم سيرون ابن آدم جالساً على مقاليد الحكم محمولاً بسُحب السماء" ليهتف الناس بعد ذلك بان يُقتل..

امسك الرومان بيسوع وشددوا عليه الحراسة حتى يمنعوا أي تدخل من اليهود الثوار أنصاره. بشكل عام، اليهود كانوا كارهين لعيسى ولكن اين يكن فهو يهودي في نهاية الامر ومن دم داوود فتقبلهم له اعظم من تقبلهم الرومان الوثنيين. ولكن لن ينفع في ذلك الوقت نداء ضعفاء الشعب عند حضور كبيرهم.

عند اسر عيسى يخبر التاريخ بأن كبار الرومان استجوبوه وسألوه ان يبين لهم معجزات ودلائل نبوته ويحيي لهم الميت فيؤمنون به. ولكن ابن مريم ظل ساكناً لا ينطق. سأله أحد الرجال "انت ملك بني إسرائيل؟" فأجابه عيسى "هذا كلامكم". حتى الان اختلف التاريخ في الجهة التي طالبت بقتل عيسى فتقول غالبية النصوص ان العملية كنت رومانية التخطيط، ولكن الفكرة جاءت من سادة اليهود. ولكن البعض الاخر يقول ان الفكرة كانت هي ايضاً رومانية وعداوة اليهود المبالغة لعيسى كانت كذبة وضعوها لبداية حرب أهلية. عموماً تم تعليق يسوع على الصليب ومرفق معه رباط كتب عليه "ملك اليهود". كثرت الاخبار في احداث يسوع وهو مصلوب حتى ان البعض قال بيبوس شفتاه من الحر والعطش لتقبل عليه نساء المدينة ويحملوا له اسفنجة كلها ماء لتعينه وتصبره. وفي صباح يوم الاحد (بعد ثلاثة أيام من صلبه) قال الرومان انه مات وتأكدوا من ذك بعد وخز جانبه بالرمح ليقبل عليه جميع اتباعه وأهله ويقوموا بوضعه في التابوت كما تقتضي الأعراف اليهودية. وهنا يبدأ التشويق! بعد دفنه قدم عليه بعض تابعيه وأمه حتى يزوروه ليجدوا باب التابوت مفتوحاً ورجُلين يقفان خلفهم يقولان: "لما تبحثون عن الاحياء بين الأموات؟"

ومع ان هذه كلها اقوال جاءت من تابعيه الا ان الكثير قالوا ان المسيح بنفسه قد جاء عليهم ليبين لهم انه لم يمت وان ليس عليهم ان يخافوا. وحتى من كذبوا عودة المسيح قالوا انه جاءهم بعد ذلك وبين لهم الجروح على بدنه ليثبت انه هو نفس عيسى لذي "صلبته" روما. بعض المؤرخين يقول ان أصحابه اخرجوه ودفنوه في مكان اخر ثم ابتدعوا كل هذا للتغطية على الامر. البعض يقول انه من الممكن ان المسيح لم يمت من الصلب اساساً ويا كثير القصص عن أناس وضعوا في التوابيت وهم احياء في الحقيقة.

وفي النهاية حتى لا ندخل أكثر في أمور المسيحية نقول بان هذه كانت خاتمة احداث المسيح (والذي لم تعترف به اغلب يهوذا بالمسيح حتى يومنا هذا) وقصة ابن مريم في بني إسرائيل وكل ما فيها من قيمة ممكنة لتاريخ دير السلام. والقادم من تاريخ تلك المدينة يخرج بنا من منظور دين إبراهيم حتى نرى دير السلام تُقاد بأيدي الوثنية التي كانت لها حصة ليست بهينة من تاريخ تلك الأرض (بغض النظر عن ممالك بني إسرائيل قبل المسيح والتي كانت اشبه باليونان او روما منها لدولة سامية).

يتبع..
 
التعديل الأخير:

YAHiA

Nightmaren
*يجدر النظر في لفظ "عابيرو" حيث رمز هذا الاسم تاريخياً لقطاع الطرق والقبائل البدوية المحبة للحروب واخذ العبيد. لم يتفق المؤرخون على أصل تلك القبائل ولم يتفقهوا على علاقة هذا الاسم بالعبرانيين ولعلها مجرد صدفة انهم امتلكوا نفس الاسم كون لفظ عابيرو كان مستخدماً في جميع انحاء الشرق الأوسط واستخدمه البابليون كرمز للتشرد والبدوية. في حين ان كلمة "عبري" ترجح لعبور نهر الفرات عند بعض المصادر.

كلمة عبراني أو العبرانيون لها أكثر من معنى محتمل، ولكن ما تعلمناه منذ الصغر عندنا هو أن تسميتهم هذه أتت بسبب كون تواجدهم فترة "عابرة"، لا أدري إن كان هذا صحيحاً أم لا.

. نزح الفيلستيون (القادمين من ايجة)

في الواقع أصل قبائل الفلست مشكوك فيه، البعض يرى أنهم من الأناضول، أو من قبرص ولعل أشهر الإحتمالات جزيرة كريت، لا أدري لماذا يتم ذكرهم بشكلٍ سريع عند سرد تاريخ المنطقة في مختلف الكتب والمقالات، لطالما كانوا أحد أكثر القبائل المثيرة للاهتمام بالنسبة لي، حتى أن معتقدهم يُرى أنه أفضل counter argument لمن يرى أن أصلهم من اليونان، و بالنسبة لمعتقداتهم فهم اعتنقوا المعتقدات الكنعانية كنوع من الassimilation ، ولكن في المقابل منحوتاتهم وأعمالهم وغيرها تثبت العكس، والأرجح أنهم غيروا ديانتهم من باب الاندماج مع الكنعانيين أو لأنهم فقدوا الثقة بآلهتهم وغيرها من الأسباب، ولهذا فإن أصلهم يعتبر debated حتى هذه اللحظة، ولكن يبقى الأرجح هو قدومهم من منظقة كريت أو بحر إيجه، عداوتهم مع اليهود بحيث يتم تصويرهم بأنهم arch nemesis مبالغ فيها نوعاً ما، أما اسم فلسطين المستمد منهم فهو أكثر اسم consistent للمنطقة طوال التاريخ، ولو أن القارئ قد يفهم أن الفلست هم نفسهم الفلسطينيون الحاليون، في الواقع سكان فلسطين الحاليين هم امتداد لجميع الحضارات التي كان لها وجود على الأرض سواءً كانوا كنعانيين أو فلست أو يهود أو روم أو صليبيين أو غيرها، أذكر هذا فقط من باب توضيح أي misunderstanding محتمل.

____________

بالنسبة للمقال فيبدو أنه مجهود عظيم، ولكن بالنسبة لي، النقطة المفصلية لتاريخ اليهود هي التي تلي الأحداث المذكورة في المقال، مثل معاركهم مع هادريان وغيره من الولاة الروم، وتحالفهم مع الفرس وغيرها من الأحداث، حيث نرى التحول في الفكر اليهودي ليصبح داعياً لوحدة العرق والقضاء على التنوع في القدس وغيرها، بحيث تنطبق عليهم مقولة "'You either die a hero or live long enough to see yourself become the villain"
 

Avicenna

φιλόσοφος
عداوتهم مع اليهود بحيث يتم تصويرهم بأنهم arch nemesis مبالغ فيها نوعاً ما، أما اسم فلسطين المستمد منهم فهو أكثر اسم consistent للمنطقة طوال التاريخ، ولو أن القارئ قد يفهم أن الفلست هم نفسهم الفلسطينيون الحاليون، في الواقع سكان فلسطين الحاليين هم امتداد لجميع الحضارات التي كان لها وجود على الأرض سواءً كانوا كنعانيين أو فلست أو يهود أو روم أو صليبيين أو غيرها، أذكر هذا فقط من باب توضيح أي misunderstanding محتمل.
كلام صحيح! ترى هذا في تحالف داوود بنفسه مع الفلست!
بالنسبة لاهل فلسطين الحاليين فلا يهودها يهود كلياً وعربها اغلبهم عرب لا علاقة كبيرة لهم بالفلست (غير انحدار جيني قد تجده بنفس المستوى عند اليهود). العرب كانوا يتوافدون للمنطقة على مر التاريخ بعد الميلات لكثرة التجارة وما الا ذلك. سترى ايضاً توجد العرب في بيوت الملوك اليهود قبل الميلاد وهو عرق موجود وله يد متحكمة في بلاد الشام بشكل عام.
بالنسبة للمقال فيبدو أنه مجهود عظيم، ولكن بالنسبة لي، النقطة المفصلية لتاريخ اليهود هي التي تلي الأحداث المذكورة في المقال، مثل معاركهم مع هادريان وغيره من الولاة الروم، وتحالفهم مع الفرس وغيرها من الأحداث، حيث نرى التحول في الفكر اليهودي ليصبح داعياً لوحدة العرق والقضاء على التنوع في القدس وغيرها، بحيث تنطبق عليهم مقولة "'You either die a hero or live long enough to see yourself become the villain"
شكراً لك!
هذه بداية المقال, اغلب تأريخ اليهود القديم موجود في التوراة والواح مصر, او ذكر عن اليونان وروما. الفكر اليهودي المنغلق كان موجوداً في كل الفترات وهو شيئ منطقي للغاية بالنسبة للموحدين. فهم كانوا يقفون بين الوثنين من الشرق والغرب محاولين الدفاع عن فكر يكاد يكون منعدماً في المنطقة مخالفاً لكل ما فيها. طبعاً هذا غير خبرة اهل المدينة المنحوتة في ان كل زائر هو في الحقيقة عدو حتى قدوم الفرس الذين سترى طعنتهم في الظهر لاحقاً. في الحقيقة العرق الوحيد الذي بقيت علاقاته جيدةً جداً مع اليهود حتى الفترة الحديثة هم العرب المسلمين..
 

Avicenna

φιλόσοφος
VbY86k8.png

بعد رحيل ابن مريم عن دير السلام, صارت المنطقة ارض صراعات بين اليهود الذين اعتادوا عليها مملكتاً فصاروا يقاومون الرومان ناظرين لهم نظرة المعتدي الطامع في بلادهم. وهنا اعيد التذكير ان حسب جميع المصادر التاريخية تقريباً, اليهود في دير السلام لم يكونوا محبين للرومان على الاطلاق ويُذكر انه اليهود كانوا يرمون الجنود الرومان بالرماح من على سطوح المنازل حتى وصل بهم كرههم لردم جميع الجسور المؤدية للمدينة حتى يكونوا حصناً منيعا يرفض القدم الأجنبية.

يُذكر أيضا ان القائد العسكري اغريبا (من طرف الرومان) جاء بنفسه ليرجوا من اليهود إعادة التفكير قبل دخول الحرب مع الإمبراطورية. واقنعهم بذلك بعد ان ذكرهم بأهمية الهيكل وكيف ان عليهم تجنب أي حروب قد تقود لنفس نتيجة الثورة ضد بابل. ولكن اجتمع بعض رجال الدين وقرروا ان التضحية من اجل الإمبراطورية كفر برب موسى وان عليهم ان لا يجيبوا ظلم الرومان بالرضوخ ولكن بالسيف!

وهنا تكون لدينا حرب أهلية بين الثوار الذين اخذوا بزمام الأمور في الهيكل وبين باقي اليهود الذين سكنوا شمال المدينة. وصلت الصراعات بين اليهود حتى صاروا يترامون بالرماح والمقاليع. وبالطبع قررت الإمبراطورية ان تُعين المعتدلين من اليهود وترسل لهم ما يقارب الثلاثة الف من الخيالة المتمرسين. ومع ذلك, المنتصر كان من طرف الثوار وبالأخص بعض الفرق المتشددة (سياسياً وليس دينياً) حتى انهم خرجوا عن طوع رجال الدين وصاروا يحرقون منازل كبار الكهنة والقادة العسكريين (فكر فيهم على انهم ردة فعل نفسية من الشعب اشبه بنار اكلت الأخضر واليابس) وتهدم الحصون، وتحرق المنازل, وتبني الفرق السياسية المتطرفة حتى كثرت النزاعات الداخلية في دير السلام وسيطر المتشددون من الثوار على المنطقة كلياً فصارت عساكرهم تبطش بالناس حتى ذُكروا على انهم اعتى واشد من الرومان انفسهم. غير هذا فهم لم يكونوا لجانب الدين اليهودي بالضرورة بل العكس تماماً (وهذا ظاهر بعد قتلهم لكبير المعبد). ومع ان نهاية هذا الصراع كانت بمثابة التحرير الكبير لدير السلام من السيطرة الخارجية الا ان ذلك لن يدوم كالعادة!


كانت فترة الثورات في دير السلام بمثابة الإهانة العظيمة لروما وبعد بضع أسابيع من خروج الامبراطور الروماني تيتوس لتدمير دير السلام وقمع أي معارضة, شهدت دير السلام عظمة الإمبراطورية بعد ان دخلوها بأيام وقتلوا كل معارض! بعد ذلك نهبوا ما فيها وحرقوا الهيكل عن بكرة ابيه..

ويترك تايتوس دير السلام ويعود لروما ليحتفل بالنصر العظيم في الشرق حتى انه اخذ معه كل الأموال وقادة الثورة من اليهود وغيرهم من كبار رجال الدين ليحيلهم للعقاب في روما ويجعلهم عبرة لمن يقف امام امر روما وسيادتها. تم استخدام الكثير من من الأموال المنهوبة لبناء المعابد في روما وتطوير العمران في ذلك الوقت وانتهى الامر بالكثير من الاسرى ميتين بعد أيام من الوصول لروما حسب بعض الاخبار.

وصل بطش الرومان بعد تدمير دير السلام لاستعباد الباقين فيها من اليهود حتى كان ايسر على الرجل من اليهود ان يحتضن عائلته ويقتلهم بعدها بيديه كي لا يُستعبدوا! والسند الوحيد لهذه القصة قادم من يوسيفوس فلافيوس (وهو مؤرخ روماني يهودي عاش خلال القرن الأول للميلاد) والذي ذكر ان الفترة تلك كانت كلها انتحارات او استعباد ولم يبقى الا القليل من اليهود المختبئين ممن يرفضون الحكم الروماني.

وفي عام 130 جاء الامبراطور لدير السلام وقرر ردم المدينة كلياً حتى انه غير اسمها ليكون إيليا كابيتولينا وصارت محض مدينة رومانية. واكيد ان الامبراطور قام بحضر أي شعيرة مذكورة عند اليهود في التوراة وكان عقابهم عليها بالموت فانقطع اليهود عن ذكر ربهم حتى قال رجال الدين فيهم ان الهيكل لن يُعاد بنائه مرة ثانيةً لغضب الله عليهم.

ومع ان حكم الرومان الوثني لدير السلام كان قصيراً للغاية الا اني وضعته في كتاب لوحده حتى ابين أهمية تلك الفترة في تاريخ دير السلام. هدم الهيكل الثاني لم يكن مثلما فعلت بابل باي شكل من الاشكال!

فالهدم الأول كان شكلاً من اشكال العقاب ولكن الثاني كان تغييراً محورياً للمدينة اشبه بذلك أيام اليونان ولكنه جعل من دير السلام ارضاً لروما لن ترى فيها وجوداً لدين إبراهيم على الاطلاق! بالعكس, كل المعابد هناك كانت تبجل الهة مصر واليونان وروما ولو وجدت يهودياً واحداً يتعبد فهذه كتحصيل البوذي في مكة..


ببساطة, الأرض رومانية ولم يبقى لدى الفئة القليلة من اليهود الا ان يصلوا سراً ثلاث مرات في اليوم ويدعوا اله موسى ان يرسل عليهم المسيح ليخلصهم ويبني لهم الهيكل. وكالعادة يخرج بعض الثوار من إسرائيل ليُقال انهم هم احفاد داوود الذين سيخلصون دير السلام من شر الطغاة ولكن هذه الحيلة لم تنفع مع الرومان مثلما نفعت مع من سبقهم وكانت النتيجة هي نهاية الوجود اليهودي بالكامل بعد عدة حصارات ومجازر قتلت ما يقارب الملايين من المعارضين في اقل من أسابيع!

TNRSJnI.jpg

في عام 312 للميلاد احتل قسطنطين الأول إيطاليا وحاز على نصر تاريخي وقيل انه ليلة ما قبل الحرب رأى صليباً مرسوماً في السماء ومنقوشاً على الشمس العبارة التالية: "بهذا الرمز ستفتح البلاد" (لا تسألوني كيف رأى النقش على الشمس). امر قسطنطين بنقش الرمز على دروع جنده حتى ظفروا بالنصر ليقول بعدها قسطنطين: " هذا النصر من اله المسيحيين العظيم".

ومع ان الدراما كثيرة في هذه القصة الا انها حقيقة ومدونة من قبل الرومان قبل النصرانيين واليهود!

غير هذا فطريقة طرح القصة تلك ونتيجتها متفقان مع اهداف قسطنطين روما حيث كان يرى ان العالم يحكمه رجل واحد ودين واحد. طريقته في الحكم كانت مريضة بعض الشيء حتى انه كان يقتل اعز المقربين منه خوفاً من ان يهددوا حكمه في المستقبل (حسناً, هذا الامر طبيعي في الحقيقة للملوك). ومع انه محب للسلطة الا انه كان يدرس الشعر والادب ويحب الرياضة ومناظرة الفلاسفة. لا احد يدري ما السبب الفعلي وراء اختياره النصرانية لتكون الدين الواحد لإمبراطوريته -لعلها تلك القصة التي ذكرناها في البداية وحسب (&)- ومع ان الكثير يقارنون تحوله للنصراني بتحول "باول" اثناء رحلته لدمشق, الا ان تبنيه النصرانية في امور الدولة والحكم لم يكن بتلك السرعة.

يُذكر ان قسطنطين كان يُقارن نفسه بالحواريين ويقول ان عيسى حَمَلُ بني إسرائيل صار الهاً للنصر بيد روما. هذه الاقوال وغيرها ترجح على ان تبني قسطنطين للنصرانية لم يكن لاهوتي الأصل، ولكنه تبناها اكثر كرمز للدولة.

قسطنطين نجح في توحيد امبراطوريته شرقاً حتى وصل لأرض بيزنطيين واسس المدينة التي عُرفت بعدها بالقسطنطينية. قرر بعد ذلك ان يجعل النصرانية عموداً لحكمه برفض الوثنية وتوحيد الناس على مفهوم الكنائس وعبادة اله عيسى الأوحد. وغير المبادئ الأساسية فهو ايضاً ركز على الأمور الثانية مثل ترك التضحية لغير الله وترك عادات التسلية الرومانية التي تناقض المفهوم النصراني (لكنه استبدلها بثورة عظيمة لسباق العربات! صدقوني عندما أقول ان الرجل ذاك كان داهية زمانه..)

