مسيرة مُشبعة بالنجاحات، وبالكثير من الصعوبات المُتجاوزة، تطور هائل مرت به مهنة مطور ألعاب، من ألعاب من شخص واحد، لمئات المطورين على مشروع واحد، Michel Ancel عاش كل هذا، ونال حقه ممّا يعطي المجال أصحابه، وأعلن أن العالم اليوم سيستغني عن رؤيته كمصمم ألعاب، ليتفرغ بشكلٍ كامل لعالم البراري، فالفرصة تسمح لنا للعودة من البداية، ونتعرف على أجزاء متفرقة من بدايات هذا المُطور والمخرج، إلى أن نصل لمشروعه الأخير.

أرانب ميشيل البلهاء شقية وكثيرة الحركة، وقد رافقت مع شخصياته الآخرى طفولة الكثيرين، أمّا هو، فقد وُلد بعيدًا عن كل هذا، ولعلّه احتفظ ببعض ذكريات طفولته التي تميزت ببعض الشقاوة بلا شقاء، عائلته كانت كثيرة الحركة بسبب مهنة أبيه العسكرية. وُلد ميشيل في إمارة موناكو، مُتحدثًا اللغة الفرنسية، فتشكلت الكثير من ذكرياته في الفترة التي – لطبيعة عمل والده – عاش فيها في تُونس الخضراء، وقد تأثرت حياته بهذه المرحلة كثيرًا، ففي تُونس وجد الحياة مُختلفة عمّا كانت عليه في موطن نشأته.

اعتاد ميشيل وهو صغير أن يُشاهد مسلسلات الرسوم المتحركة وتحضره أسماء مثل Capitaine Flam / Captain Future وجراندايزر/Goldorak وكذلك كابتن هارلوك/Albator، أمّا في بلاد الأُنس، فلم يجد تلفازًا، واللغة كانت العائق (رغم أن القنوات في منطقة شمال أفريقيا لم تبث باللغة العربية فقط على أي حال) فلم يكن له سوى أن يجد أُنسًا في صحبة من يستطيع أن يلتقيهم في الشارع، ولأنه كان طفلًا يبدو عليه الهدوء قبل أن ينفجر حيلًا ماكرة وخدعًا، فقد كانت هواياته مُشَكَّلَة من اللعب في الأزقة واستخدام المُفرقعات، وقد خلّصه ذلك من الكثير من الخجل فأصبح قادرًا على التفاعل مع الأشخاص بشكلٍ أسهل وتكوين علاقات بشكلٍ سريع.

في تُونس كانت البداية

واحد من أصدقاء آنسل امتلك جهاز ألعاب من أتاري، فكان هذا أول لقاء له مع ألعاب الفيديو، وقتها كانت الألعاب تعتمد على المُخيلة أكثر من اعتمادها على الصورة، لعبة Indiana jones مثلا على الـAtari 2600 كانت مُبهرة لأطفال ذلك الزمن، إلّا أنها تقنيًا كانت مجموعة من العُنصورات (Pixels) المُتراصة لا تدري طبيعتها إلّا إن كُنت قادرًا على معرفة اللعبة أو المصدر المقتبسة عنه، Plaque Attack من Activision التي تحولّت لواحدةٍ من أضخم ناشري ألعاب الفيديو كانت من ألعابه المفضلة أيضًا، وعليها قضى ساعات طويلة وهو يلعب دور معجون أسنان.

Plaque Attack activision

ترك آنسل كل هذا خلفه حاملًا ذكرياتٍ لا تتكون من ألعاب الفيديو فقط، وذلك عندما رحلت عائلته في نهاية الثمانينات إلى مونبلييه – فرنسا، هناك بدأ تعلم البرمجة بحصوله على جهاز Atari 600XL الذي تعلم عليه الكتابة السريعة على أزراره، وبعده جهاز Atari ST، واعتمد في بدايات ذلك على مجلة فرنسية، إلّا أنه من المبكر حقًا الحديث عن البرمجة بشكلٍ حر (أي كتابته لبرمجياته الخاصة من الصفر) فالمجلة احتوت مجموعة من الرموز البرمجية التي بإدخالها، يُمكنك صناعة لعبة، ونحن هنا مازلنا نتحدث عن شخصٍ لم يصل 15 سنة بعد، أمّا البداية الحقيقية فكانت مع لعبة ملغاة تُدعى Mechanic warriors عمل عليها رفقة مُبتكرها Nicolas Choukroun الذي تولى البرمجة، في حين اهتم آنسل بمظهر اللعبة، وقد احتفظا بنفس الأدوار بتوقيعهما لعقد نشر مع مفخرة الإخوة الخمسة من عائلة Guillemot، شركة العائلة، الفرنسية Ubisoft.