على عموم القول، امبراطورية قسطنطين كانت اشبه بالأحلام، ولكن بعدها تشرق الشمس لتعيده للواقع المر. المشكلة في النصرانية انها ليست باتزان دين موسى على سبيل المثال وليس فيها دُستور ثابت ينقاد فيه الناس. في الحقيقة, لم يتفق كتبة الكتاب المقدس على ماهية المسيح فما بالك بالباقي؟

وبانتشار النصرانية صار الناس يتناظرون في هذه الأمور كما يتناظر الناس في السياسة هذه الأيام فمنهم من يقول ان عيسى رجل بصفات نبي وليس اكثر ومنهم من يقول انه اقرب للإله منه للبشر وهكذا بقي الحال حتى ان الناس صاروا يثورون ضد فلان لأنه قال كذا فتاتي الدولة لتحل المشكلة وتنهي النقاش وافضل مثال كان من اريوس حكيم الإسكندرية الذي قال ان عيسى مجرد بشر يعبد الرب فصار يُنظر اليه كانه مهرطق من قبل اهل الإسكندرية. ومع تأزم الامر, جمع قسطنطين الأساقفة ليعطيهم حله المثالي!

فلماذا يتنازع الناس على ماهية المسيح اصلاً؟ ماذا لو كان المسيح انساناً والهاً في الوقت ذاته!

مفهوم ان عيسى واحد مع الرب تم قبوله رسمياً كالنتيجة الفعلية والحل الوحيد للنصرانية وصارت لدى قسطنطين اموراً ثانيةً للقلق حيالها غير نزاعات الشعب اللاهوتية..

قرر قسطنطين زيارة تلك المدينة المسماة إيليا حتى يبني دير سلام جديدة يحكمها اسم المسيح ورمز الصليب وقرر تعجيل بناء المدينة لتكون مركزاً ثقافيا ودينياً لإمبراطوريته! هذا وقد ارسل الامبراطور كمية من المنقبين حتى يجدوا مكان دفن المسيح ويبنوا كنيسةً هناك (تعرف لاحقاً بكنيسة القيامة لقيام المسيح من بين الأموات حسب الإرث النصراني). المثير للسخرية ان الرومانيون بنوا هيكلاً لعبادة الهتهم في مكان دفن المسيح ومكان صلبه كذلك حتى يقوموا بتدمير أي اصل تاريخي للمدينة ولكنهم بذلك حافظوا على المواقع التاريخية ليتم التنقيب عليها لاحقاً في زمن قسطنطين! ليتم بعدها بناء قدس جديدة رجع لها "التوحيد" بعد ان سكنتها الهة الاسبقين لقرون..

ازدهرت دير السلام وفتحت طرق الحج لتوافد اليها الكثير من الاوربيين الذين اعتنقوا الدين الجديد حتى تكون اشبه بعاصمةٍ دينية للإمبراطورية. ولكن هذا لا يعني ان دير السلام عادت لأحضان اليهود, بل العكس!

امر قسطنطين جنده بقتل الكثير من اليهود "قتلة المسيح" والتقليل من قيمة شعائرهم ومنعهم من بناء أي معبد لهم في دير السلام. هو أيضا قام بفرض النصرانية على الباقين منهم وحرق كل من يرفض ان يترك اليهودية ويصير نصرانياً. ولكن بقي بعض اليهود مكافحين وحاملين لتوراتهم سراً يتعبدون ربهم على جبال صهيون ويبكون راجين عفوه ومغفرته..

تَتَلوَنُ صفحات التاريخ بتغير غريب للأحداث بعد موت قسطنطين ونزاعات عائلية على السلطة حتى وصل الحكم لابن اخ قسطنطين البالغ خمس سنوات عند توليه الحكم والذي قرر بقدرة عليم حفيظ ان يعيد المجد كله لليهود! هو ذهب ببساطة لدير السلام وسأل اليهود عن سبب عدم تضحيتهم لأله موسى فأجابوه ان الهيكل قد هدم ولا يُسمح لهم فما كان جوابه الا ان يقرر إعادة بناء الهيكل للمرة الثالثة!

ولقد لاقت سياسته الكثير من القبول من جانب اليهود المشردين في فارس وبابل حتى انه قرر ان يباشر العمل على الهيكل بأسرع وقت ممكن حتى لا يتهمه الناس بضعف الكلمة وقلة الحيلة. وبالفعل جاء بأفضل الايدي العاملة في الإمبراطورية وجهز مواد البناء في دير السلام حتى عادت البلاد لتكون تحت امرة اليهود نسبياً. قرر الامبراطور ان يترك أمور البناء بعد ذلك ليشن حملةً على الشرق ويحتل فارس.

وفي عام 363 ضُربت دير السلام بزلزال نجم عنه حرق جميع مواد البناء (لا تسألوني كيف ولكن عندكم الحكم هنا). وبهذا فرح النصارى وأعلنوا ذلك رفضاً الهياً لموضوع الهيكل الجديد. ومع ان تلك كانت مصيبةً عند اليهود الا انهم قالوا بانتظار عودة الامبراطور من الحملة حتى يجد لهم الحل ويقيم العدل!

ولكن هيهات، كان الامبراطور قد تراجع بعد عبوره دجلة ومحاربة فارس بما يقارب السبعين ألف جندي. وبعد وصوله سامراء، طعنه جندي عربي من الأنصار برمح حتى قتله وقتل معه التسامح اليهودي المفاجئ ذاك ليخلفه احد القادة الذين اعادوا كل شيء لطبيعته ورجع اليهود يتمنون قدوم المسيح وبناء هيكلهم..

وفي بدايات القرن السادس للميلاد, قررت فارس التحرك بمساعدة اليهود بعد اخذ العراق وسوريا من ايدي الرومان حتى وصلت بقوتها للقسطنطينية! وبعد ضعف الرومان, تمكنت فارس من اخذ دير السلام بليلة وضحاها واعطائها كهدية لليهود المتعاونين لتكون هذه ثاني مرة ترجع فيها دير السلام لليهود على يد فارس!

ليس ذلك فحسب, بل قام الجيش الفارسي بترحيل النصارى من المدينة وإعطاء اليهود الحق الكامل في قتلهم بعد ان كانت كل شيء معكوساً قبل أيام! فتخيلوا ماذا فعلت اليهود في النصارى الذين حرموهم من حقهم في العيش والعبادة..


ولكن لسخرية القدر وبعد ثلاث سنين من الحكم اليهودي للمدية, استنتجت فارس ان ورقة يهوذا قد تم حرقها والمسيحيين انفع لهم من اليهود في كسب باقي الأراضي ليقوموا بأخذ الحكم من اليهود (ويا فرحة ما تمت) وقتل ملكهم بعد حكم ذاتي دام لثلاث سنين لتكون تلك اخر فترة يحكم فيها اليهود دير السلام حتى القرن الماضي!

يتبع..
 

Avicenna

φιλόσοφος
fNx6cuS.png

ولد محمد ابن عبد الله من قبيلة هاشم في شبه الجزيرة العربية. مات ابوه قبل ولادته وماتت امه اثر بلوغه السادسة من العمر فكفله عمه. وذُكر ان عمه كان يأخذه للشام في ركب للتجارة حتى وصلوا بصرى فمر هناك على راهب يدعى بحيرا وقيل انه كان خبيراً في شؤون النصرانية لتكون تلك اول مرة يرى فيها النبي مقاماً لدين ابراهيمي ويستفسر في شأنه. ترجح كذلك بعض المصادر على انه درس الانجيل من ذلك النصراني (حتى يُبينوا سبب تشابه الإسلام بالنصرانية في بعض الامور) ولكن لا دليل على ذلك وبالأخص ان درسة الكتب المقدسة في الشام ليسوا كالعرب فهم يعتمدون الكتابة والقراءة في نقل النصوص وهذه كانت للغات عدة كاليونانية والعبرية والآرامية وغيرها..

وعند بلوغه العشرين من العمر لقي خديجة بنت خويلد وعمل لها في التجارة حتى تزوجا وهي تكبره في العمر لتكون الداعم الأساسي للنبي عند بعثته. وتصف كتب التاريخ النبي على انه رجل وسيم الهيئة اجعد الشعر واللحية ذا هيبة وكاريزما عالية في كل تصرفاته حتى قيل انه لم يكن الشخص الذي يجر يداه اولاً بعد المصافحة. كان معروفاً ايضاً بحسن خلقه وفطنته العالية ليقول أصحابه فيما بعد انه كان افضل الناس فيهم.. وكما الحال في موسى وداوود وعيسى, من الصعب على التاريخ ان يضع العلاقة بين الشخصية العظيمة باصلها وانتاجات تلك الشخصية ولكن هو جاء بين قوم في امس الحاجة له. فالعرب في ذلك الوقت كانت قطعاً للشطرنج تتلاعب بها روما وفارس, يقتل فيهم الأخ أخيه ويدفن الاب عندهم ابنته..

وفي خارج مكة كان النبي يتأمل في غار حراء حتى نزل عليه الملك جبريل ليبلغه رسالة ربه ويعطيه البيان انه نبي هذه الامة. في بداية الامر كان النبي خائفاً لا يدري ما حصل له ولكن سرعان ما تقبل رسالة جبريل بدعم من زوجته خديجة التي كانت اول المصدقين بنبوته. جاء الإسلام بمتغيرات عدة للعرب فصار عندهم دستور يضاهي ما جاء بني إسرائيل وما انتفعت به الرومان بل ويتجاوزه! فكان القرآن كتاباً اجتماعياً وثيولوجياً وضع البنيان الأساس لامة يغلب فيها العدل والمساواة واهمية العمل.

كل هذا وكان قائد تلك الامة رجل اشبه بكاريزما داوود بين بني إسرائيل ليكون الإسلام ديناً ابراهيمياً جديداً يُظهر كمية الفساد الذي حصل في ارض اليهود دير السلام ووجد المسلمون ذاك من ردة فعل اليهود العرب الذين كانوا مصدومين من انقياد تعاليم محمد بتوراتهم حتى ان بعضهم قال انه هو المسيح الذي ينتظرونه وبعضهم قال انه هو النبي الموعود الذي بُشر بإخراج العرب من جاهليتهم ولكن بقي عداء اليهود الداخلي ورفضهم للنبي قائماً كونه لم يكن من بينهم (أي من نسل إسحاق) فنظروا له على انه مؤسس المملكة التي وعد الله بها ابن إبراهيم الثاني إسماعيل فكان اشبه بملك حكيم لبعضهم.

وفي ليلة من الليالي (قيل ان النبي كان ينام بجانب الكعبة) ايقظه جبريل النبي واخذه في رحلة على شبه حصان مجنح اسمه البراق لما سمي بالمسجد الأقصى (الاسراء) وبعدها ذهب للسماء (المعراج).

وبعد موت زوجته وعمه, قابلت قريش محمد بالرفض وحاولوا قتله ولكنه (مع جماعة من تابعيه) قرروا ان يهاجروا ليثرب هرباً من بطش قريش وقمعها لهم. وكان في يثرب تعدد اثني فكان يسكنها اليهود وعبدة الاوثان ولكن سرعان ما تكونت قوة الإسلام في يثرب لتتكون من المهاجرين والانصار (ممن أعان المهاجرين في يثرب) وبتحالف مع القبائل اليهودية. ليس هذا فحسب, بل قام المسلمون ببناء اول مسجد لهم في المدينة وكانت قبلتهم دير السلام وفيها المسجد الأقصى الذي اسرى الله به النبي.

وبعد خروج قبائل اليهود في المدينة عن طوع النبي, تغيرت قبلة المسلمين من دير السلام لمكة ذكراً وتذكيراً لليهود بتركهم التوراة وخروجهم عن دين موسى حتى ان الله غضب عليهم ودمر الهيكل على يد الرومان. الإسلام آن ذاك كان في منطقة ضعف حيث كان بين خيانة القبائل اليهودية في يثرب وبين هجمات قريش من مكة حتى ذكر التاريخ ان المسلمين قتلوا سبع مئة رجل من اليهود تحت تهمة التآمر وكسر القوانين التي وضعها النبي في المدينة. وفي عام 630 للميلاد, فتح النبي مكة لينشر التوحيد الابراهيمي في ارض العرب. وكلما اقتربت حدود المسلمين من روما وفارس صارت شراستهم في الحرب اعتى ولذلك تدون الكثير من كتب التاريخ الاوربية ان الإسلام في ارض العرب كان بمثابة الحكم القسري والتحول الاجباري ولكن ذلك ليس بمثبت بل العكس. تذكر الكثير من المصادر العربية ان ارض العرب كانت هي المبادرة بأخذ الإسلام بعد فتح مكة وذلك لان العرب يأخذون بيد القوي وهذه نقطة ليسوا بمنكرين لها. فمنذ البداية كانت الحرب مع قريش شيئاً لا مفر منه حتى يكسب الإسلام ارض العرب وخارجها هي حرب سياسات وممالك معتادة في التاريخ الكلاسيكي.

وبعد موت النبي خلفه صاحبه أبو بكر الذي قاوم النزاعات التي ظهرت في ارض العرب بعد رحيل النبي وتمكن بخبرته وحنكته السياسية من قمع "الثورات" وتوحيد العرب ثانيةً تحت راية الإسلام ليوجه المسلمين بعد ذلك سيوفهم تجاه فارس وروما اللتان افسدتا في العراق والشام ولعبتا بالعرب بيادق على مدى القرون الكثيرة الماضية. الوجهة كانت فلسطين والعراق!

*وحتى نوضح بعض الاصطلاحات، كنت ارمز لمنطقة فلسطين بدير السلام بشكل عام في الكتب الثلاثة الماضية وذلك لمحورية اليهود وهم اول المسمين لها بذلك الاسم ولكن اسم المدينة قد تغير لايليا كما قلنا وصارت هي نفسها جزئاً من منطقة اكبر سماها اليونان بفلسطين حسب ذكر البعض (واعادت روما ذلك الاسم) لتكون تلك هي التسمية الشائعة للمنطقة في ذلك الوقت. بالنسبة لدير السلام فلن استخدم إيليا فيما بعد، ولكن هي دير السلام او القدس مثلما سيسميها العرب واليهود لاحقاً ولكن يجدر التذكير ان دير السلام هي ترجمتي للاسم العبري وليس اسماً موجوداً ومستخدماً من قبل العرب (على الأقل ظاهرياً لان ابن سينا ترك النبش عند تلك النقطة)..

وفي عام 640 للميلاد, يكتب لنا اول مؤرخ مستقل عن رسول الإسلام ويعطي لمحة عن أوضاع المنطقة ليقول بحرب نشبت في غزة بين اتباع محمد والرومان. وبعد هروب الرومان من الحرب, استعد هرقل لمعركة أخيرة يكون حصنه فيها سوريا ولكن العرب طلبوا العون من ابي بكر ليرسل لهم خيرة جنرالات الإسلام في ذلك الوقت وكان ذلك خالد ابن الوليد (والذي كان في العراق في تلك الفترة). وبعد ستة أيام على ظهر الخيل في صحراء غرب العراق وصل خالد لفلسطين ليُعينَ الجيش هناك حتى يخلصوا المنطقة من السيطرة الرومانية.

كان خالد من ارستقراطيي مكة وعبقري عسكري من قريش وقادتها الذين حاربوا النبي في بداية بعثته ولكن سرعان ما دخل الإسلام وصار سيفاً مرعباً لممالك عظيمة مثل فارس وروما. وبذلك انظمت قوتا خالد والشام (بقيادة الأول) ليدمروا جيش البيزنطيين جنوب غربي دير السلام ويلحقوهم حتى فتحوا دمشق!

وفي ذلك الوقت مات أبو بكر ليترك الامر من بعده لعمر ابن الخطاب صاحب الرسول ومن المقربين له. قرر عمر عزل خالد واخذ القيادة منه بعدما رأى قدر المال الذي جمعه والسلطان الذي ساد به حتى صار اسطورةً يقف على قمة انتصارات المسلمين.

ارسل هرقل الامدادات لايقاف تقدم العرب المرعب ولكن عمراً ارسل له الجيش بقيادة أبو عبيدة وخالد تحت امرته حتى تلاقى الجيشان عند نهر اليرموك بين سوريا والأردن اليوم. وفي ذلك اليوم يخطب خالد بالمسلمين ذاكراً ان ذلك يوم من أيام الله فلا ينبغي فيه الفخر ولا البغي وفوق قيادة المسلمين العسكرية وتخطيطهم السريع, تهب عاصفة ترابية تعمي جيش هرقل وترسلهم لتلال اليرموك حتى اذا وصل المسلمون بعد الحرب وجدوا الباقين منهم متعبين لا يقدرون على حمل السيف. وبذلك قُتل اخو الملك وخسرت روما سلطانها على ارض الشام ليدون العرب معركة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً منذ زمن بابل حيث اخذ العرب الجدد في ساحة الحرب فلسطين وسوريا من امبراطوريةٍ كانت تراهم قطعا قبل أيام..

ولم يرتح المسلمون حتى ارسلوا جيشاً ثانياً لإكمال فتح العراق وفارس لتسقط الأخيرة ايضاً على يد العرب المسلمين ويكملوا بذلك اكتساحهم لاثنتين من اعظم امبراطوريات التاريخ.

ومع ان العرب فتحوا فلسطين واخرجوا البيزنطيين منها الا ان دير السلام لم تفتح أبوابها للعرب وبقيت حصناً دفاعياً يرفض دخول الأسلام. في ذلك الوقت كانت المدينة تحت رعاية البطريرك صفرونيوس والذي وجد ان العرب كانوا تسليطاً من الله بعد عصيان النصارى وتركهم دينهم. ويدخل عمر ابن العاص محور المدينة المسماة إيليا وهي دير السلام او القدس ليستعيد حنينه للمدينة التي عرفها منذ الصغر وكان له ارض بمقربة منها كذلك. وبعدها بقليل, وصل خالد وباقي الجنرالات لينظروا في امر دير السلام التي لم تختر الحرب ولكن بقيت أبوابها مغلقة في وجه المسلمين. وصل بلاغ صفرونيوس في انهم لن يسلموا القدس حتى يأخذوا ميثاقاً من المسلمين بالسلام وحرية العبادة. وقرر عمر ان يجعل خالد الوسيط بينهم وبين مكة ولكنهم رفضوا ذلك وارادوا الخليفة بنفسه لكي يعهد لهم بالسلم. ويحضر عمر لدير السلام ليعهد للنصارى بالأمن والسلام من جهة المسلمين بل وتعهد بالحماية مقابل دفع الجزية المذكورة في الإسلام (هذا كان لأهل دير السلام وهو لم يقابل صفرونيوس بعد).

يذكر المؤرخ سيباغ كيف كان عمر شخصاً ضخماً ومهيباً يلبس الملابس البالية ويركب حماره برفقة رجل واحد من الخدم (ولعله لخدمة الحمار ايضاً لو كنت لأحزر). وفي كتب التاريخ نرى من عمر (وصحابة النبي بشكل عام) مظهراً غريباً لم يستوعبه المؤرخين لكونهم وُجدوا في عصر الملوك الذين يتباهون بجاههم وسلطانهم!


QJxonRC.jpg

وحين رأى عمر دير السلام من على جبل المشارف, امر المؤذن لإقامة الصلاة ليركب بعدها جملاً ويتجه لمقابلة صفرونيوس. ويجلس صفرونيوس في مجلسه مع باقي البينزنطيين المتبرجين بالحلي منتظراً الملك البربري الذي قهر روما. ولعله من الصعب تصور الموقف ولكن صدقوني لو اذا قُلت ان دخول عمر عليهم هو امر عسير على كل جالس ولو كانوا عرفوه لما طلبوه. فعمر قائد ضخم مصارع في صغره تغمره هيبة معروفة بين عظيم الملوك ولكن بساطته توحي بهيبة اشد. كان يُقال انه اذا دخل محمد مجلساً بقيت النساء والأطفال يضحكون ويتكلمون ولكن الجميع تخرس اذا دخل عمر. غير الهيبة فهو ذو انجاز سياسي باهر بعد بدايته بجمع القرآن ووضعه التاريخ الهجري. طبعاً هذا غير شدته الغير مسبوقة في تطبيق القانون (وعدل التطبيق الذي ارعب القريب قبل البعيد).

اعطى صفرونيوس عمر مفاتيح المدينة المقدسة ووصف العرب بعد رؤيته إياهم بارجس خراب وذلك لبساطتهم ومظهرهم الذي لا يوحي بمظهر الجبابرة الملوك (ذا الرجل لن يسعد حتى يأتيه نبوخذنصر ويضعه في قفص الأسود).

عرض صفرونيوس على عمر الصلاة في كنيسة القيامة ولكنه رفض معللاً رفضه بأن لا تكون الكنيسة مكان عبادة للمسلمين بعد ذلك. طلب عمر ارشاده لموقع هيكل داوود ليدخلوا من باب النبي في الجنوب ويجدوا المكان مردوماً بروث الدواب وهي طريقة إهانة البيزنطيين لليهود في ذلك الوقت. سأل عمر عن موقع قدس الاقداس واجابه كعب الاحبار بان لو ترك الخليفة السور (ويقصد السور الغربي) ارشدته للباقي من خراب الهيكل وبذلك وصلوا للصخرة الأساس للهيكل وهي ما سماها العرب بالصخرة. ازاح عمر ومن معه الركام حتى يضعوا مكاناً للصلاة فرأى كعب الاحبار ان يكون شمال الصخرة حتى تكون قبلة المسجد هي قبلة موسى ومحمد ولكن عمر اختار ان يضع المسجد جنوب الصخرة فالقبة مكة وحدها وهذا تقريباً هو المكان الذي يوجد فيه المسجد الأقصى اليوم.

يجدر الذكر ان المؤرخون يرجحون بدخول الكثير من أمثال كعب الاحبار في الإسلام (من النصارى واليهود) وذلك لوضوح الإسلام وثباته بالإضافة على تركيزه لمفهوم الوحدانية حيث كان المسلمون يفضلون لقب مؤمن على مسلم عند ذكرهم انفسهم فصاروا مثلاً يُقتدى به عند اهل الكتاب. شيء ثاني شجع على تعايش اليهود بالأخص مع المسلمين ان اصل الإسلام لا يرفض اغلب مفاهيم التوراة بل يشدد على الكثير منها وهذا غير ان تسمية المسلمين "بيت المقدس" هي ذاتها التسمية العبرانية للمدينة والتي رفضتها روما. يقول المؤرخ سيباغ ان العرب كان لديهم سبعة عشر اسماً لدير السلام وكان لليهود سبعين والاثنين يرون ذلك دلالة على عظمة المدينة.

كان للنصارى واليهود كامل الحريات داخل المدينة بالإضافة للسلام التام مادام المسلمون هم الآمرين فيها. ليظل اليهود والنصارى محفوظين للألف سنة ونصف القادمة مع بعض اعمال التعنيف والقمع من قبل بعض الخلفاء المسلمين.

ومع ان عمر لم يرد من المسلمين مزاحمة اهل الكتاب في كنائسهم ومحاريبهم الا ان المسلمين كانوا يصلون بجوار اليهود والنصارى لسنين لنرى اليوم بقايا كنيسة يحيى المعمدان في المسجد الاموي. بالإضافة لذلك فقد كان الكثير من المسلمين يصلون بجوار كنيسة القيامة ولم يروي التاريخ أي مشاحنات بينهم وبين اهل الكتاب بل العكس!

فبالنسبة لليهود صار لديهم حماة اعظم مما جاءهم من فارس أيام نبوخذ نصر ومفهوم قمع البيزنطيين الذين لم يتركوا لهم شيئاً من دير السلام كانت بمثابة توبةٍ من الله حتى تساوت الفرقتين والمسلمون كانوا فوقهم درجة. تطوع الكثير من يهود المدينة بعد ذلك للانظمام لجيش عمر وهذا كان بعد اعطائهم شرف ادامة المسجد الأقصى وتنظيفه بعدما دمره الرومان, وبعد ان صار المكان صالحاً للعبادة سُمح لليهود بالصلاة هناك رفقةً للمسلمين.

يذكر المؤرخ سيبوس الأرمني ان بعد ثلاثين سنة قرر اليهود ان يعيدوا بناء الهيكل ويذكر البعض انهم بنوا جزئاً منه بالفعل عند قدس الاقداس. يُذكر ان هذا كان بعدما عين عمر رجلاً يهودياً ليكون اميراً على دير السلام. عمر استدعى بعدها سبعين من قبائل اليهود الصغيرة حتى يرجعوا لدير السلام ولكل ذلك الأثر في جعل العرب يأخذون الميدالية الذهبية عند اليهود من ناحية الحماية والسلم هامزين بذلك فارس ومصر.

الان عزيزي القارئ عليك ان لا تبالغ في نظرتك تجاه دير السلام.. فالتعايش اليوتوبي ذاك كان واقعياً ولكن فلسطين بقيت فقيرةً يأكلها الطاعون والشكر لطعنة الغدر الأخيرة من قبل الفارسيين. وضع عمر في الشام افضل التجار وأصحاب الأموال العرب من قريش فهم كانوا محبين لها وقادرين على اعادتها لما كانت عليه.

لم يذهب عُمر برفقة خالد وعَمر فحسب. بل كان معهم شخص آخر اسمه معاوية ابن ابي سفيان. أبو سفيان كان من كبار قريش وقلباً لمعارضتهم لمحمد ودينه. وام معاوية اكلت كبد عم النبي حمزة بعد معركة احد...

بعد فتح مكة عين النبي معاوية ليكون وزيره في مكة وتزوج اخته لذلك قرر عمر ان يعينه والياً على سوريا ليرمز له الناس بعد ذلك بقيصر العرب. معاوية كان كل شيء لا تجده في عمر تقريباً ولن تبرح حتى تجد معاويةً يحكم الناس كما حكمتهم روما لولا وجود الإسلام.

حكم معاوية دير السلام لأربعين سنةً بدايةً بولايته في سوريا ونهايةً بتقلده الملك ليكون امير العرب وحاكم الإمبراطورية الواسعة التي بناها من سبقه من الخلفاء. وخلال فترة حكمه تلك, دخل المسلمون في حرب أهلية كادت تقتل الإسلام وصنعت شرخاً بين المسلمين حتى يومنا هذا. بدأت الفتنة بين المسلمين بعد اغتيال عمر لتنتقل الخلافة لعثمان ولكن سرعان ما كره الناس قرابة الأخير من قريش فقتلوه ليخلفه علي ابن عم الرسول وزوج ابنته علي ابن ابي طالب. الحرب الاهلية بدأت في خلاف يعني بالثأر لعثمان ولكن علياً رفض ذلك فزاد من خوف معاوية بخسارته ولاية سوريا وانتهت الحرب بمقتل علي في العراق لينتهي معه عهد الخلفاء الراشدين.


oUTTlx0.png

وفي عام 661 اجتمع قادة الشام ليبايعوا معاوية حتى يكون اميراً عليهم. ذهب بعدها معاوية لموقع الهيكل وقبر مريم العذراء ليكمل هيكلية عمر السياسية في التسامح وبقاء العهد في حماية اهل الكتاب. ومع انه حكم من سوريا الا انه احب دير السلام وصك عملةً نقش عليها إيليا فلسطين. ومع ان معاوية كان مختلفاً كلياً عن عمر من ناحية الأفكار والتصرفات الا انه كان اقرب منه حتى لليهود والنصارى فوصفوا حكمه بالعدل والتعايش ولقبه اليهود بمحب إسرائيل.

كان حكم معاوية مقرباً للغاية من اليهود في إسرائيل وهذا لأنه عاشرهم في صغره حتى انه سألهم مرة ان يعدوا له طبقاً يهودياً احب اكله في صغره. هو ايضاً تزوج من امرأة نصرانية (وبقيت نصرانية) فكان مقرباً لاتباع المسيح في دير السلام كذلك. وبعيداً عن كل هذا فقد شيد المساجد والمباني ووصل بدير السلام وفلسطين لازدهار اقتصادي وسياسي. استخدم معاوية سياسة الحلم وكان مفضلاً للنقاش كارها للإجبار وسياسة السيف ليكون بذلك دليلاً على ان الأنظمة الشمولية قد لا تعني الفساد والخراب بالضرورة.

وصل معاوية بإمبراطورية المسلمين لأقصى الشرق حتى وصل بجيشه شرق فارس واسيا الوسطى. وقاد بعدها حملات كثيرة تجاه القسطنطينية حتى يُذكر انه سيطر عليها براً وبحراً لمدة ثلاثة سنين. ومع انه كان اميراً محباً للقوة لم يمشي على طريق الخلفاء الراشدين الا انه لم يكف عن حس الدعابة والضحك على نفسه فكان بذلك سهلاً على حاشيته بسيط التعامل وبعيداً عن سرعة غضب الملوك المعهودة..

وبعد موت معاوية في الثمانين من العمر خلفه ابنه يزيد ولكن الأخير قابلته الثورات في شبه الجزيرة والعراق حتى دخل الإسلام في حرب أهلية ثانية انتهت بمقتل حفيد رسول الله الحسين ابن علي في كربلاء في العراق..

مات يزيد صغيراً نسبياً ليخلفه مروان ثم ابنه عبد الملك الذي كان قد صار اميراً على دمشق ودير السلام ولكن الأخير خسر السيطرة على مكة والعراق وفارس حتى صاروا يُدارون بيد المتمردين وقطاع الطرق.

سرعان ما خرج الأمير ليعيد العراق وفارس وقمع جميع المتمردين ويعذبهم امام الناس حتى يصيرون عبرةً لمن بعدهم. ولكن مكة بقيت خارج سيطرته (حتى استعادها بعد حين من دون سفك الكثير من الدماء) وهو ايضاً قرر التركيز على بناء وتعمير بلاد الشام محبوبته ومحبوبة من قبله. وكان من اهم إنجازاته طريقاً عاماً بين دير السلام ودمشق وبناء هيكل عظيم عند موقع الصخرة ليكون اشبه بهيكل سليمان ولكنه تحت راية الإسلام هذه المرة. ولعظمة الهيكل الذي بناه عبد الملك تكتب فيه الروايات والكتب حتى قيل انه كان اعظم تشييد معماري في ذلك الوقت اذهل به عبد الملك اوروبا حتى صار العرب في المدينة يسمون كنيسة القيامة بالخيمة مقارنة به.

علاقات عبد الملك كانت ممتازة بالنسبة للمسيحيين ونظر اليها على انهم عنصر مهم في سياسته تجاه بلاد الشام. كذلك كان لديه الكثير من المحاولات لتصحيح عقيدة النصارى وإلغاء الثالوث المسيحي حتى يُقر الوحدانية في دير السلام. لم يُنظر لليهود كأعوان سياسيين ولكنهم كانوا اقرب لحكم الامويين من الناحية الثيولوجية لتوحيدهم الخالص واتفاقهم مع الكثير من المبادئ الإسلامية فصار مسموحاً لليهود ان يصلوا في مساجد المسلمين مع انهم بقوا رافضين الصلاة في كنائس النصارى وهم اقرب لهم نسباً من العرب..

بعد دراسة عبد الملك بن مروان لفترة وجدت ان افضل رمزية لحكمه هي بانه كان قسطنطين العرب. حيث كانت نظرته لنظام الحكم المثالي على انه امبراطورية واحدة يحكمها ملك واحد واله واحد!

قام عبد الملك وابنه بتشييد المسجد الأقصى وبناء جسر يربط بينه وبين باقي نواحي المدينة ليكون مساراً يسلكه الحجيج والزوار. وهنا نقف لنقول ان التسامح الذي بدا به الخلفاء الراشدين وصل بالمسلمين لمرحلةٍ اقاموا فيها مدينةً تقشعر لها الابدان يتجاور فيها اليهودي مع مسلم ومسيحي بلا حروب ولا خيانات ولا تدخلات خارجية. مدينةٌ وصفها التاريخ بالخلابة المشرقة في ذلك الوقت لتكون بذلك جنةُ العالم التي لم يقدر على حكمها غير الامويين.

لم يبني بنو امية لله فحسب, بل هم محبين لمتع الحياة وعظيم التشييد. هم ايضاً احبوا الثقافة والادب مما جعل الناس تراهم معقلاً لمفاهيم اليونان بتحفظ على العسير منها لوجود الإسلام. هنا صارت ارض العرب واسعةً يصل اسمها لأقصى الغرب حتى صارت اسبانيا تحت راية الامويين هي كذلك. ويا اكثر القصور والهياكل الاموية أينما ذهبت في تلك المملكة مترامية الأطراف. وصارت كتب اليونان تترجم للعربية لتكون العربية اشبه بإنجليزية العصر التي تأكل علوم الناس وتصنع علومها الخاصة (وبقي الحال كذلك حتى نهاية العصر العباسي).

يقول ابن خلدون:


"اعلم أنّ العمر الطّبيعيّ للأشخاص على ما زعم الأطبّاء والمنجّمون مائة وعشرون سنة وهي سنو القمر الكبرى عند المنجّمين ويختلف العمر في كلّ جيل بحسب القرانات فيزيد عن هذا وينقص منه فتكون أعمار بعض أهل القرانات مائة تامّة وبعضهم خمسين أو ثمانين أو سبعين على ما تقتضيه أدلّة القرانات عند النّاظرين فيها وأعمار هذه الملّة ما بين السّتّين إلى السّبعين كما في الحديث ولا يزيد على العمر الطّبيعيّ الّذي هو مائة وعشرون إلّا في الصّور النّادرة وعلى الأوضاع الغريبة من الفلك كما وقع في شأن نوح عليه السّلام وقليل من قوم عاد وثمود. وأمّا أعمار الدّول أيضا وإن كانت تختلف بحسب القرانات إلّا أنّ الدّولة في الغالب لا تعدو أعمار ثلاثة أجيال والجيل هو عمر شخص واحد من العمر الوسط فيكون أربعين الّذي هو انتهاء النّموّ والنّشوء إلى غايته قال تعالى «حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً 46: 15»ولهذا قلنا إنّ عمر الشّخص الواحد هو عمر الجيل ويؤيّده ما ذكرناه في حكمة التّيه الّذي وقع في بني إسرائيل وأنّ المقصود بالأربعين فيه فناء الجيل الأحياء ونشأة جيل آخر لم يعهدوا الذّلّ ولا عرفوه فدلّ على اعتبار الأربعين في عمر الجيل الّذي هو عمر الشّخص الواحد وإنّما قلنا إنّ عمر الدّولة لا يعدو في الغالب ثلاثة أجيال لأنّ الجيل الأوّل لم يزالوا على خلق البداوة وخشونتها وتوحّشها من شظف العيش والبسالة والافتراس والاشتراك في المجد"



وهنا يظهر لنا أناس من شرقي الأردن ينتسبون للعباس عم النبي وهم كانوا يترقبون الفرصة للإطاحة بالأمويين المترفين والذين لا يمدون بصلة قرابة للرسول. ظهرت بعدها جماعات من خوراسان تريد ان تكون الخلاقة لبيت النبي، ولكنهم لم يعرفوا ان كان عليهم اعانة سبط علي ام العباس. ولكن انتهى الامر بمقتل الخليفة الاموي على يد أبو العباس وذلك كان الحكم لتكون الخلافة عند بيت العباس وتبدأ بذلك قصة الإمبراطورية العباسية.

مع أن العباسيين كانوا مصيبين في ان بنو امية ابتعدوا عن روح الإسلام في ناحية البساطة وترك الدنيا حتى صاروا مثالاً سيئاً للناس ولكن سقوط الامويين (والذي صادف وقوع زلزال كسر قبة المسجد الأقصى) كان رعباً ليس مثله رعب لأهل الكتاب قبل المسلمين. تخيل عزيزي القارئ السيناريو الحالي لأهل دير السلام! ملوك محبين للبذخ والمال والنساء ولكنهم يعمرون ويبنون ويقيمون السلام في امبراطورية مترامية الأطراف. كان الامويين اشبه بحماة القدس التي كانت تتعرض للنهب والحرق كل سنة تقريباً ولن تحبب دير السلام قدوم مملكة أخرى حيث ان تجارب المدينة كانت كلها سلبيةٌ تقريباً..

اعلن أبو العباس نفسه خليفة وعقد مجلساً مع الامويين حتى يريهم حسن نيته وصلح قراره. وخلال المجلس اخرج النوادل سيوفاً وقاموا بذبح جميع الامويين -بداية ممتازة (&)-. يُقال ان نفس الذي قتل الامويين قاد حملة تصفية لجماعة خوراسان وبعض المنتسبين لعلي. القائم على المجزرة وعمليات التصفية كان اسمه المنصور الذي حول قلب الإمبراطورية لبغداد المدينة المدورة ليكون بذلك المؤسس الحقيقي للدولة العباسية. زار المنصور دير السلام واصلح المسجد الأقصى مستخدماً الباب الذهبية التي اهداها عبد الملك لدير السلام لتغطية التكلفة.


744Qjy6.jpg

تحولت عاصمة الدولة الإسلامية بعد قيام العباسيين للشرق وبالتحديد العراق وهذا كان بعد إعادة التركيز على مكة عاصمةً دينيةً للإمبراطورية بدلاً من دير السلام. يكثر الكلام في خلفاء بنو العباس وانجازاتهم التي أوصلت الإمبراطورية لاوج عظمتها رافعةً المسلمين لعصر ذهبي كسر شوكة الغرب واعلى من شأن المسلمين ليصيروا قلب الفكر والعلوم في ذلك الوقت. ومع عظمة ذلك التاريخ الا ان تركيزنا على دير السلام فلن ندخل في تفاصيل العباسيين وخلفائهم ولكن يجدر ذكر هارون الرشيد وابنائه حتى ننصف التاريخ!

فكان مقام هارون في فترةِ تنازع سياسي في أمم الغرب ظهرت فيه الكنيسة الكاثوليكية بشكل علني. المشكلة هي ظهور ملك لقبه الباب بإمبراطور روما وكان اسمه شارلمان. جاءت لشارلمان بعثة من دير السلام تهديه مفاتيح كنيسة القيامة وتذكر كتب التاريخ ان ذلك كان بمعرفة هارون الرشيد حيث أراد الأخير كسب الملك الفرنسي ليعينه على نصارى القسطنطينية (هذا فضلا على ان شارلمان نفسه كان يرسل الهدايا لهارون الرشيد ويدفع الجزية عن كل انصار دير السلام).