بداية الرحلة مع Ubisoft

بعمر 15 سنة، بسيرة ذاتية لا تحتوي سوى لعبة ملغاة، انتقل الأب الروحي لشخصية رايمان للعاصمة باريس حيث مكاتب Ubisoft، الشركة بدأت في شقة غير مُنظمة، حيث كل مُطور يؤدي مهمته ويُحضر شايه بنفسه، اشتغل في عمرٍ فتي على لعبة The Intruder مع نفس المُبرمج الذي اشتغل معه على لعبة Mechanic warriors، إلّا أنه سرعان ما عاد إلى مونبلييه، وكان العمل مُستمرًا عن بعد، ومن الطُرف التي يتذكر آنسل أنه كان لتسريع العمل بدل استخدام شبكة الاتصال البطيئة، كان يُلصق قرص البيانات المرن (Floppy disk) أسفل مقاعد القطار ليصل بعد 3 ساعات للمُطور الآخر، في حين يأخذ نقل البيانات ساعات طوال، هذا إن كانت عميلة نقلها ممكنة من الأصل.

16 سنة،آنسل الآن مُصمم ألعاب طموح مستقل ومتعاقد مع Ubisoft، لا هو كان يعلم أين ستقوده الرحلة ولا Ubisoft كانت تدري أنها مُقبلة على تحويل الشقة لإمبراطورية لتطوير الألعاب تُقدر أرباحها السنوية بالملايين والملايين، فمن الشقة المهترئة أرضيتها، لقصرٍ كامل تحول لما يشبه خلية نحل، آنسل عاد من جديد إلى باريس إلى الشقة ليلتقي فريق التطوير ليتم تحويله يومها إلى بروتاني، وهناك في منطقة معزولة يقع قصر (لا كغي دو كالاك) la Grée de Callac، هناك خلية المُطورين، فرق صغيرة أنشأتها Ubisoft داخل قصر حقيقي تشتغل على ألعابٍ مختلفة، يلهو أعضاؤها ويتبادلون الشراب بدل الخبرات، كل شيء يسير بلا إشراف إلى أن يزور Gérard أحد الإخوة الخمسة من عائلة Guillemot القصر ليعود كل شخصٍ لما كان يعمل عليه.

اقرأ مقالنا عن بداية شركة Ubisoft.

The teller

لم يقضي آنسل وقتًا طويلًا هناك، كان مطورًا من بين الكثيرين، ففضل العودة لمونبيليه حيث المُستقر وموضع الراحة المفضل له وحيث تعيش عائلته، وقد اشتغل هناك على أول ألعابه، The teller/Brain Blastersوهي لعبة ألغاز تعتمد على تذكر الأشكال وإعادة بنائها مع دعم للعب التنافسي لأكثر من لاعبين، كل شيء فيها من بنات أفكاره، كان صعبًا إيجاد مطورين، والأكثر، من الصعب إيجاد من يتقن الجوانب التقنية، فحلّها بنفسه بأن جعل من نفسه الحل لكل مشكلة، فطور كل شيء وصممه بنفسه، من النصوص للجوانب التقنية (بفضل كتاب برمجة كبير) والفنية بما فيها الموسيقى والمؤثرات، وقد بنى بعد ذلك أداة تحريك بسيطة استخدمها لاحقًا لتحريك صديقنا ذو الأطراف الطائرة رايمان على جهاز Atari، دون أن يكون مُخططًا لجعله واحدًا من أشهر شخصيات الألعاب.

Rayman

رايمان، أيقونة من أيقونات الصناعة، المميز؟ أطراف طائرة، السبب؟ بسيط للغاية، تحريك الشخصيات لم يكن بالأمر البسيط، المطلوب لشخص يعمل على كل شيء بنفسه أن يجد حلّا لذلك، فما عقّد العميلة عليه أن يُزال، وما يجعل تحريك الشخصية صعبًا عليه أن يُبسط، فكر آنسل، ووجد الحل السهل، تخليص شخصيته من أعضائها لكيلا يكون عليه سوى تحريك القدمين بدل الرجلين والكفين بدل اليدين بكل أطرافها دون الاكثرات للمفاصل وأين تلتقي، فإن كانت الشخصية مقبلة على التقاط شيء لا حاجة لرسم حركة اليد ومكان الرسغ والكف والمرفق والكتف وغيرها، بل عليه فقط تغيير مكان راحة اليد التي تلتقط الجسم مع ميلانٍ لجسد رايمان باتجاه الجسم المُتلقط ليُشعر اللاعب بأن طرف رايمان متصل بباقي جسده، والحيلة نفسها اعتمدها في القفز حيث ينخفض جسد رايمان ويرتفع عند القفز.

اشتغل آنسل على شخصيته وانهمك بين تطوير وتحريك وبرمجة وتجربة وتعلم، قبل أن يطلب مُساعدة مُبرمجٍ خبير وبارع، وتمكنا وهما اثنان من تطوير نموذج يعمل لجهاز Super Nintendo وهو مازال حينها مُصممًا مستقلًا متعاقدًا، قبل أن ينتقل التطوير للـAtari Jaguar وبعده الـPlaystation الأول بطلب من Ubisoft التي بدأت التحرك باتجاه أجهزة أقوى، ولأن آنسل ذاق متعة تسليم بعض المهام لأشخاص آخرين، فقد توقف عن التفكير عن الحلول التي تصنع منه الحل الوحيد، واشتغل على لعبته بشخصيته ذات الأطراف الطائرة مع رسامٍ ورسامة تحريك، كلاهما دخلا المشروع دون خبرة في تطوير الألعاب، لكن بمهارة سمحت للعبة بأن تصمد كل هذه السنين ضد اختبار الزمن، ويبقى شكلها مقبولًا حتى هذا اليوم.