بعد موت الرشيد تنازع أولاده على العرش حتى فاز به المأمون وهو تلميذٌ محب للعلم مؤسس اعظم مراكز العلم في ارض العرب والعالم اجمع "بيت الحكمة". ارسل المأمون تلامذته لحساب قطر الأرض وحفظ الإمبراطورية من هجمات الامبراطور الصيني تانغ حتى انتهى بهم المطاف متعلمين فن صناعة الورق من الصين لتصير بغداد داراً للطباعة وترجمة الكتب.

ذهب المأمون لدير السلام ليتبرع ببابه الذهبي الخاص ويمحي اسم عبد الملك ويكتب اسمه لتوكيد سلطان بنو العباس ولا زال اسم المأمون بديلاً لعبد الملك على قبة المسجد حتى يومنا هذا. وبعد سنتين قامت دير السلام (بأديانها الثلاث) بإعانة جمع من المتمردين ليسيطروا على دير السلام ولكن سرعان ما انقلب السحر على الساحر وصار المتمردين يقتلون ويحرقون فتهجر سكان المدينة حتى تم عقد الصلح مع المتمردين على يد الكنيسة. خسر الخلفاء العرب سيطرتهم على البلاد ليظهر احمد ابن طولون والي مصر وابن جارية تركية ليخرج ويعيد السيطرة على دير السلام. سرعان ما ضعفت قبضة الخليفة في بغداد لتصير مصر شبه مستقلة عن الدولة العباسية تحت سلطان ابن طولون. وبعد ابن طولون ذاك, قتل مقاتل تركي اسمه محمد ابن طغج الاخشيد ابن الوالي المصري وابن ابن طولون. ليصبح الاخشيد والي مصر ودير السلام.

حول الاخشيد كنيسة القيامة لمسجد ليقوم حشد من المسلمين بعد ذلك بثلاث سنين بمهاجمة تجمع من النصارى وهم يحتفلون يوم الاحد. عانا اليهود من انقسام داخلي ليصير في دير السلام مذهب يأخذ بالتعاليم الشفوية والتلمود ومذهب لا يعترف بغير التوراة (اسمهم القرائون). فظل الاتراك القرائين من اليهود ولكن الأمور صارت اكثر تعقيداً عن دخول يهود العراق في المسألة فصار لدى اليهودية مدرستين احدها من يهود العراق وفارس وأخرى دير سلامية. حسناً يكفينا تعقيدات المذاهب تلك ودعونا نرحب بالفاطميين!

بعد نهاية الاخشيديين في مصر, صار الوالي عليهم رجلاً اسمه أبو المسك كافور وقد كان عبداً اثيوبياً في السابق. ويعين كافور وزيراً يهودياً ليصير الأخير عقلاً مدبراً لثورة إسلامية حديثة..
____________________________

يعقوب ابن يوسف (المعروف باسم ابن كلس) كان يهودياً ولد لتاجر من بغداد. خرج مع ابيه للتجارة في سوريا ودير السلام حتى وصل لمصر ليعجب به كافور ويقول: لو كان مسلماً لكان خير وزير لنا.. فقرر ابن كلس ان يترك اليهودية ويصير مسلماً حتى عينه كافور وزيراً له في مصر. بعد موت كافور, تم سجن ابن كلس ليدفع المال بعد ذلك حتى يخرج ويرحل سراً تجاه الغرب للمملكة الفاطمية في تونس. وبعد عدة مجالس, استطاع ابن كلس ان يقنع العائلة الفاطمية ان الوقت قد حان حتى يأخذوا مصر وهذا ما حصل عام 969 وعلى يد القائد جوهر الصقلي الذي سارع بالتقدم تجاه فلسطين بعد احكام السيطرة على مصر.

كان الفاطميين اغرب على اهل دير السلام من باقي الخلفاء فهم لم يقولوا انهم خلفاء لرسول الله وامراء للمؤمنين فحسب. بل أعطوا انفسهم رتبة الامام ليكونوا اشبه بوسيط بين السماء والأرض (الصين ترحب بكم). عرف التاريخ عنهم كثرة البذخ والتزين حتى اخجلوا الامويين من كثرة استخدامهم الذهب والمجوهرات.

كان ظهور الفاطميين سياسياً للغاية عام 899 ليكونوا مثالاً للثورة العلوية على سيادة العباسيين وسرعان ما انتشروا في اليمن وتونس بعد ان حاربوا البربر هناك. ولكنهم لاقوا قمعاً شديداً من قبل الدولة العباسية كاد ان يفتك بهم لولا بقائهم كمنظمة سريةٍ في تونس ليخرجوا متى ما ضعفت بغداد. لم يكن الفاطميين اشداء على اليهود وبالأخص بوجود ابن كلس بينهم حيث كان الأخير مثالاً على تسامح الامارة الجديدة مع اليهود وبالأخص من صار مسلماً منهم.

هنا نرى يهود دير السلام يقتلهم الفقر بعد ان تركتهم بغداد وصاروا يرحبون بملك جديد كلما تغير حال مصر. من الجانب الآخر كان ليهود مصر المكانة العظيمة تحت حكم الفاطميين حتى انهم صاروا مسيطرين على ديوان الأطباء للخليفة ليلعبوا دوراً من خلف الستار ويلينوا قلب الملوك الجدد حتى يرحموا يهود دير السلام.

فما برح الفاطميون من مصر حتى أعطوا يهود القدس كامل الصلاحيات ليبنوا معابدهم ويفعلوا ما يشاؤون حتى كتب بعض المؤرخون العرب ان الفاطميين أعطوا اليهود حقوقاً اكثر من المسلمين انفسهم وصارت لليهودي اليد العليا على المسلم. النصارى اخذوا حصتهم من المدينة كذلك وهذا بعد توافد المهاجرين القادمين من فرنسا وإيطاليا ليسكنوا فلسطين جاعلين من المسلمين اقليةً في المدينة!

بالطبع كانت دير السلام شبه منقطعة عن شرق الإمبراطورية الإسلامية حيث يسيطر العباسيين أعداء البيت الفاطمي. ولذا نرى تركيز مصر على دعم اليهود حتى يبنوا يداً مخلصةً في المدينة تؤيدهم وتنفي أهمية العباسيين الذين اهملوا دير السلام.

وكما قال ابن خلدون, سقوط الممالك شيء لا بد منه ونهاية العباسيين باتت قريبةً وبالأخص بعد كثرة التوافد الفرنكي لدير السلام حتى صار تهديد أوروبا حاضراً بوضوح. هذا طبعاً غير الدمار الذي الحق بالعباسيين بعد قدوم السلاجقة الذين وصلوا دير السلام بدورهم. ولعلنا نختصر هذه المشاكل السياسية قصيرة المدى ونفتح الكتاب الرابع من تاريخ المدينة.
 

Avicenna

φιλόσοφος
OjtRvm0.png


في صيف 1099, وصلت جيوش القبائل الجرمانية المعروفين بالإفرنج لفلسطين وحاولوا دخول القدس ولكن تم ردعهم بسهولة من قبل الجيش المصري وميليشيات القدس الإسلامية واليهودية. القدس كان صعبة المنال للغاية وهذا امر ارادت أوروبا التأكد منه حيث كانت اغلب الآبار خارج المدينة مسمومة بينما كانت المدينة غنيةً بالموارد لتصمد في وجه أي حصار عسكري تقريباً. وبعد هذه الحادثة تم طرد الكثير من المسيحيين من المدينة.. سكان المدينة في ذلك الوقت كانوا يقاربون ال 70 الف وهذا لا بأس به مقارنةً بكبير المدن مثل بغداد والقاهرة والقسطنطينية (وصلوا ألنصف مليون نسمة). كانت الاخبار ترجح قدوم وزير مصر ليعين دير السلام ويحميها من هجمات الاوربيين القادمة. ومع ان جيش الافرنج كان صغيراً نسبياً (حوالي الاثني عشر الف جندي والالف فارس) الا انهم امتلكوا عتاداً يعجز المقاتلون العرب والأتراك على مجاراته.

لكن الإفرنج خسروا اقوى عتادهم بعدما هلكت اغلب الاحصنة (وتناول الجيش الكثير منها). فوق هذا هم لم يملكوا أي قيادة فعليةٍ في ذلك الوقت ولكن خرج من بينهم عبقري اسمه الكونت فلاندير (روبيرت الثاني) لينصح الجيش بالتوجه نحو البوابة الدمشقية في الشمال (وهي نقطة ضعف دير السلام) ليذهب بعض العساكر ايضاً ويستحوذوا على بيت لحم ويسيطر بعضهم الآخر على باب الخليلي. وتبدأ الحملة الصليبية الأولى!

الحملة الصليبية هي فكرة لاهوتية الأصل جاء بها الباب قبل ذلك بأربع سنين حتى تغزوا أوروبا دير السلام وتحرر كنيسة القيامة من ايدي المسلمين واليهود (في نظرهم اليهود والمسلمين تعاونوا على النصارى عند قدوم الفاطميين). الخروج في الحملة الصليبية كان بمثابة التطهير من الذنوب وشكلاً من اشكال العبادة حتى شكلوا جيشاً يحمل من الأصل اللاهوتي ما يحمله بعض المسلمين. الحملة الصليبية كانت ايضاً بمثابة التطهير الاجتماعي, فترى كل مجرم وسفاح يشارك في الجيش فيقتل وتُغفر جميع ذنوبه في نفس الوقت!

شارك الكثير من امراء أوروبا كذلك حتى ينتهزوا الفرصة للظهور ومن يدري فقد يصبح الواحد منهم فارساً من الفرسان حسب انتاجيتهم في الحرب. وبالطبع كان مسار الحملة الصليبية قاتلاً لوحده فلم يكن عليهم قطع الاميال الطويلة فحسب, بل كان السلاجقة الاتراك ينتظرونهم من كل جانب (فهم مسلمين في النهاية حتى لو كرهوا بعض الممالك في ذلك الوقت). فهنا وجد الاوربيين نفسهم سبباً في تحالف العرب والأتراك الذين كرهوا بعضهم لعقود!

كل هذه المصاعب رفعت من خبرة الاوربيين في المعارك حتى صاروا جيشاً يَكسر ولا تُكسر عزيمته. فسرعان ما اجتازوا الحدود الشمالية ووصلوا للخليل ليتركهم المصريين ويعززوا دير السلام. انتهز الافرنج تلك الفرصة وصاروا يأخذون الخشب من السفن ليصنعوا هادمات للقلاع وأدوات ستمكنهم من سحق حصون دير السلام. وفي حين كان اهل القدس فرحين بحماية الاتراك ومصر لهم ومتأكدين ان الافرنج لن يقدروا على المساس بحصونهم, كان الافرنج يعملون ليل نهار حتى يحصدوا موتهم وغفرانهم او نصرهم العظيم والمؤيد من الله!


Cdrc5fy.jpg

وفي الثالث عشر من تموز. خرج الرهبان لتعزيز الروح المعنوية للجيش وبدأ الجيش هجومه على القدس مستخدمين المنجنيق وهادمات الحصون ليأخذوا بها بعد ذلك للشمال ويضعوا كل شيء لديهم في اضعف نقطة شمالية للقدس.. كان جو المعركة ملحمياً ترى نيراناً وصخوراً تتطاير من المسلمين والمسيحيين وكأن السماء صارت تمطر صواريخاً. ذهبت مصر بأسرع ما لديها حتى تدفع بالإفرنج بعيداً ولكن سرعةُ الاوربيين كانت شيئاً غير مسبوق!

سيطر الجيش الافرنجي على احد الاسوار وصعد الجند ليدخلوا هم وبعض الامراء المدينة ويلقوا مقاومة بائسة من سكانها الذين سرعان ما صاروا خرافاً يُقتلون أينما حلوا في شوارع دير السلام. استسلم والي المدينة واصحابه مقابل حياتهم وذهب الكثير من السكان ليتحصنوا بالمسجد الأقصى ويغلقوا جميع ابوابه. قام الافرنج بقتل كل من يرونه وأخذوا الأطفال من امهاتهم ليرموا بهم من على السور بينما ركلوا الكثير منهم حتى الموت. يذكر الاوربيين المظهر على انه شيء لم يسبق للتاريخ رؤيته, كانت شوارع المدينة مليئةً بالرؤوس البشرية واقدام الاحصنة, كانت بحق بدايةً مرعبةً لحروب الصليب تلك!

تحصن الجيش المصري والأتراك في المسجد الأقصى، ولكن هيهات هيهات. دخل الافرنج للمسجد وقتلوا كل من في طريقهم حتى صار المسجد الأقصى بحيرةً من الدماء. قُتل عشرات الآلاف من الناس والجنود في حرم المسجد من بينهم ثلاثة آلاف كانوا داخله. يذكر بعض الإفرنج انهم لم يتركوا احداً في الأقصى على قيد الحياة بينما يذكر البعض الاخر انهم اخذوا بعض الرهائن وضمنوا سلامتهم مقابل ارشادهم لخزينة المدينة وكنوز الأقصى. هرب الكثير من اليهود لمعابدهم ولكن الصليبيين احرقوهم فيها وهم احياء وقتلوا كل من حاول الهروب من النيران. وحتى أكون صريحاً, لو بقيت اعطي القصص المذكورة عن ماذا فعل الافرنج بدير السلام لوصلنا لاستنتاج انهم قتلوا كل بشري فيها ببساطة شديدة. سمى الصليبيين انفسهم بالحُجاج وكانوا حرفياً يصحون باكراً كل يوم ليذهبوا يبحثون في البيوت والأسواق عن أي طفل او ام او رجل لم يقوموا بقتله او تعذيبه.. صارت رائحة المدينة نتنةً من أجساد البشر والاحصنة المتعفنة في الصيف حتى يذكر الصليبيين انهم تركوا من بقي من المسلمين واليهود ينظفها ويحرقون الأجساد حتى يُرمون هم ايضاً معها ليحترقوا فيما بعد..

وبعد المذبحة الحاصلة تلك, صارت مصر تتوعد الافرنج وحشدت بذلك جيشاً عظيماً حتى يحرر المدينة من سلطة الصليبيين (ولا أدري ما الفائدة من تحريرها بعد موت جميع السكان ولكن نكمل). وهنا استعد الجيش الصليبي وعينوا جودفري ملكاً عليهم ليقوموا بعد ذلك بتعذيب المسيحيين الارثدوكس من سكان المدينة ويُقتل ويهجروا كثير من اهل المدينة المسيحيين ليحكموا سيطرتهم الدينية والعسكرية على المدينة ويستعدوا لملاقاة المصريين بكل ما لديهم.

ذهب جيش الافرنج ليباغت المصريين تاركاً القدس فارغةً تقريباً. وبذلك انتصروا على المصريين والحقوا العار بالمسلمين المنقسمين الذين لم يقدروا على مجابهة جيش أوروبي اتعبته وانهكته الاميال الطويلة التي قطها وصولاً للمدينة. العباسيين في بغداد كانوا شبه غافلين عن القدس والأتراك صاروا يتصارعون فيما بينهم ومصر الفاطمية لم تقدر على حماية فلسطين وهي من أراضيها.

وبعد بعض الصراعات الداخلية بين الافرنج, تم تعييد بلدوين ملكاً على القدس ليشن بعد ذلك حملةً على مصر. ذاك الملك كان متديناً مختلفاً كل الاختلاف عن جودفري فهو كان معتزلاً لجميع زوجاته خائفاً من اهانة أي احد. مع ذلك, فهو كان محباً للحروب وديبلوماسياً فذاً استطاع اكثر من مرةً ان يستغل انقسام وتنافس الممالك المسلمة ليوسع مملكة الصليبيين ويحكم السيطرة على فلسطين. وضع بلدوين الصلبان على مساجد المسلمين والمسجد الأقصى وقام بردع الكثير من المجاهدين القادمين من دمشق والموصل.

واجه الصليبيون معضلة الحركة التالية: حيث كان عليهم التوسع لفرض قوتهم في المنطقة ولم يعرفوا ان كان عليهم اكمال السيطرة على سوريا والعراق شرقاً ام تدمير الفاطميين الضعاف في مصر. ولكن لم تبدأ حملة الملك القادمة حتى مات ليخلفه بلدوين الثاني الذي كان يحارب الاتراك في ذلك الوقت. كان بلدوين الثاني اميراً للرها وبعد توليه الملك عين ابن عمته جوسلين اميراً على تلك المنطقة. سقط جوسلين بيد الأرتقيين بقيادة بلك بن بهرام ابن اخ ايلغازي الأرتقي. ذهب بلدوين ليحرر ابن عمته من المسلمين بجيش عظيم حاملاً صليب كنيسة القيامة ولكن حدث أن استطاع المسلمين ان يبيدوا جيشاً اضعاف عددهم ويأخذوا بلدوين اسيراً! احسن المسلمون معاملة الملك ونقلوه مع ابن عمته من حران لحلب حتى افرجوا عنه مقابل فدية مقدارها مائة الف بيزانت ليعود لبيت المقدس (حسناً كانت هذه حركةً غبيةً نسبياً كون المصريين فرحوا برحيلة وارادوا شن حملة على بيت المقدس ولكن الانقسام يلعب دوراً مرةً ثانية).

وقبل موته, اعطى ملك دير السلام لابنته وزوجها (وتباً لهم سموا ابنهم بلدوين فشكلنا لن ننتهي من الملوك البلدويين هؤلاء). وهنا مشاكل العائلات الارستقراطية الاوربية يبدأ الدراما الطويلة والمعقدة التي يتخذ فيها ابن سينا قراراً ديكتاتورياً ويتركها (اشكروني لاحقاً على الملف الشخصي لو سمحتم).

بعد حوالي اربع عقود من سقوط القدس والسكوت الغريب للمسلمين (عدى محاولات الاستعادة البائسة من قبل مصر) يخرج لنا عظيم الموصل, عماد الدين زنكي ثائراً لكل مسلم وحاملاً كل الأسباب السياسية والدينية لمحاربة الصليبيين. غنى فيه الناس الأغاني ووضعت له ابيات الشعر بعد ان قاد حملاته لتحرير دير السلام وفتح دمشق وتحريرها من سيطرة الافرنج. عماد الدين لم يكن شخصاً طيب القلب شديد الايمان فكان يقتل الكثير من المقربين له ويعزل الجنرالات ويقتل عائلاتهم حتى لا يطمعوا في الحكم ولكنه كان مناسباً لمجابهة الصليبيين الذين صُنعوا من ملة اشنع واقل احتراماً للمبادئ السياسيةً (التي لم تكن موجودةً اصلاً في الحقيقة). كان زنكي في الخمسينات من عمره عندما سحق الصليبيين في دمشق وبعض المدن الثانية وحركته العسكرية لم تكن الا روح الثورة الإسلامية المتأخرة التي ستحرق وجود الصليبيين في المنطقة..

في ذلك الوقت كانت القدس جنةً للفرسان الصليبيين الذين اعتادوا على عادات العرب وصاروا حتى يلبسون مثلهم ويستخدمون ادواتهم. كانت القدس معملاً لانتاج الفرسان وتجنيد الحجيج ليكونوا جزئا من الحملة الصليبية التي استحوذت على القدس قبل عقود ويدافعوا عن الوجود المسيحي في المنطقة بعد تزايد الحركات الإسلامية (داخلياً وخارجياً). سرعان ما تغيرت طباع الكثير من الصليبيين وسكان المعبد وصاروا الين بكثير للمسلمين لاعتيادهم على ثقافة العرب وطعامهم وعاداتهم (حتى ان بعضهم صار يتكلم العربية بطلاقة) ولكن بقي الكثير منهم كارهين لكل شيء إسلامي عربي وأصبحت ترى في دير السلام جماعةً محافظة ترى ان العرق العربي لا ينبغي له الا القتل وبين جماعة اكثر تحرراً وجدوا انه من اللائق ان تحتوي دير السلام المسلمين وتعطيهم بعض الحقوق وهذا شيء وجدناه مذكوراً ومدوناً من قبل أسامة بن منقذ (وانصح للغاية في البحث في بعض مدوناته وما ذكره في كتاب الاعتبار من أبحاث اجراها ودونها عن عادات الصليبيين وكيفية تفكيرهم. هذا الشخص هدية من التاريخ للعالم لكمية التدوين والتوضيح الذي وضعه حتى نستفيد نحن الآن منه (طبعاً هذا غير انه عاصر الكثير من الممالك الإسلامية والملوك من أمثال صلاح الدين وزنكي وغيرهم)...

ظهر في ذلك الوقت الكثير من المثقفين العرب واليهود ليدونوا ويكتبوا (وحتى يزوروا القدس بعدما لانت يد بعض فرسان المعبد). بعض اليهود صار يلوم المسلمين وتخريبهم في المدينة حتى عاقب الله كل من في المدينة بقدوم الصليبيين ولكن الكثير من اليهود قاموا بما كانوا يقومون به دائماً ولاموا انفسهم على ضياع المدينة وغضب الله عليهم وعلى بني إسماعيل (أي المسلمين).

حسب مدونات أسامة, كان الصليبيين في غاية البدائية والجهل فكان نظامهم القضائي قائماً على خرافات ومبادئ معلولة مثل وضعهم الرجل في حوض ماء فاذا غرق فهو مظلوم واذا عام فهو مذنب ويجب حرق عينيه. او مثل حادثة رواها عن طبيب مسلم كان يعالج رِجلَ احد الفرسان ليأتي الطبيب الافرنجي ويقطع الرجل ويقول: "حياة برجل واحدة افضل لك من موت برجلين" ليقول أسامة ان الفارس ذاك مات في النهاية برجل واحدة (هاها هاها هاها, احم.. نكمل)

قائد الثورة الإسلامية صار نور الدين زنكي (ابن عماد الدين) وملك دير السلام الفعلي كان بلدوين الثالث مع ان امه لازالت هي الملكة الرسمية. وضع كلاهما دمشق نصب عينيه. خرج ملوك فرنسا وألمانيا ودير السلام بحملة لدمشق ولكنهم سرعان ما اختلفوا في الرأي وانسحبوا. وبينما كان الصليبيين متفرقين, خرج نور الدين زنكي بجيشه ليحرر دمشق. في هذه الاثناء ثار بلدوين على امه وطلب منها الحكم, حتى انه دخل المدينة وقصف الحصون حتى سلمته امه العرش الذي استحقه وهو في العشرينات من عمره. وبعد ذلك باشهر خرجت جيوش متفرقة من العراق لتحرير القدس ليخرج لهم سكان المدينة ويقتلوهم اجمعين. وهذا زاد من فرحة بلدوين الذي اتجه شمالاً كاستعداد لدخول نور الدين الذي نجح في السيطرة على دمشق ليكون حاكما لغرب العراق وسوريا. كان نور الدين قوياً مثل والده واكثر منه اتزاناً وحكماً كذلك وهذا بشهادة الصليبيين انفسهم.

بعد موت بلدوين الثالث, خلفه عموري الأول الذي أراد الانتقام لخسارة سورياً بأخذ مصر وهو يعلم انها عنصر مهم للإمبراطورية الإسلامية التي يطمح نور الدين لأقامتها. كانت هذه فرصة العمر للمشاكل الكثير التي قتلت الاسرة الفاطمية تقريباً لتصير مصر الفاطمية قليلة الاستقرار وسهلة المنال. نجح عموري بأخذ الإسكندرية ولكنه خسر الكثير فانسحب وتركها مقابل مبلغ مادي ليعقد صلحاً على المدى القريب مع مصر. وعند مرضه في غزة, طلب من مصر ان تبعث له بأفضل اطبائها فارسلت له طبيباً عظيماً من اليهود ولكنه رفض ان يعالج الملك الصليبي وطلب الحماية من الفاطميين بعدما كان من اليهود المهاجرين من اسبانيا (في هذا الوقت, سقطت الاندلس تقريباً وصارت مقسمةً في قبائل البربر شمال الافريقية والممالك المسيحية). كانت قبائل البربر تعطي اليهود خيار الإسلام او الموت وبذلك تظاهر الكثير منهم باعتناق الإسلام حتى هاجروا وطلبوا حماية الفاطميين في مصر. اليهودي ذاك بالذات كان معروفاً عند المسلمين واشهر من النار على العلم في تاريخ العرب وكان اسمه موسى ابن ميمون.

هنا نرى نور الدين يتحرك بسرعة البرق لينهي الفاطميين ويوحد ثورته لتحرير دير السلام فأرسل اسد الدين شيركوه وابن أخيه اليافع صلاح الدين لينهوا الحكم الفاطمي الذي صار لعبة بيد الصليبيين. ولكن شيركوه مات سنة 1171 ليترك حكم مصر لابن أخيه صلاح الدين الذي عين موسى ابن ميمون رئيساً لليهود وطبيبه الخاص.

وفي عام 1174, مات نور الدين قائد الثورة العربية التي هزت الكيان الصليبي ليتطلع عموري بعدها لتدمير الكيان الإسلامي الذي بناه نور الدين في دمشق. ولكن أصاب عموري الزحار ومات في الحادي عشر من تموز ليخلفه الملك بلدوين الرابع (انا صبور على هذه الاسم صدقوني. على الأقل هو ليس صعب الكتابة مثل انطيوخوس).


RXnuKJo.jpg


صلاح الدين صار خطراً عظيماً للصليبيين بعد استحواذه على دمشق وتوحيدها مع مصر واليمن والعراق ليحيط بالقدس من جميع الجهات ويحاصر الصليبيين. هجم صلاح الدين على عسقلان وتوجه نحو القدس ليتم ردع جيشه البالغ 26 الف من قبل بلدوين ويحسب ذاك انتصاراً عظيماً للصليبيين. انسحب صلاح الدين على ظهر الجمل وجمع جيشاً جديداً ليعيد الكَرةَ ويحاول تحرير القدس. حاول بلدوين المبادرة وهاجم دمشق ليُهزم شر هزيمة ويعود مهزوماً على ظهر فرسه بعدما حماه جنده. هنا اشتعل حس التنافس بين صلاح الدين الايوبي وبلدوين الرابع. أصاب بلدوين الجذام وشُلت قدماه حتى صار عاجزاً عن ركوب الخيل.

عقد صلاح الدين الهدنة مع بلدوين حيث ان الأخير لم يعد قادراً على قيادة الجيوش وصلاح الدين أراد كسب الوقت حتى يوحد ارض العرب. خرج ارناط حاكم الكرك بجيش لمهاجمة قافلة عائدة من الحج ليكسر الهدنة مع صلاح الدين وارسل بعدها جيشاً على البحر الأحمر حتى وصلوا مكة والمدينة. مع ان تلك الهجمة المفاجئة كانت حركة مباغتةً وشرسةً الا ان صلاح الدين هزمه براً وبحراً واعدم الجيش الفرنسي بقطع رقابهم خارج مكة ليتوعد بعد ذلك طاغية الكرك بإراقة دمه. بالدوين الرابع كان مريضاً للغاية وغير قادر على الحركة لذا عين احد القادة الذين وثق بهم ليدفع خطر صلاح الدين. وفي عام 1183, احتل صلاح الدين الجليل وتقدم نحو قلعة الكرك في الأردن. وقف جيش بلدوين عاجزاً امام صلاح الدين. توفي بلدوين وخلفه بلدوين الخامس الطفل الذي لم يقتنع أرناط حاكم الكرك بوجوده. مات بلدوين الملك وكان لأرناط يد في ذلك حسب بعض الوثائق التاريخية ليتم تتويج اخت بلدوين الرابع وزوجها ملوكاً على دير السلام. وفي عام 1186, هجوم ارناط على قافلة ضخمة عائدة من الحج كانت تتواجد فيها اخت صلاح الدين. لم يستطع ملك دير السلام ردعه كونه كان لارناط الدور الكبير في صعود الأخير للملك ولذا نهب أرناط القافلة وعذب المسلمين ليفتح باب السخرية من نبي الإسلام حتى يصاعد الامر. بعد فترة وجيزة, استحوذ ابن صلاح الدين على جليل كلياً وتم سحق الجيش الصليبي بأكمله. بعد ذلك تقدم صلاح الدين بأسرع ما يمكن لتبدأ معركة حطين!

يذكر ان صلاح الدين لم ينم وكان يجهز ليلة المعركة استراتيجيته وكيف يصنع بجناحيه في الحرب لاستدراج الافرنج. بجيش مكون من الكرد والأتراك والعرب والارمن والافارقة, كان صلاح الدين مستعداً لانتهاز الفرصة وانهاء تواجد الصليبيين عن بكرة ابيهم. ركب صلاح الدين صباح المعركة خيله ووقف في قلب الجيش مع ابنه الصغير محمياً بحرسه المملوكي التركي. كانت هذه المعركة صورةً خياليةً للتاريخ ترى فيها اعظم مجابهة بين الافرنج والمسلمين في مشهد سينمائي تتطاير فيه السهام في كل اتجاه. كان جيش الافرنج عطشاً للغاية لينسحب الكثير منه جهة التلال تاركاً الفرسان ليكونوا صيداً سهلاً للنشابة الأرمن. كان صلاح الدين هادئاً للغاية خلال المعركة مخططاً لكل حركة وحاسباً لكل شبر وكانه رأى النتيجة مسبقاً فارسل الجناح اليمين ليغلقوا على جيش الافرنج ومع هجمات المسلمين وانتصاراتهم صار صلاح الدين يقول لابنه انهم لن يهزموا جيش الافرنج مادامت خيمتهم تلك باقية على التلة ليرى الجيش بعد ذلك الخيمة تسقط ليأخذ المسلمون صليب كنيسة القيامة فترك صلاح الدين خوذته وسجد لله ودموعه تغمره. امسك صلاح الدين بحاكم الكرك وملك القدس ليقيم محكمةً في خيمته. طلب صلاح الدين عصير الجلاب المثلج فشرب منه وأعطى ملك القدس ولكن الأخير اعطى الشراب لأرناط. ليغضب صلاح الدين ويقول: "إنما ناولتك الشراب ولم آذن لك ان تسقيه. هذا لا عهد له عندي"

خرج صلاح الدين والقى التحية على جنده وبشرهم بنصر عظيم. طلب بعد ذلك أرناط لخيمته وسأله: " ها انا قد حباني الله بالنصر فكم مرةً كسرت عهدك معي؟" ليجيب أرناط بأن الامر مُعتاد وطبيعي بين الامراء. أعطاه صلاح الدين بعد ذلك فرصة الإسلام فرفض فقطع صلاح الدين يديه ورمى برأسه امام الامراء الذين امسكهم بعد الحرب وبينهم ملك القدس. قال صلاح الدين انه ليس من العرف ان يقتل الملوك بعضهم ولكن هو قد اجتاز الحد فحصل له ما حصل..قُتل الكثير من الافرنج واغلبهم ممن رفضوا الإسلام ولكن اُمسك الباقون كعبيد وارسلهم مع ملك القدس والصليب (محمولاً بالمقلوب) لدمشق. يُذكر ان من كثرة الاسرى الافرنج اشترى احد الدمشقيين عبداً افرنجياً بثلاثة دنانير.

طلب اخو صلاح الدين من أخيه ان يتوجه للقدس بعد ان استعاد الكثير من المدن وقال له انه ان مات قبل فتحه القدس فستظل تحت حكم الافرنج للابد (اسعدك الله بذلك الخبر الشجاع). في عام 1187, حاصر صلاح الدين دير السلام وهدم الاسوار ليدخل المدينة من الجانب الشمال شرقي ويجد ان اغلب جيش الصليبيين قد هرب او تمت هزيمته في حطين فلم يبق غير ملكتين وفارسين وبالكاد بقي خمسين جندي لحماية الاسوار. قبل وصول صلاح الدين بفترة, وصل باليان (وهو من الامراء الناجين من حطين والذي سمح له صلاح الدين بالذهاب للقدس على ان لا يبقى فيها لاكثر من ليلة). عند دخوله القدس قبل وصول صلاح الدين وجدها متداعية ووجد روح الجند ميتةً وهم يتوسلون منه البقاء لإعانتهم والدفاع عن الأرض المقدسة. قرر باليان كسر اتفاقه مع صلاح الدين وارسل لصلاح الدين يعتذر اليه لكسره الاتفاق ولكنه لن يقدر على ترك المدينة وأهلها دون مقاومة وقام بتحصين المدينة وتنظيمها واستئجار الجند لحمايتها من حصار صلاح الدين ودخوله الحتمي. ادرك باليان ضعفه وعجزه عن مواصلة المقاومة وان الاستمرار في الوقوف في وجه صلاح الدين مستحيل. بعث باليان لصلاح الدين بجماعة من كبار الصليبيين يطلبون منه عقد الصلح والامن عليهم وهي نفس الشروط التي عرضها عليهم المسلمون قبلاً (ولكنهم رفضوها). ضحك صلاح الدين ورفض العرض مريداً ان يأخذ القُدس من دون شروط واوامر. أُجبر باليان على تسليم القدس لصلاح الدين. سامح صلاح الدين باليان على كسره الاتفاق وافسح طريقاً لزوجة باليان الملكة وابنائهما للعودة لاوروبا ويذكر الصليبيون انه أعطاها وابنائها الاثواب المزينة ووضع لهم مأدبةً عظيمة. اخذ صلاح الدين الأطفال على رجليه وصار يبكي عالماً انهم ولدوا في القدس وأن هذه قد تكون آخر مرة يرون القدس فيها ليقول لهم بأن كل شيء في هذا العالم يُتداول بين الناس وليس ملكاً لاحد..

قام باليان بأعطاء لقب الفارس لكل ولد نبيل تجاوز الستة عشر ولثلاثين من البرجواز. لم يرى صلاح الدين بوجوب بقاء الكثير من الصليبيين في المدينة على قيد الحياة واخبر بالدوين انه سيقوم بمثل ما قام به الصليبيون قبل تسعين سنة تقريباً. اجابه بالدوين بان النساء سيقتلن انفسهن واطفالهن وليجن الصليبيون ويهدموا كل شيء في المسجد الأقصى فقرر صلاح الدين ان يأخذ بما قاله باليان ويتركهم تُدفع لهم الفدية او يُباعوا كعبيد.

*فقط للذكر, باليان تم تمثيله بشكل نصف تخيلي في فلم مملكة السماء..

لم يكن صلاح الدين ملكاً ديمقراطياً لطيفاً ومحباً للجميع مثلما قد يعكسه الكثير ولكنه كان شخصاً حكيماً وسياسياً في غاية البراعة. هو قيد نفسه بأخلاق الإسلام ولم يحبب ان يأخذ جانب العنف اذا امكن ولذا كان ملكاً عظيماً ولطيفاً للغاية نسبةً لملوك عصره. قبل موته اخبر ابنه بالتالي:

"أوصيك يا بني بتقوى الله فإنها رأس كل خير، وآمرك بما أمرك الله به، فإنه سبب نجاحك، واحذر من الدماء والدخول فيها، لا تقتل بالشبهة، لا تقتل بدون سبب، لا تقتل دون حاجة، فإن الدم لا ينام، أوصيك بحفظ قلوب الرعية، والنظر في أحوالهم، والإهتمام بهم دائما، فأنت أميني وأمين الله عليهم. لا تحقد على أحد، فإن الموت لا يبقي على أحد، واحذر ما بينك وبين الناس، فإنه تعالى لا يغفر إلا برضاهم. لا تظلم أحدا فإذا ظلمت فإنه لا يغفر لك إلا إذا عفا عنك صاحب الحق، أما ما بينك وبين الله، فإن الله واسع المغفرة، وكريم لا يخذل التائبين."

صلاح الدين كان ملكاً ولكنه خسر كل صفات الملك المشينة حتى انه وقف تحت ظل القضاء بعدما اتهمه احد الرعية في القدس في أمور ارض من الأراضي. وحد صلاح الدين ارض الإسلام التي تقسمت الف قسم بعد الحملات الصليبية. يذكر المؤرخ سيباغ انه لم يكن حتى جينيرالاً بارعاً وانه كان معتازاً للمال والجند في اغلب حروبه ولكن حكمته, الكاريزما, وسرعة البديهة كانوا جميعهم سبباً في كسبه الصراع العظيم مع باقي الممالك والأمراء الإسلاميين. اكن صلاح الدين حباً جماً للعلم والادب وكان معاصراً لأسامة المؤرخ الذي تكلمنا عنه سابقاً وهو الان في التسعين من عمره. كان صلاح الدين كثير العلل ولديه واحد وعشرون طبيباً (ثمانية مسلمين, ثمانية يهوديين ومن بينهم موسى ابن ميمون, وخمسة من النصارى).

ولعل القارئ يسئل عن ماذا حل بدير السلام فليس من العدل ان نصفها باشد التفاصيل بعد دخول الصليبيين ونتجاهل ما فعل المسلمون وصلاح الدين بالباقين فيها. ولكن كما ذكرنا سابقاً, كان لأهل المدينة خيارين وهما ان يتم دفع فدية والعودة لأوروبا او يتم بيعهم في سوق العبيد. الفدية كانت بمقدار عشرة دنانير للرجل, خمسة دنانير للمرأة, ودينار لكل طفل. يذكر المؤرخون ان اغلب الأموال (ما يعادل 200 الف دينار) ذهبت للجند وقادة الحرب في جيش صلاح الدين. الألوف من سكان القدس الصليبيين لم يستطيعوا الدفع ليُباعوا بعد ذلك في سوق العبيد علماً ان باليان دفع ثلاثين الف دينار فديةً لسبعة الف من العوائل الفقيرة التي لم تستطع الدفع.

طلب اخ صلاح الدين من الأخير ان يحرر الفاً من الفقراء ويسلمهم باليان والبطريرك هرقليس. تعجب المسلمون بعد رؤيتهم البطريرك يدفع العشر دنانير ويغادر المدينة جاراً ورائه عربات مليئة بالذهب والاقمشة الغالية ليترك المئات من الفقراء غير القادرين على الدفع في المدينة. ولهذه الأسباب لا الوم المؤرخين العرب على تجميل تاريخ الحروب الصليبية وابعاده عن الحيادية لان الكثير من الواقع يوتوبي الشكل ولن يحتاج المؤرخ لتزييف الواقع حتى يُظهر المفارقة بين صلاح الدين والمسلمين وبين الافرنج والصليبيين.