حتى وإن كان عقده مع Ubisoft فإن الناشر لم يكن بالإندفاع الحالي، وأنسل طبعًا لم يكن له اسم كما هو الآن، فقد كان يقود فريقه منفردًا معتمدًا على موارد تطوير محدودة، وأغلب فريقه مكون من أشخاص لا دراية لهم بألعاب الفيديو فكان الأمر مُتطلِبًا للغاية، كما كان المطلب دائمًا أن يأخذ عمل الرسامين ويضعه في اللعبة بشكلٍ يجعله يعمل، إلّا أنه يتذكر تلك الفترة الصعبة على أنها كانت مليئة بالكثير من العلاقات المثمرة والصداقات المستمرة والأوقات الممتعة، عوضته بلا شك عن صعوبة تطوير الألعاب في مرحلة انتقالية.

بين الجزء الأول والثاني من اللعبة، اشتغل آنسل على فكرة لعبة Tonic Trouble، وشكلت انتقاله للعوالم الثلاثية الأبعاد بفريق كبير هذه المرة، عملية التطوير صعبة، الفريق يُصبح أضخم، الشخصية الرئيسية وبشكلٍ طريف بتصميم مقارب لرايمان، لكن الاشتياق لعملية تطوير لعبة مع فريق صغير كان كبيرًا، فعاد آنسل للشخصية التي صنعت شهرته وصنع شهرتها، الجزء الثاني من اللعبة التي حققت نجاحًا كبيرًا وأثبت للإخوة Guillemot أن استثمارهم المبكر في آنسل كان في محله، المشروع بدأ بفريق صغير لا يتجاوز عدد أفراده ستة، المشروع طموح والفريق لم يظل كما بدأ، بل انضم إليه رسامون ومحركو شخصيات إضافييون، فكان قفزة من حيث العروض السنيمائية والحياة التي تُميز عوالمه، اللعبة كادت أن تكون لعبة ثنائية الأبعاد، إلّا أن الألعاب بدأت تستفيد من قدرات الأجهزة الجديدة لتتحول الكثير منها للبعد الثالث، وقد كانت Rayman من الألعاب القليلة التي سلمت هذا التحول، ومن الألعاب القليلة التي بنت أسلوب اللعب على لعبة Mario 64 بدل التحكم التقليدي الذي شاع حينها بتحريك الشخصية بشكلٍ يشبه الآلة (يسميها آنسل بالسيارة ويُسمى أحيانًا بتحكم الدبابة).

مازلنا نتحدث عن فريق آنسل في مونتبليه وفريق Ubisoft الرئيسي في بارس، كلاهما تعاونا على المشروع الجديد، قبل أن ينتقل فريق آنسل إلى باريس أيضًا ويعيش رفقة مطوريه فيشقة واحدة، فتكونت معهم علاقة مختلفة، تلك الفترة عرفت أيضًا الانتقال من تطوير الألعاب ضمن مجموعات صغيرة إلى فرق تطوير تصل 100 مطور، وقد كان الفضل في هذه القفزة لـ Michel Guillemot الذي أسس شركة Gameloft لتطوير ألعاب الهواتف، التي كانت لفترة طويلة هي الآخرى إرثًا عائليًا تحافظ عليه عائلة Guillemot قبل أن تطالها إحدى أدرع الأخطبوط Vivendi سنة 2016.

علاقة آنسل مع الفريق الباريسي لـUbisoft لم تكن دائمًا طيبة، نزاعات أثناء التطوير، وتحدٍ متواصل لمن يُمكنه أن يكون الأفضل، إلّا أن المشروع تقدم واكتمل، وصدر ليُحقق نجاحات جيدة، ليُواصل بذلك ما بناه الجزء السابق. الأب الروحي لشخصية رايمان حصل على حقه من النجاح والشهرة أيضًا، وارتفع بكرسيه كواحدٍ من أهم الأسماء داخل الشركة التي لم تُمانع ضمه إليها، وواحد من أشهر الأسماء في الساحة بعيدًا عن الأسماء المعروفة في اليابان والولايات المتحدة، أماكنٌ تطوير الألعاب فيها ليس بالغريب.

لعبة Rayman طبعًا حصلت على جزء ثالث، إلّا أنه طُور بعيدًا عن مبتكره، الفريق المُتمرس سيأخذ خبراته ويصهرها في قالب جديد، لعبة أكثر نُضجًا، أمّا رايمان، فهو في أيدي الفريق الباريسي الآن.

الطريق نحو Beyond Good and Evil …

* صورة المقال: midilibre تصوير NICOLAS ZARROUK.

شارك هذا المقال