وهكذا عادت "الله اكبر" من على قبة الحرم الشريف ورمى المسلمون الصلبان ومزقوا صور عيسى. غسل السلطان بنفسه جدار وارضية الحرم الشريف بماء الورد ليأتي بعدها بمجلس نور الدين ومنبره للمسجد الأقصى. ليبقى ذلك المنبر هناك لسبع قرون!

كان صلاح الدين محباً لدير السلام وكان ذاك الحب شديداً للغاية لدرجة اني صرت اؤمن ان المدينة حباها الله بهبة تأسر فيها قلب كل من حكمها. فصلاح الدين رأى العراق والشام وحتى مصر ولكنه لم يجد محلاً مثل القدس حتى يبقى فيها ويجعلها دير سلام إسلامية بالكامل. يُقال انه استشار بعض المسلمين وقيل له ان يهدم كنيسة القيامة ولكنه اخذ بأثر عمر العادل وقال ان موقع الكنيسة مهم للنصارى مع او بدون الكنيسة ذاتها فأقفلها لثلاثة أيام واعطاها بعد ذلك للكنيسة الارثدوكسية. لم يكن حكم صلاح الدين عاشقاً للمسيحيين بالضرورة ولكنه سمح لهم بالعبادة وإبقاء الكنائس مع انه هدم بعضها خارج جدران المدينة ومنع دق الاجراس.

بعد معرفة أوروبا بسقوط القدس قاموا بتجهيز حملة صليبية ثانية (او ثالثة حتى نكون اكثر دقةً) بدأها ملك القدس الذي تركه صلاح الدين بعد حطين ولكن صلاح الدين لم يأخذهم على محمل الجد وارسل بعض الجند لصدهم ولكن النصر كان حليف الصليبيين الذين وصلتهم حملات بريطانيا وألمانيا وإيطاليا ليصلوا سواحل البحر الأبيض كالجراد ومن دون توقف ولكنهم لم يكملوا زحفهم لمشاكل سياسية بين دويلات أوروبا التي أرسلت افضل ملوكها وامرائها ليقودوا هذه الحملة ويستعيدوا دير السلام.


wVsf4ow.jpg

وفي عام 1190, جاء ريتشارد قلب الأسد (ملك بريطانيا), وفلب الثاني (ملك فرنسا) ليحرروا دير السلام من يد صلاح الدين ويعيدوا مجد الصليبيين. احتل قلب الأسد قبرص وكان اشبه بمحارب من رواية خيالية يحرر كل ما داست عليه قدماه. كان قليل الصبر عظيماً في الكلام بنفس مستوى صلاح الدين ولكن بصفات مختلفة. كان بحق المحارب الذي استحق صلاح الدين ان يقابله ولكن لم يكن الوقت مثالياً ابداً. كان صلاح الدين مريضاً على فراشه بالكاد يخرج بالجيش ليرفع معنوياتهم ويذكرهم بفضل الجهاد.. لم يستطع الجيش الأوربي التقدم بتلك السرعة حيث انسحب فيليب وسقط الكثير من الجند على يد الطاعون ولكن بقي قلب الأسد يحصد المدن حتى قايضه السلطان بإعطاء صليب كنيسة القيامة واطلاق سراح ألفين من الجند مقابل عكا.

لم يكن قلب الأسد محباً للسياسة والديبلوماسية وجاء بجيشه قرب معسكر صلاح الدين ليقتلوا ثلاثة الاف مسلم فهرع صلاح الدين بأرسال فرسانه ولكن الوقت كان قد تأخر. قام صلاح الدين بدوره بقتل جميع الفرسان الافرنج. الحرب طالت وكان جيش الملك يماطل ويطيل اللعبة لإرهاق السلطان حتى وصلت به الحال وحيداً برفقة عشرة من الحراس فأرسل حرسه المماليك لساحة القتال وخسر الحرب منسحباً بعدها ورافضاً الطعام حتى وصل القدس. عمل صلاح الدين على تحصين المدينة في رمضان وعلم قلب الأسد انهم لم يقدروا على الفتك بالمسلمين حتى لو استرجعوا دير السلام فالمسلمون الان متحدون تحت راية واحدة وصلاح الدين لن يسلم شيئاً بالسهل فقرر ان يعقد هدنة. كتب قلب الأسد لصلاح الدين ان دير السلام مكان مهم للمسيحيين وانهم ليسوا مريدين غيرها وغير كنيسة القيامة ليعود صلاح الدين ويبين له ان المدينة مهمة للمسلمين كذلك ولن يسلمها. وهنا يطرح قلب الأسد عرضه, يكون للافرنج السواحل المؤدية للمدينة والباقي للمسلمين ويحكم القدس اخو صلاح الدين الذي سيتزوج من اخت ريتشارد قلب الأسد ويكونا تحت رقابة صلاح الدين. قبل صلاح الدين الاتفاق حتى يردع ريتشارد ويحقن الدماء ولكن اخت ريتشارد لم تقبل بالزواج فعاد الأخير ليقول انه كان مازحاً وسيزوج ابنة أخيه بدلاً عن اخته. جهلاً بطريقة تعامل الانجليز, انزعج صلاح الدين من تفاهات قلب الأسد وقرر ان لا حل معه غير الحرب.

وبخضم الحرب مات ابن اخ صلاح الدين حتى طرد الحرس من قرب خيمته وصار يبكي لكثرة الهموم على كاهله ولكن سرعان ما قام غاسلا وجهه بماء الورد مقرراً ان الخيار الوحيد او تحصين دير السلام وانتظار قلب الأسد ليظهر حركته التالية وبالأخص مع تساقط الثلوج. عرض ريتشارد على صلاح الدين ان تُقسم المدينة (حوار اشبه بحوار إسرائيل وفلسطين اليوم) ولكن سرعان ما ادركا انهم لن يقبلوا باقل من المدينة بأكملها. وصلت الاخبار قلب الأسد بان صلاح الدين طلب جيشاً من مصر فخرج واكتسح ذلك الجيش حتى استسلم صلاح الدين وللمرة الأولى لم يعد يعرف ما الحل وكيف يخرج من ذاك الموقف وقلب الأسد يزداد شراسةً يوماً بعد يوم ومن المستحيل توقع حركته.

قام صلاح الدين بعد ذلك بعقد مجلس في القدس مع الامراء حتى يناقش الخيار الأمثل وكلن امراء صلاح الدين مثل الفرنسيين لقلب الأسد. كان يغمرهم الخوف ولم يريدوا البقاء في المدينة ليحصل لهم ما حصل لسكان المدينة في الحملة الصليبية السابقة. وبعد ان زاد التشاؤم في المجلس (فمنهم من صار يريد الخروج للعراق ومنهم من صار يريد المحاربة خارج الاسوار ومنهم من قال ان عليهم انتظار الموت في المسجد الأقصى) وقف صلاح الدين ووبخهم قائلاً بانهم قوم ضعاف يجهلون أهمية القدس وانهم لو تركوها لسقطت في يومين وخانوا امانتهم. وبذلك ابقى صلاح الدين الامراء داخل المدينة وسلم امره لله فصلى في الناس وصار يبكي حتى وصلته الاخبار في تلك الليلة بان الافرنج اعدوا عدتهم وانسحبوا لأوروبا وكان ريتشارد قلب الأسد قائد ذلك الانسحاب. الحرب الطويلة تلك اهلكت قلب الأسد وملوك أوروبا اكثر من المتوقع وكمية المال التي استخدمها ريتشارد لم تكن منطقية لدرجة ان أخيه كان يقود ثورةً في الخفاء وكان على قلب الأسد ان يعود لبريطانيا حتى يحفظ عرشه ومكانه. لم يعرف صلاح الدين باي من هذه التفاصيل وكان ينظر لقلب الأسد على انه شخص لا يظهر عليه اقل علامات التعب والارهاق فوجد الامر اشبه بمعجزة. راح يقبل بنيه وجهز الجيش حتى يعيد جميع المدن التي اخذها الصليبيون. وفي طريقهم للساحل يرجع قلب الأسد بصورة شبه خرافية وهو من دون أي درع ليعيد حيفا وتتلاقى انظار قلب الأسد وصلاح الدين ليصرخ الأول في المسلمين ويطلب منهم شخصاً ختى يبارزه مديراً بسيفه يميناً وشمالاً ليعجز المسلمون عن ارسال مقاتل. صلاح الدين كبير في السن وليس بمقاتل حروب, امرائه ليسوا بقريبين من الشجاعة فوقع صلاح الدين في خيبة امل شديدة بالجيش مع انهم كانوا اكثر عدداً من الافرنج ولعلهم كانوا قادرين على الإطاحة بالجيش.

عام 1192, تم عقد اتفاقية حيفا لتُقدم عكا وما حولها للممالك المسيحية ويبقي صلاح الدين القدس وبقاي أراضي فلسطين مع فتح كنيسة القيامة للنصارى. رفض قلب الأسد دخول دير السلام الإسلامية ولكن الكثير من فرسانه استقبلهم صلاح الدين فيما بعد لإقامة الحج وزيارة كنيسة القيامة.

تم اسر قلب الأسد من قبل الالمان لسنة حتى دفعت بريطانيا الفدية ليعيود ويحارب الفرنسيين ويموت بعد اصابته بسهم. قالت فيه كتب التاريخ انه كان ابناً سيئاً, زوجاً سيئاً, وملكاً اسوء.. ولكنه كان محرباً لم يشهد التاريخ له مثيل. في حين غادر صلاح الدين القدس وذهب لدمشق حيث ينتظره الكثير من أبنائه (كان لديه سبعة عشر ابناً) ولكنه تقاعد رسمياً فكان يبلغ الرابعة والخمسين من عمره منهك من الحروب والغزوات والسياسة. ترك دير السلام تحت حكم ابن شداد وهو من المقربين له والعارفين به منذ أولى أيامه. أصيب صلاح الدين بالحمى وقرر اطبائه إراقة دمه كنوع من أنواع العلاج (تباً حتى ابن سينا نصح بهذا النوع من العلاج) ولكن حاله تدهورت (مفاجئة). وفي يوم من الأيام سأل ماءً ساخناً للشرب فجائه بارداً فصرخ بالناس لعدم قدرتهم على تنفيذ ابسط الطلبات. مات صلاح الدين وهو يسمع القرآن عام 1193 ليخلده التاريخ بشخصية فذة غريبة على عصرها تمكنت من صد اعتى الهجمات على مدينة القدس ففعل مالم يفعله قائد عسكري في السابق منذ تحرير فارس للدير من ايدي بابل.

مات صلاح الدين تاركاً أبنائه واخيه يتصارعون حتى تقسمت ارض المسلمين على أولاده ليرجع اخوه سيف الدين ويحصد لقب السلطان بعد هزيمته لأبناء صلاح الدين. ولم يكن اخو صلاح الدين بالرجل الطيب كما عرف الناس أخيه ولكنه كان مقبولاً بين الناس عادلاً قادراً على قيادة امبراطورية الإسلام مترامية الأطراف.

كان ابن سيف الدين, المعظم عيسى, مشابهاً لعمه محباً للعلم والادب ثابت افكر حكيماً واعطاه ابوه سوريا. سرعان ما اثبت عيسى عبقرياته وصار الناس محبين له في كل انحاء المنطقة وهو كان كثيراً ما يمشي بينهم ناسياً أهميته في السلالة الحاكمة وحاضراً دروس العلم والفلسفة كطالب عادي غير مهتم بالسياسة. أعاد عيسى الكثير من اليهود لدير السلام واحتضن يهود أوروبا في المنطقة وأعاد بناء كل ما بقي من المدينة ليكون بأجمل حلة.

لم تطل فترة الاخبار السعيدة وسرعان ما حشدت أوروبا حملةً صليبيةً أخرى ولكن هذه المرة لأخذ مصر في البداية. وخرج سيف الدين لحماية مصر ولكنه كان في السبعين من عمره ومات بعد سماعه بسقوط دمياط. سارع المعظم عيسى ليساعد اخوه كامل (السلطان الجديد لمصر). الاخوان افتقرا الحكم السياسي وخبرة الحرب وقررا إعطاء دير السلام مقابل مصر. قام المعظم عيسى بحسبها حسبة عرب ليدهس على قلبه ويترك فلسطين بعد تدمير جميع الحصون عالماً ان الافرنج لو اخذوها كانوا ليقتلوا كل من فيها. تُركت دير السلام من دون أي دفاعات. لكن هنا تأتي المفاجئة!

الصليبيين كانوا بنفس الحماقة ورفضوا عرض الاخوين (بالله عليكم؟ قلبتم الدنيا عليها والان لا احد يريدها؟). حسناً, يبدو ان الجيل الجديد حفنة من الفشلة عديمي الخبرة. سرعان ما انتهت الحملة الصليبية بالفشل وصار الاخوة يتصارعون على الحكم ليخيب المعظم عيسى ظن ابن سينا فيه..

بقيت القدس بلا اسوار لثلاثة قرون وخسرت هالتها العظيمة واهميتها العالمية حتى القرن التاسع عشر. وفي عام 1225, قام الامبراطور الروماني فريدرك الثاني بحشد حملته الصليبية الخاصة. لكن فريدريك كان شخصيةً ممتعة ومميزة كذلك! بعد فترة من حصوله على لقب الامبراطور الروماني, صارت الكنيسة تسميه بالملحد او المسلم الكاذب وبعضهم قال انه لا يؤمن بالأنبياء ولا يريد غير السلطة.

تزوج فريدريك من ملكة القدس (كان الاوربيون يتوارثون القدس حتى وهي خارج سلطتهم) فصار هو الملك المتوج للقدس. خرج بعدها بحملة "صليبية" ليستعيد المدينة مستغلاً المشاكل السياسية في عائلة صلاح الدين. عرض السلطان كامل على فريدريك دير السلام مقابل وقوفه ضد المعظم عيسى ولكن فريدريك سقط مريضاً وعاد من حملته. مات المعظم عيسى وسحب كامل عرضه لفريدريك ولكنه الان واجه غضب أبناء المعظم فاتفق سراً مع فريدريك لتقاسم فلسطين. السلطان كامل لم يكن كأي سلطان, كان قد تم تعيينه كفارس من قبل ريتشارد قلب الأسد نفسه عندما كان صغيراً برفقة ابيه!

تكلم فريدريك وكامل في الفلسفة وشتى الأمور حتى قال له فريدريك انه لا يهتم لدير السلام ولا يريد ابقائها اصلاً. هو فقط كان يريد الإبقاء على علاقاته مع العالم المسيحي. طالت فترة النقاش وتبادل الهدايا بين الجهتين حتى سلم كامل القدس وبيت لحم لفريدرك الذي استطاع تحقيق المستحيل. أبقت الاتفاقية على حق المسلمين بالعبادة ولم يُذكر فيها اليهود اساساً (اغلبهم ترك المدينة مسبقاً وذهب بعضهم لأوروبا او الدول الإسلامية المستقرة). لم يكن التسليم كلياً وكان للمسلمين الحكم على الكثير من أراضي. بكى الكثير من المسلمين وأبناء المعظم عيسى على الاخبار واتهم المسلمون كامل بالخيانة والعمالة ولكنه أجاب بانهم لم يعطوا أوروبا غير بعض الكنائس والبيوت الخربة والمهم من دير السلام لا يزال تحت حكم الإسلام. في نظري كسب كامل اللعبة ووحد مملكة صلاح الدين تحت حكمه مع حفظه السلام مع دول أوروبا لفترة ليست بوجيزة وابقائه على اهم أجزاء فلسطين بينما بقيت أوروبا تكره فريدرك وتتهمه بالجبن لعدم استعادته للمسجد الأقصى والبقاع المهمة من المسلمين. كان فريدريك شديد الاحترام للمسلمين معجباً بدينهم وافكارهم وهكذا صارت القدس مملوكة من قبله تقريباً لعقد من الزمن.

مات كامل وكثرت الصراعات والحروب الصليبية ازدادت مع ان مفهومها انتهى وصارت المدينة ساحة حرب للممالك الاوربية والايوبية. وسرعان ما انتهى الايوبيين بظهور الممالك (وهم كانوا من العبيد الذين دخلوا الإسلام) ليشهد التاريخ ظهور الأمير بيبرس وشجرة الدر وسيف الدين قطز وهم شخصيات ستغير ما بقي من كتب التأريخ..

الوقت الحالي يشهد قدوم محبوبي الجميع, المغول!!

وهم اقوام همجية جاءت من وسط اسيا لتحرق الأخضر واليابس ويأخذوا بغداد ويقتلوا قرابة المئة الف من سكانها ومن بينهم الخليفة العباسي الأخير (آهه نسيت وجود هؤلاء). وصل المغول لدمشق وغزة ليرعبوا أوروبا والمسلمين بحضورهم الدرامي لساحة المعركة.
 

Avicenna

φιλόσοφος
Auk37ic.png

بِيعَ بيبرس ازرق العينين تركي الأصل من وسط اسيا وهو في سن صغيرة لأمير سوري. ومع انه كان عظيم الهيبة سليم الجسد, كانت فيه علة في عينه جعلت الأمير السوري يبيعه للسلطان الايوبي في مصر ليعينه الأخير في خانة المماليك (وهي نوعية من الحرس الخاص للسلطان). تمت تربيةُ بيبرس على الاخلاقِ الإسلاميةِ كحال جميع المماليكِ وكَسبَ لنفسهِ سمعةً عظيمةً في الجيشِ حتى حرره السلطانُ من العبوديةِ ليتسلقَ بعدها سُلمَ المَراتبِ. ويُقال انه كانَ لجانب قتلة السلطان ولكنه خسر الصراع الداخليَ الذي دار بعد ذلكَ ليُغادرَ مصر ويتجه نحو سوريا. ومع انه كان عظيماً في الحروب بين الامراءِ في بلاد الشام الا انه كان عارفاً بأهمية مصرَ سياسياً وبالأخص بعد ضعف الايوبيين.

تم استدعاء بيبرس من قبل الجنرال سيف الدين قطز الذي تمكن من الاستحواذِ على مصر. وبعد قدوم المغول ووصولهم لسوريا, خرج لهم بيبرس سنة 1260 ليسحق صقور الشرق في عين جالوت ويسجل اسمه في التاريخ حامياً لنفس الإسلام الأخير في المنطقة بعد ان اكتسح المغولُ بغداد وانهو الخلافة العباسيةَ وسفكوا الدماء واحرقوا الكتبَ في عظيمة المدن ذلك الزمان..

دخلت سوريا تحت حماية مصر وصار الناس يرفعون اسم الظاهر بيبرس كأسد مصر الذي يجلب النصر أينما حل. بعد تحرير سوريا, طلب بيبرس من قطز مدينة حلب لتكون تحت قيادته هديةً على ما فعلَ ولكن قطز رفضَ طلبه ذاك ولم يأخذه على محمل الجد. وفي يوم من الأيام اثناء رحلة للصيد, طعن بيبرس السلطان قطز ليُعيِنَ المماليكُ بيبرس ملكاً عليهم.

وسرعان ما بدأ بيبرس بشن الحملات بدايةً بسواحل فلسطين حتى يتخلص من أي تواجد صليبي في المنطقة. وفي طريقه دخل القدس ليقوم المماليك بأعادة احياء المدينة وتحديث ابنيتها وبالأخص المسجد الأقصى. يذكر التأريخ من ذلك الوقت ابتداء شيء اسمه احتفال النبي موسى ويُقال ان بيبرس كان خلف ذلك الاحتفال لينافسَ الوجود المسيحي في المنطقة. اهتمَ بيبرس بالمُتَصوفةِ وبنى لهم الكثيرَ من المَساجِدَ في المدينة وهذا طبيعي كون الكثير من المماليك كانوا ملتزمينَ بتعاليم الصوفية آخذين بفكرها سبيلاً في الإسلام.

لم يكنِ المماليكُ بخير حاكمٍ لسكانِ المدينةِ غير المسلمُين. تذكر الكثير من المصادر ان بيبرس نفسه كان واقفاً خلف تدمير الكثير من الكنائسِ ومنع الكثير من اليهود من العبادة. هذا واجبروا اليهود على ارتداء العمائم الصفراءِ تاركينَ الزرقاء للنصارى. بل حتى العرب المسلمين لم يخلصوا من المماليك!

فلم يكن بوسع احد غير المماليك ان يرتدي الفرو او يركب الحصان في المدينة. بيبرس والمماليك كانوا في غاية العنف وهذا شيء منطقي نسبياً نظراً لكيفية تعامل الايوبيين مع المماليك ولكونهم في نهاية الامر كانوا مُستعبدين من قبل العرب فكيف تراهم يحبون العرب بعد أن وصلتهم مقاليد السلطة؟

بعد خروج بيبرس من دير السلام, ذَهبَ تجاه عكا ليشُنَ اعنفَ الهَجَماتِ على الصَليبيينَ ويُرعِبَ الافرنج باستخدام الصلب والحرق والرسائل التي تشرح بكل دقة ما فعله جيشه بأرضهم وجندِهِم. واثناء حملته عاد المغولُ ليرجع ويحمي سوريا من خطرهِم. يُقال ان بيبرس وضع السم في الشرابِ اثناء دعوته لاحد المشكوك في امرهم ولكنه شرب السم بدلاً عنه ليموت بتلك الحادثة.

وفي عام 1291, اكمل المماليك حملتهم في عكا ليقتلوا كثيراً من الافرنج ويستعبدوا الباقين منه. تمت في تلك الفترة عملية استبدال اسم ملك القدس بملك قبرص لتنتهي مملكة دير السلام بالنسبة للعرب والنصارى بعد انتهائها بالنسبة لليهود.

وقبل ان نكمل قصة المماليك, يجدر الذكر ان كل تلك الحروب قتلت روح المدينة المزدهرة في دير السلام.

صارت القدس عاصمةً للموتى وللنهب... تركها العرب ذاهبين لمصر, وتركها كثير من اليهود ليعيشوا في اسبانيا وشمال افريقيا (هذا بالطبع فضلاً على يهود العراق وفارس وحتى بعض القبائل اليهودية في شبه الجزيرة). يذكر مؤرخ يهودي انه زار المدينة ليجد فيها ما يقارب الالفين من السكان. 300 نصراني واثنين اخوين من اليهود. تكلم كثير من رجال الدين على أهمية الرجوع للمدينة تعميرها وليس البكاء على حالها فحسب ولكن من يرجع والمدينة تتعرض لهجمات المغول كل يومين؟
وبالحديث عن المغول, كون امراءٌ من المَسيحيينَ تحالفاً مع المغول ليأخذوا المدينة فور سقوط بيبرس وتبعيته وتم الامر وصارت القدس تحت سلطة الكنيسة.

وهنا تصل ارض العرب لحال يُرثى لها, فلم يبقى لهم شيئاً الا ودمره المغول او استحوذوا عليه. ولكن يظهر بعد ذلك ملكاً سماه التاريخ بأعظم ملك مملوكي! كان اسم ذلك الملك الناصر ناصر الدين محمد بن قلاوون.

ومع ان محمد كان ابن الثمان سنوات, الا انه وصل للحكم مرتين وابقى على حكمه في المرة الثالثة وكان يبلغ السادسة والعشرين من العمر. كان الناصر محمد مستحقاً للقب الملك في زمانه فكان كارهاً للناس مشككاً بالمقربين به ومحباً للخيول. تزوج من واحدة من أبناء جنكيز خان وكان لديه فوق الالف جارية.



BYw93gQ.jpg


أعاد بن قلاوون السيطرة على القدس عام 1317 وقام بتعمير الكثير من المدينة ليبني فيها المدارس والأضرحة والقصور الفخمة. صار المسلمون يتوافدون للقدس حتى وصل لها ابن بطوطة ليرى المدينة تضج بالناس والاعمار المتميز والإسلامي البحت.

المدينة عادت يا سادة!

حسناً ليس بالكامل. فالمماليك لا يزالون كارهين لليهود والمسيحيين وناصر الدين صار يخاف من ظله بعدما صعد المماليك لأعلى الرتب فصار لا يثق حتى بهم ليعين العبيد القوقاز حرساً له بدلاً من المماليك او العرب.

وفي عام 1399, دخل تيمورلنك بغداد واتجه نحو سوريا بينما كان السلطان خارجاً لزيارة المسجد الأقصى. المثير للاهتمام هو ان ابن خلدون كان مرافقاً للسلطان وناصحاً له في ذلك الوقت بعد تركه تونس. كتب ابن خلدون الكثير من تاريخ تلك الفترة ووصف المغول خير وصف فبلغ عنه وعن باقي مؤرخي زمانه ان تيمورلنك خرج من الشرق حتى وصل الهند واصفهان بعدها ليقتل قرابة المائتي الف ويهدم كل شيء في طريقه. تيمورلنك لم يكن مجرد سفاح وعاشق حروب, فكانت لديه اعظم الحدائق في سمرقند وكان محباً للعب الشطرنج ومناظرة الفلاسفة والمفكرين. ويُذكر انه لطالما أراد ان يتكلم مع ابن خلدون..

أراد السلطان المملوكي عقد الصلح مع تيمورلنك بعد سقوط سوريا لعلمه بعدم قدرة المسلمين على حماية فلسطين ومصر. ولكن تيمورلنك لم يكن مهتماً بمقابلة السلطان والتكلم معه حتى ارسل اليه ابن خلدون نيابةً عن السلطان ليستقبله تيمورلنك احر استقبال. لم يكن ابن خلدون كباقي اتباع السلاطين فكان ممثلاً لنَفسِه كمفكر حتى لو تم ابتعاثه سياسياً من قبل السلطان المملوكي نفسه. كان ابن خلدون بنفس عمر تيمور تقريباً واستقبله الأخير في خيمته ليدخل ابن خلدون غير عارفاً لو كُتب لحياته بقيةً بعد ذلك اللقاء.

يذكر ابن خلدون اعجابه الشديد بالملك حاد الذكاء محب الحوار والمناظرة. كان تيمور يتكلم مع ابن خلدون في كل شيء تقريباً واراد ابن خلدون ان يبري ذمته ويطلب من تيمور ان يحرر الأسرى ويترك المماليك في حالهم. تيمور رفض عرض ابن خلدون ولم يعره أي اهتمام. تيمورلنك وُصف بعدها على شكل نصف مفكر ونصف ملك لا يجمع بين الأثنين. رجع ابن خلدون لمصر بعد اجتماعه ذاك ليموت بعدها بسنة..

بالنسبة لتيمور فقد قرر ترك المماليك بعد تسليم المقدسيين مفتاح مدينتهم له حتى يجتنبوا سفك الدماء. ذهب تيمورلنك للشمال حتى يتصدى لظهور الترك العثمانيين ولكنه مات في حملته تلك..

ارتفعت نسبة سكان المدينة لستة آلاف نسمة تكون الأقلية فيها اليهود والنصارى (مجموعهم كان يقدر ب 300 شخص). وكانت الأوضاع الداخلية والخارجية في عصور مظلمة تقريباً حتى بعد محاولات المماليك لإصلاح المدينة. كان القوافل التي تزور دير السلام ضعيفة السمعة ويكثر بينها النهابين واللصوص حتى قيل بان افسد الناس هم القاطنين والذاهبين للأرض المقدسة. المسلمين كثرت فيهم روح الفساد واليهود صاروا يكثرون ويكثر صراعهم مع المسيحيين حتى صاروا يشتكون للقاهرة على كل شيء ويلطخون سمعة النصارى في المدينة. طبعاً المماليك لم يكونوا مكاناً ممتازاً لليهود حتى يشتكوا ونهاية الامر تكون بمعاقبة الجميع في اغلب الأحوال.

المماليك الاوربية كانت تعاني مشاكلها الخاصة والدول العربية تعاني الفرقة وعدم الاستقرار. الأمور فعلاً لم تكن الأفضل في ذلك الوقت واستمرت الحال على ذلك حتى عام 1453, حيث تقلب لنا كتب التاريخ احداثها فيحتل العثمانيون القسطنطينية ليجلبوا المجد العظيم على المسلمين ويمسحوا بكرامة الإمبراطورية الرومانية الأرض وفي عقر دارها! هذه كانت نهاية روما وبداية التاريخ الحديث!

تعاون الممالك مع آل عثمان حتى يدفعوا العدوان القريب من البرتغاليين غرباً وفارس شرقاً بعد ظهور رجل اسمه إسماعيل الذي وحد البلاد بعد سنه لمذهب الشيعة الاثني عشري والذي لايزال موجوداً حتى يومنا هذا.


u2wqQGa.jpg

في أواخر العام 1516, قام السلطان العثماني سليم الأول (لقب بالقاطع) بشن حملةٍ, قليلٌ ذكرها في كتبِ الـتأريخِ, على المماليك لتسقطَ القدسُ تحتَ رايةِ العُثمانِيينَ بعدها بكم شهر. قام العلماء والشيوخ المسلمين بتسليم مفاتيح الأقصى لسليم ليكون بذلك حافظاً لقبلة المسلمين الأولى فيدخل سليم المسجد الأقصى ويصلي فيه. أبقى سليم على العهد مع الأنصار واليهود فبقيت دير السلام تحت تسامح ديني نسبي. خرج سليم لمصر ليحكم سيطرته على المنطقة وتُسجل فتوحاته بعد هزيمة فارس وتدمير المماليك. كان سليم شديد الحرص على الملك محترماً تقاليد الحكام المماليك وغيرهم بقتل اخوته واقاربه وحتى قيل انه قتل بعض أبنائه ليستفرد بالحكم مع ابن واحد له كان اسمه سليمان.

وجد سليمان نفسه حاكماً لإمبراطورية عظيمة وهو ابن الخامسة والعشرين من العمر. لقب نفسه بالشاه في بغداد, بالقيصر في الأراضي البيزنطية, وبالسلطان على مصر. هذا طبعاً غير لقب الخليفة الذي انتقل تلقائياً لآل عثمان بعد انتهاء عصر المماليك.

أخذ سليمان على عاتقه تجديد القدس ومكة ناظراً لهما كقلب للإسلام عارفاً ان امبراطوريته لن تقوم حتى يقوم هو بواجبه كخادم للحرمين وحامياً ومعمراً لبيت المقدس. كان سليمان شخصيةً عظيمة للغاية, حكم لنصف قرن ولم يترك شيئاً من مهام الملك الا وفعلها. وسع امبراطورية اجداده حتى وصلت حدودها لجميع القارات في ذلك الوقت. كان اشبه برعب دب في حصون أوروبا وملوكها, رعب تجاوز ذاك الذي جاء به المغول حتى!
سليمان تمكن بحنكة سياسية, وبراعة استثنائية في القيادة من ان يفتح دولاً واراضي لم يكن العرب حالمين بها أيام التوسع الاموي. غير هذه الفتوحات العظيمة فقد كان وجوده بمثابة الحصن المنيع لتلك المملكة مترامية الأطراف. يقول المؤرخون ان القدس اليوم هي قدس سليمان بعد كل الاعمال الانشائية التي قام بها لتوسيع وتحديث المدينة. من جدران المدينة وحتى الكنائس الحالية بُنيت في عهده. وضع في القدس كذلك الكثير من الأسواق وبنا فيها مسجداً اضافياً. وسع الحصون وبنا لها جسوراً وابواباً بعدما هُدمت في زمن الايوبيين، قام بوضع القنوات المائية وربطها بتسع ينابيع للشرب (هو من بناها ايضاً).

قام ايضاً باستبدال الفسيفساء القديمة والبالية بالبلاط المزجج بالفيروز والكوبالت الأصفر والأبيض (وبقيت هكذا حتى يومنا هذا). كمية البلاط كانت مهولة حتى ان السلطان قرر أن يبني معملاً لأنتاج البلاط بالقرب من المدينة ويجلب ابرع المهندسين من الإمبراطورية (وبالأخص من سوريا) ليزينوا قبة الصخر ويُخرجوها بأجمل حلة ممكنة. بقي نفس المعماريين في المدينة وتوارثوا عملهم فيها لقرنين بعد ذلك! وقيل ان سليمان لم يكف عن العمل والتوسيع في القدس حتى جائه في المنام ان اسوداً التهمته وهو يقوم ببناء القدس. كانت له اليد العظمة في تعمير القدس حتى لقبته زوجته بسليمان عصره (قاصدةً المقارنة بسليمان ابن داوود).

وصل عدد سكان المدينة لستة عشر الف وكثر فيهم اليهود الذين صاروا يتوافدون على شكل جماعات مهاجرة وقادمة من الغرب. عين سليمان رجلاً يهودياً اسمه ابراهام دي كاسترو كيده اليمنى في المنطقة بعد اثباته الإخلاص للسلطان بتحذيره من انقلاب محتمل. كان دي كاسترو رجلاً غنياً ومهاجراً من البرتغال وقصة الهجرة من منطقة الاندلس كانت شائعة للغاية ولكن كثير من سكان تلك المناطق كانوا يتوقفون في مصر او يذهبون للعراق وفارس حتى جاء العثمانيون وارجعوا القدس لما كانت عليه في السابق.

كانت بلاد الاندلس بمثابة الجحيم لليهود بعد استرداد الكاثوليك لها. قام الاوربيين بحرق قرابة الالفي يهودي وتحول ما يقابل العشرة آلاف يهودي للنصرانية حتى يحافظوا على حياتهم. الواقع في اسبانياً كان عنيفاً للغاية تجاه اليهود العرب الذين تمتعوا بسيطرة تامة على التجارة وأغلب الحرف الثقيلة في المنطقة لينزح ما يقارب المائة الف يهودي لبولندا وللعثمانيين الذين رحبوا باليهود ليكسبوا قيمةً تجاريةً واقتصاديةً عالية ويبينوا حقد أوروبا للعرب واليهود (وبذلك يكسبون الطرفين ويحفظ السلطان امبراطوريته من أي انقلابات داخلية).

بالطبع كان اليهود عرافين بكل الحرف كاسبين الوقت أيام الاندلس حتى يسيطروا على مهنة الطب والتجارة كلياً ليكونوا بعد ذلك عصباً مهمةً وقادراً على تغيير المجتمعات. ولذا لن يكون من الغريب ان يكون طبيب السلطان يهودياً وكبار التجار في الإمبراطورية من اليهود كذلك. تعرف السلطان على يهودي اسمه يوسف ناسي الذي هاجر بعدما أُجبرت اسرته على اعتناق النصرانية ليذهب بعدها لإيطاليا ثم القسطنطينية. وسرعان ما وثق به السلطان وعينه والياً على طبريا والجليل.

كان يوسف ذاك مؤمناً بعودة اليهود لأرض الميعاد وكان سياسياً بارعاً للغاية كسب احترام الجميع شرقاً وغرباً. قرب يوسف علماء القدس اليهوديين اليه وجعل من ارضه عاصمةً لليهود تقريباً فمهما كانت درجةٌ التسامح في القدس تبقى الكلمةُ العليا للمسلمين وهذا أضعف الكيان اليهودي السياسي في المدينة.

كان صراع السلطان مع ملوك أوروبا في غاية العنف وبعدها قرر ان يُخرج جميع الافرنج من المدينة بتهمة الكفر وعدم الطاعة للسلطان. حول بعدها منطقة البيزنطيين لمقام للنبي داوود وعين أسرةً من الشيوخ الصوفيين حماةً عليها (وهم كذلك حتى عام 1948). قام سليمان ببناء منطقة خاصة لليهود حتى يتعبدوا فيها ومنها ما يسميه الناس اليوم بحائط المبكى. فكرة منطقة اليهود كانت لفرض هيمنة الإسلام وتأسيس النظام في اهل المدينة فلا يتزاحمون على المناطق المقدسة.

لم يطل الصراع مع ملوك أوروبا حتى اعترف السلطان بالفرنسيين حليفاً له وقام بتعيينهم حماةً للمناطق المقدسة للنصارى في دير السلام. ويقول المؤرخين أن تلك كانت اول خطوةٍ كانت لصالح الاوربيين وبداية انهيار طويل المدى للإمبراطورية العثمانية.

وبعد خمس وأربعين عاماً من الحكم, يموت سليمان تاركاً الملك بعده لابنه سليم الثاني. لم يكن سليم ببراعة أبيه العسكرية ولا بحنكته السياسية ولكن العثمانيين كانوا في غاية القوة حتى يسقطوا بسبب ملك ضعيف او حتى عشر ملوك ضعاف. ولكن المشكلة الأعظم للأمبراطورية كانت الولاة من أمثال يوسف الذين كانت لهم نظرتهم الخاصة لبعض الأراضي وصارت عند بعضهم قوةً عظيمة تجابه قوة دول بأكملها. طبعاً هذا غير الانقلابات والثورات الشعبية في كل مكان (وهذا شيء منطقي لو فكرنا بحجم الإمبراطورية في ذلك الوقت).

وفي عام 1590, ثار العرب على ولاتهم وقتلوا بعض القادة والحكام ولكن سرعان ما قابلتهم القسطنطينية بجيش عظيم قمع الثورة وانهى الحس الشعبي في المنطقة. ولكن بنهاية الثورة تلك, وقعت فلسطين تحت حكم اخوين من البلقان كانا يتبعان النصرانية ولكن اصبحا مسلمين أيام سليمان. حكم الاخوين ومن بعدهم فلسطين بالسيف واضطهدوا سكانها لقرن كامل تقريباً! كان الحكم ذاك مبنياً على نظام ديكتاتوري يقتل الجميع مسلمين ونصرانيين ويهود طامعاً بالمال والسلطة الأبدية على المنطقة. كانت اغلب الصراعات مع المسيحيين الكاثوليك والحماية السلطانية لا زالت متكفلةً باليهود الذين صاروا هم المسيطرين على المدينة اجتماعياً بعد توافد الكثير من المهاجرين من الغرب وحتى من مصر.

ظهرت في تلك الفترة الكثير من الحملات الأولى لما نسميه اليوم بالصهيونية فكان الكثير من الاوربيين يدفعون باليهود ليعودوا لفلسطين ويتخذوا من المسيحية ديناً لهم حتى يعود المسيح ويخلصهم من ذنوبهم. كان هناك بعض الحملات التي تصرح بأن أمريكا هي دير السلام والأرض الموعودة وأن على اليهود السفر لها. نفس الأمر كان مشهوداً بين كثير من النصرانيين الذين وجدوا من الوعد الإلهية بأرض كنعان سبباً لهم حتى يرتحلوا غرباً تجاه الأميركتين.

طبعاً كثرت الاقاويل والخزعبلات في ذلك الوقت حتى ان البعض صار يرى نفسه المسيح المخلص وأن نهاية الزمان قد اقتربت وأن على الناس ان يتجهوا للقدس حتى يُخلصوا. وفي ذلك الوقت نرى الصراع يشتد بين العثمانيين وأبناء فلسطين حتى اندلعت الثورات وصار العثمانيون يقومون بمجازر جماعية ويعلقون رؤوس المعارضين أمام المسجد الأقصى ليعتبر أهل المدينة بذلك. ولكن في عام 1702, قام المفتي بحرق الفتيل وادلاع الثورة بعدما أستنكر على العثمانيين أفعالهم الشنيعة .

فتح الثوار السجون وعينوا قاضي المدينة حاكماً لها والذي بدوره عين محمد ابن مصطفى الحسيني ليكون الحاكم الفعلي للمدينة ويُعلنوا استقلالها من الإمبراطورية العثمانية. نجح الحسيني في ردع محاولات القسطنطينية المتكررة في استرجاع المدينة. كان الحكم آن ذاك مركزياً بحتاً لا يهتم بقوانين التسامح التي سنها سليمان ومن قبله. تمت التفرقة بين النصارى واليهود والمسيحيين ومُنع أهل الكتاب من لبس ملابس المسلمين والخروج بلبس ابيض يوم السبت. وصلت في تلك الفترة قافلةً من المهاجرين اليهود ممن لم يتكلموا غير البولندية واليديشية ليموت قائدهم سريعاً ويُتركون من دون مسكن ولا أكل ولا ثياب في الطرقات بعد اهمال الوُلاة وعدم اكتراثهم بغير المسلمين.

وسرعان ما عاد العثمانيوون بجيش عظيم لاستعادة المدينة وساعدهم في ذلك الشيوخ المتصوفة فيها ليستولوا على برج داوود ليتبادل بعدها الطرفين النبال لثلاثة أيام. خسر الحسيني الكثير من الدعم وكثرت اعداد الموتى ليهرب ليلة ال 28 من نوفمبر عام 1705 ويلحق به الجيش العثماني ليمسكوا به ويقتلوه بعد فترة وجيزة. خرج الكثير من اليهود الأغنياء بعد تلك الحادثة وبقي الأشكنازية بولنديين الأصل من الذين اصابهم الفقر عند الوصول للمدينة.

تم توريث الحكم الداخلي بعدها لعائلة ثانية سموا نفسهم بالحسينيين كذلك وهكذا كان من اسم السلطة والدين ميراثُ القدس ليكثر فيها الفساد واعمال العنف تجاه اليهود الذين صاروا يضربون من العرب في المدينة ليأتي التركي ويزجهم بالسجن بعد ذلك. وهكذا صارت لدينا هجرةٌ عكسية لليهود (للمرة الالف طبعاً)..

العثمانيون لديهم مشاكلهم الخارجية كذلك بعد خسارات متعددة على يد الروس بقيادة الامبراطورة كاثرين العظيمة والخطر الأعظم القادم باندلاع الثورة في فرنسا!


CApFaAX.jpg

وفي عام 1798, خرج نابليون بونابرت وهو في أواخر العشرين من عمره بأربع مئة سفينة وخمس وثلاثين محارب يرافقهم مائتي عالم متجهين صوب مصر. كانت أوروبا الثائرة شيئاً مرعباً بحق, فمع ان الثورةَ عادةً ما تجلب المشاكل وعدم الاستقرار الا ان الثورةَ الفرنسية كانت شيئاً تتعلم منه باقي الشعوب. أنتجت الثورة حساً بالتطور المعرفي والثقافي والسياسية اجتاح هيمنة المسلمين واليهود العلمية ببضع عقود فحسب, فتلت الثورة ثورةً أخرى من الحرية والتنوير لم يشهد لها التأريخ مثيلاً.

وجد الامبراطور الفرنسي نابليون من مصر هدفاً سهلاً بعد تفكك الإمبراطورية العثمانية وضعفها من كمية الحروب وكثرة الثورات والصراعات الداخلية. كان نابليون يحاول فرض هيمنته على الانجليز الطامعين بمصر وبنى مبادئه على توحيد الفكر والدين والسياسية حتى وصل بذلك سواحل مصر ليقابل تحدياً من الاتراك ومنافسةً بريطانية من جهة البحر كذلك. تمكن بونابرت من احكام سيطرته على مصر ودمر العثمانيين فيها ليتوجه بعد ذلك لفلسطين برفقةِ قرابة العشرةِ آلاف جندي والألف جمل. وصل بونابرت لحيفا وقتل فيها الناس رجالاً ونسائاً حتى وصف أحد علمائه المنظر بال"مرعب" من كثرة الأجساد والدماء (مرحباً بك في دير السلام يا صديقي!).

كان الوالي على المنطقة رجلٌ يُلقب بالجزار فكان يقطع اذن وانف اتباعه اذا شك بخيانتهم ليبني بذلك قلعةً من الولاء مبنيةً على الإرهاب النفسي والبدنية لسكان المدينة والجيش كذلك.

أمر نابليون بقتل أربعة الاف من اتباع الجزار وتقدم بعدها محرزاً الانتصارات حتى وصل لرام الله قرابة 25 كلم من القدس. وفي ذلك الوقت كتب نابليون الرسالة التالية لليهود:


من بونابرت، القائد الأول في جيوش الجمهورية الفرنسية في أفريقيا وآسيا، الى الورثة الشرعيين لأرض إسرائيل.
الإسرائيليون هم الأمة الفريدة التي لم تستطع آلاف السنين وشهوة الفتح والطغيان ان تجردهم سوى من أرضهم، ولكن ليس من اسمهم وكيانهم القومي.

وعلى الرغم من أن أولئك المراقبين المحايدين المهتمين بمصائر الأمم لا يتحلون بمواهب الأنبياء أمثال إشعيا ويوئيل، فإنهم شعروا، ومنذ وقت طويل، بما كانا تنبآ به، وهذا عندما شاهدا الخراب الذي كان يزداد اقتراباً من مملكتهما ومن أرض آبائهما.

"والذين فداهم الرب يرجعون ويأتون آل صهيون بترنيم ويكون على رؤوسهم فرح أبدي ويتبعه السرور والفرح وتنهزم عنهم الحسرة والتأوه" نبوءة إشعيا.

ألا ثوروا على العار، يا أيها المشردون، وأعلنوها حرباً لم يحدث مثلها في تاريخ البشرية، حرب تقوم بها أمة اعتُبرت أرضها - بجرة قلم من الحكام - غنيمة لأعدائها الذين يريدون، بفظاظة، تقاسمها فيما بينهم وكما يشاؤون. إن فرنسا تنتقم لعارها ولعار أبعد الأمم التي تُركت منسية وقتاً طويلاً تحت أغلال العبودية، وتنتقم للعار الذي أحاق بكم خلال ألفي سنة.

ومع أن الوقت والظروف لا تبدو مواتية للمناداة بمطالبكم ولا للتصريح بها، وفي الوقت الذي يبدو أنكم، على العكس من ذلك، تُدفعون الى التخلي عنها نهائياً، فإن أمة تعرض عليكم، في هذا الوقت بالذات، وبعكس كل التوقعات، تراث اسرائيل. إن الأمة العظيمة التي لا تتاجر بالشرف، كما فعل أولئك الذين باعوا أجدادكم الى كل الأمم، تناديكم الآن" ليس من أجل أن تقوموا بغزو ميراثكم، كلا بالتأكيد. بل من أجل أن تتسلموا منها ما احتلته، حتى الآن، وبحصانة ومساعدة هذه الأمة. كي تبقوا أسياد البلاد، ولكي تدافعوا عنها ضد كل الذين يريدون غزوها.
لقد جعل الجيش الصغير الذي بعثتني العناية الإلهية به الى هنا من القدس مقر قيادته الرئيسة" ان هذا الجيش الذي يُقادُ بالعدل، ويصحبه النصر، سوف ينتقل بعد أيام قليلة، الى دمشق، المدينة المجاورة التي تهدد مدينة داوود.

ألا هبوا، برهنوا على أن القوة الساحقة لمضطهديكم قد استطاعت، بالتأكيد، أن تصيب شجاعة سليلي أولئك الأبطال الذين كان عهد إخوتهم مبجلاً حتى في اسبرطة وروما يوئيل. غير أن ألفي سنة من العبودية لم تنجح في القضاء عليها، ألا هبوا، فها قد سنحت الفرصة التي قد لا تتكرر ثانية خلال ألفي سنة، من أجل المطالبة باسترداد حقوقكم المدنية بين سكان المعمورة التي حُرمتم منها بشكل مخز طيلة ألفي سنة، ومن أجل المطالبة باستعادة كيانكم السياسي كأمة بين الأمم، وبحقكم الطبيعي في عبادة يهوه بحسب إيمانكم علناً، ومن غير شك، الى الأبد.


وليس من الغريب الحصول على هذا الكلام من زعماء أوروبا في ذلك الوقت, فالحركة الصهيونية قد بدأت في الحقيقة على يدهم ولم تكن على يد اليهود بالتحديد. غير هذا فرسائل نابليون شديدة الحماس قليلاً ورسالته المنقولة لأهل مصر كان يقول فيها انه "مسلم" في الحقيقة وما دخل المدينة الا لينهي المماليك الواقفين تجاه حكم السلطان العثماني.

وبسرعة دخول نابليون لفلسطين كان خروجه منها على يد البريطانيين والجزار الذي كانت دمشق بمثابة يديه ورجليه من كم الوفاء. وسرعان ما تم سحق الجيش الفرنسي وتم الانسحاب النهائي بعد قدوم التعزيزات العثمانية ليعود الجيش لمصر ولكن هيهات..

مصر كانت مستعدةً لطرد نابليون ولم يقدر الأخير على تحمل الضغط ليغادر تاركاً جيشه ورائه ليرتقب التأريخ ابشع المسبات من الجيش الفرنسي لقائدهم المهزوم الذي تركهم ورائه (حسناً هذه حركة رخيصةٌ فعلاً من جهة نابليون بعد كل كلامه العظيم ورسائله الرنانة).

تمت مكافئة الجزار من قبل العثمانيين على حماية المدينة ولكن بسبب طريقة حكم الأخير, اندلعت المشاكل في فلسطين بعد موته عام 1804. لتكثر فيها الثورات والصراعات الداخلية التي وصفها المؤرخون بأبشع دمار داخلي منذ قدوم المغول!

كثرت الصراعات واوقات السلام في فلسطين كالعادة وسرعان ما استطاعت الدولة العثمانية اخماد نيران الحقد التي خلفها الجزار في اهل المدينة. لم تكن المدينة بأحسن حال ولكن تعلم العرب والأرمن واليهود ان يتعايشوا بسلام ويتركوا أمور السياسة ولو لفترة قصيرة. يذكر أحد المؤرخين انه تمنى لو بمقدوره حمل جميع المناطق المقدسة وارسالها لدولة إسكندنافية لقرن من الزمن حتى يتعلم الناس الحياة السلمية فيعيدها لهم.

ولم تطل فرحة فلسطين بالسلام حتى دخلها الجيش المصري عام 1831 ولكن هذه المرة كان الحكم في مصر للأسرة الألبانية. والان لدينا القائد الجديد لدير السلام: محمد علي!

كان الالبانيون من الثوار الواقفين تجاه الحكم الفرنسي بعد قدوم نابليون وجاءوا باسم السلطان العثماني حتى يُعينوا مصر لتتحرر من سلطة الفرنسيين. وبعد مغادرة بونابرت بقيت مقاعد السلطة شاغرةً فاستغلوا الفرصة واخذوا بذلك حكم مصر. تم تعيين محمد علي والياً لمصر من قبل العثمانيين. وبعد فترة من الحكم خرجت جماعة وهابية في مكة بقيادة الاسرة السعودية ليحكموا سيطرتهم على المدينة. طلب السلطان محمد الثاني من محمد علي بعض المساعدة ليذهب الأخير ويعيد مكة بعد قتل عبدالله قائد الثورة. نفس الامر حدث بعدها عام 1824 ولكن الثورة كانت في اليونان وتم اخمادها كذلك من قبل محمد علي. ولم تتم هزيمته وتحرير أوروبا لليونان حتى تعاونت فرنسا وبريطانيا وروسيا عام 1827 ليستعيدوا المنطقة ويخرجوا العثمانيين منها. ضعف العثمانيون وصار محمد علي يأخذ الأراضي يميناً وشمالاً حتى ضم تحت حكمه فلسطين وسوريا وحتى اغلب تركيا هازماً لكل جيش ارسله السلطان. ومع اقترابه من إسطنبول, قرر السلطان الاعتراف بمحمد علي حاكماً للحجاز ومصر وحتى بلاد الشام وكانت الأخيرة تحت ولاية نائبه إبراهيم.

إبراهيم ذاك كان الشخص الفعلي الواقف خلف جميع انتصارات محمد علي والعقل المدبر لهزيمة اهل الحجاز واليونان وحتى الفتوحات عند باب إسطنبول. كان إبراهيم يجلس على عرش متشبه بملوك أوروبا ويشرب النبيذ امام الناس. اقر ايضاً بأن جميع سكان القدس سواسية تحت ظل القانون ولم يعد على اليهود والنصارى التقيد بالملبس او ركوب الخيل, بل وأعفاهم من الجزية كذلك لأول مرة (رسمياً على الاقل) تحت حكم إسلامي (ضع في الحسبان ان الالبان كانوا كارهين للعرب أشد الكره).

صار الصراع بين الالبان والعثمانيين (تحت قيادة السلطان عبدالمجيد) صراع كسب دعم دول أوروبا حتى صار السلطان العثماني يعطي جميع الصلاحيات للأقليات ويبين ان العثمانيين قادرين على الإصلاح والحد من المشاكل الداخلية.

وأين كانت وجهة نظرك وطريقة تفكيرك في الاحداث الحالية, التاريخ هنا يقول ان ارض العرب كانت محكومةً من قبل الاوربيين وانتهى الكلام. لم يكن للألبان ولا العثمانيين سيادتهم الفعلية بعدما ادخلوا دول أوروبا في المنطقة لتصير دير السلام اشبه بمعقل بريطاني قبل الاستعمار حتى!

لم تكن دير السلام منطقةً مقدسة فحسب, بل وجدت أمريكا وبريطانيا منها صنماً لتهدئة نفوس من توقع قدوم المسيح الثاني من الأنصار. وبذلك كثرت الفتن مع يهود أوروبا وكثرت معها اعمال العنف التي استهدفت اليهود حتى صِرتَ ترى هجرةً يهوديةً ثانية لفلسطين وهكذا هي الحياة كالعادة عزيزي القارئ..

pXtzyfx.jpg

ومع انقلاب العالم رأساً على عقب حتى لم تعد تعرف من الصديق من العدو قد يرى الباحث من التاريخ دمار دير السلام الأخير قد اقترب وأن المدينة لابد ان تكون مليئةً بالكره والصراعات الداخلية والمشاكل كما اعتدنا عليها. ولكن في الحقيقة كانت فلسطين في نهايات القرن التاسع عشر اشبه بمدينة تجارية مستقرة بعيدة كل البعد عن تفاهة العالم الخارجي!

اعلم ان وصف "مسقرة" قد يكون نسيباً بعض الشيء, وقد لا يُصدقني البعض ولكن كانت فعلاً مستقرة (والله ابن سينا لا يمزح هنا, هذا هو مقال كتب التاريخ)..

كان يسكن المدينة الكثير من القادة العثمانيين بلباسهم الذي أخذ شكلاً اوربياً بعض الشيء, وبصحبة العثمانيين نرى اليهود والأرمن والعرب من النصارى والمسلمين. كان مظهر العثمانيين في ذلك الوقت يدعوك للتفاؤل بالدولة العثمانية الحديثة التي ستحكم الناس بالعدل تحت راية الإسلام. هذا وكانت ملابس العرب هي نفسها ملابس اليهود. كان من اليهود اناساً فقراء بالإضافة لبعض العبيد الذين صاروا يبيعون ال"شربت" المثلج لعرب ويهود المدينة الأثرياء وسرعان ما ارتفع بعض هؤلاء العبيد ليتحرروا ويدخلوا الطبقة الفقيرة من المجتمع. كانت المدينة كثيرة التنوع الثقافي وحتى اللغوي فترى البعض يتكلمون الأرمنية بينما ترى الجند يتكلمون التركية, اغلب الناس كانوا يعرفون العربية وكان اليهود يُتقنون اليدشية كذلك.

بعد نهاية شهر رمضان, كان جميع سكان المدينة يتجمعون خارج الأسوار ليحتفلوا بالعيد فترى الأطفال تجري من حولك في جميع شوارع المدينة لا فرق بين تركي مسلم وعربي نصراني. كان الباعة يخرجون بعروضهم المبهجة ليبيعوا الحلويات العربية والتركية فترى الناس تتوافد اليهم وكأنَ المسيح كان قد خرج بين ظهرانيهم تلك الليلة. وفي أيام عيد الفور, كان المسلمون والنصارى العرب يلبسون ثياب اليهود التقليدية ليحضروا جميعاً نزهات جماعية شمال بوابة دمشق. كان اليهود يرسلون نوعاً من الخبز اليهودي المعروف لجيرانهم العرب ويدعوهم للعشاء في عيد الفصح بينما كان العرب يرسلون رغيفهم العربي المخبوز حديثاً لجيرانهم الاتراك واليهود. كان الموهل اليهودي يختن أطفال المسلمين وكان اليهود يحتفلون بجيرانهم المسلمين بعد عودتهم من الحج ووصلت بينهم العلاقات حتى ان شيوخ المسلمين كانوا عُرفوا بالصلاة بجوار اليهود للاستسقاء أيام قلة المطر. وصفت كتب التاريخ القدس ذلك الوقت بمدينة فرح وموسيقى تُطرب كل سامع. كثرت فيها المقاهي والاحتفالات. المنظر الذي ترسمه كتب التاريخ عن المدينة ذلك الوقت أشبه بيوتوبيا لن يستطيع ابن سينا ان يصدقها. ببساطة, كان الناس في المدينة يرون انفسهم "قدسيين" اولاً ويتبعون ذلك بأين كان من اصلهم العرقي او الديني..

وخلال السلم الغير معتاد في فلسطين, عجت أوروبا بحملات معادية لليهود والساميين بشكل عام ناظرين لهم نظرةً دونيةً وواضعين كل مشكلة في تأريخ البشرية في رقابهم ليتم نفي قرابة الثلاثين الف يهودي من روسيا وحدها.

وفي عام 1896, قام محرر نمساوي بطبعة كتاب اسمه "الدولة اليهودية" لتقوم بذلك ثورةٌ سياسية غيرت مجرى احداث دير السلام ومثلما توقع ابن سينا, كانت حالة السلام تلك الهدوء الذي سبق العاصفة!
 
التعديل الأخير:
أعلى