لطالما فكّرت أن أكرّس الأقلام و الدفاتر للكتابة عن الفيلم الخالد My Neighbor Totoro لصانعه العجوز هياو ميازاكي، و لطالما أحجمت عن الفكرة لأنني لا أريد أن أكتب حرفاً لا يُعطي هذا الفيلم العظيم حقّه من السرد و التمحيص، ففيلم جاري توتورو ليس بالفيلم الممتاز فحسب، و إنما يُمكن اعتباره على أنه حدث ثقافي تاريخي لصناعة الأفلام أو الرسوم المتحركة في اليابان، و يُمكن النظر له على أنه أحد الأفلام التي غيرت خارطة الأفلام العائلية إلى الأبد.

لا أعتقد بأن هناك فيلماً يعكس شخصية ميازاكي كما يفعل فيلم توتورو، تستطيع أن تتلمس حب و عشق ميازاكي للطبيعة الأم في كل جنبة من جنبات الفيلم، تستطيع أن ترى اعتزازه و فخره بالمجتمع الياباني القديم المتعاون، ففيلم توتورو هو رسالة من ميازاكي إلى الأجيال الصاعدة و رسالة إلى مجتمع المدينة تذكّره بالتعاون و الإخاء و التسامح، و تذكّره كيف كان المجتمع بأكمله يجزع لأي ضرر قد يصيب أحد أفراده، بالإضافة إلى التصوير الأخّاذ للطبيعة الساحرة التي يؤمن ميازاكي بقدسيتها بناء على إخلاصه الشديد لمبادىء الديانة اليابانية الأصلية “شينتو”، و التي تستلهم بدورها الكثير من البوذية. أعتقد بأن من المذهل حقاً أن تتابع توتورو و تُدرك أنك تشاهد فيلمين في فيلم واحد: فتوتورو هو الفيلم العائلي الأروع و الأكثر نموذجية، و توتورو هو فيلم عميق مذهل يخفي خلفه رسائل نقد متعددة للمجتمع الياباني الحديث، و يستمد سحره من عبق التاريخ، في آن واحد.

لم تكن عملية تمويل و إنتاج توتورو سهلة، فلم يقتنع المنتجون بأن فيلماً عائلياً بسيطاً يحكي قصة طفلتين و والدتهما المريضة سيلقى أي إقبال من الجمهور على شبّاك التذاكر الياباني، إلا أن ميازاكي أراد أن يصنع هذا الفيلم مهما كان الثمن، و كان الحل الوحيد هو الحصول على تمويل مشترك لفيلم آخر قد يحمل فرصة أكبر لتحقيق النجاح التجاري و هذا الفيلم كان Grave of the Fireflies عن رواية تحمل اسم Grave، و هذا حصل المشروع المشترك على الضوء الأخضر ليتم إنتاج الفيلمين في وقت واحد، وأما الفيلم الآخر فقد أخرجه العملاق Isao Takahata، و تم عرض الفيلمين للمرة الأولى عام 1988.

تتحدث قصة الفيلم عن الطفلتين ماي و ساتسكي، اللتان تنتقلان للعيش مع والدهما في منطقة ريفية خارج العاصمة طوكيو عام 1958 ( كما يمكن الاستدلال من رزنامة ورقية في الفيلم ). منذ اللحظة الأولى في الفيلم سيدخل المُشاهد في دوامة غرائب و عجائب الفذّ هياو ميازاكي، حين تكتشف ماي و شقيقتها ساتسكي وجود مخلوقات غامضة سوداء تقطن المنزل الخشبي الذي يدّعي الجيران كونه مسكوناً، هذه المخلوقات هي كرات السخام السوداء و التي نلاحظ أنها تحاول أن تختبىء في الأماكن المظلمة، و حين وصول العائلة لتقطن المنزل القديم المهجور تُغادر كرات السخام المنزل – حسب عادتها الطبيعية – للعثور على منزل فارغ جديد. حسناً،تعثر الطفلة الصغيرة ماي على المزيد من المخلوقات العجيبة السحرية، و تقوم بمطاردة هذه المخلوقات في الغابة المجاورة بعد ذلك مما يحذو بها للعثور على ذاك المخلوق السحري العجيب ذي الأذنين البارزتين، يبدو المخلوق ضخماً و مُسالماً و تقترب منه ماي بكل شجاعة لتلاعبه بكل براءة و تنام على معدته المنتفخة، ماي تُطلق على هذا المخلوق الضخم اسم: Totoro، و الاسم هو خطأ من ماي في لفظ كلمة Tororu و التي تعني Troll في اليابانية ( المخلوق العملاق ).

تعثر ساتسكي على ماي في الغابة، ماي لا تستطيع أن تدل عائلتها على مكان الشجرة التي كان يتواجد توتورو بجوارها، و هنا يُخبرها والدها بأن ذلك أمر طبيعي، حيث أن توتورو هو حامي الغابة، و أنه سيكشف عن نفسه فقط حين يرغب في ذلك.أعترف لكم بأن اللقاء الأول بين ماي و توتورو جعل ( الفار يلعب في عبي ) كما يُقال، شعرت بأن اللقاء لم يكن طبيعياً على الإطلاق، لم يكن ينبغي لماي أن تلتقي بروح الغابة، و توتورو لم يكن مجرّد حيوان ظريف، حتى ابتسامته الواسعة كانت تبدو مخيفة قليلاً. على أية حال، تتمكن ماي من العثور على الشجرة، إلا أن الحفرة التي تأوي توتورو غير موجودة.

My.Neighbor.Totoro.1988.720p.BluRay.X264-AMIABLE.mkv_snapshot_00.40.42_[2014.01.22_12.30.14]

انظر إلى هذه الصورة، يُقال أحياناً بأن صورة تُغني عن ألف كلمة، حيث ينحني الوالد باحترام للشجرة المقدّسة، لأن روح الغابة قد حمت ابنته ماي عندما ضلّت الطريق في الغابة، هل تشاهد هذا الإكليل المحيط بالشجرة ؟ هذا الإكليل الدائري يُعرف في اليابانية بـ Shimenawa و يُستعمل في “الشينتو” كدلالة على القدسية، حيث يتم تعليقه في المعابد و الأماكن المقدّسة. يُمكنك أن تشعر بأن العبارة التي يتفوه بها الأب هي رسالة على لسان ميازاكي نفسه إلى الشعب الياباني: الأشجار و البشر كانوا أصدقاء.

ننتقل مع الفيلم إلى مشهد آخر حين يمرّ الوقت بسرعته الخاطفة على الأختين ليعمّ الظلام و تهطل الأمطار، و هنا نُشاهد الأختين تقفان احتماء من المياه الغزيرة بما يُشبه الكوخ الخشبي الصغير، و في الحقيقة ليس كوخاً بل معبد صغير كان يُبنى كنصب تذكاري لطفل فقد حياته حتى يحمي المارة في الطريق، حيث يمكنك أن تشاهد تمثالOjizou-sama بوضوح في الخلفية.

و هذا يقودنا إلى قصة مثيرة جداً أود أن أرويها لكم، و في الواقع كان لاكتشاف هذه القصة أثر بالغ في تفجير شعبية و شهرة فيلم توتورو في اليابان، و ربطه بحادثة قديمة وحشية جداً حصلت في اليابان في نهاية خمسينات/بداية ستينات القرن الماضي و بالتحديد في الأول من مايو May ( لاحظوا الرابط بين الأسماء، ماي هي الأخت الصغرى، والأخت الأكبر ساتسكي يُرادف اسمها كلمة May بالإنجليزية! ) حين اختفت شقيقتين صغيرتين بلا أدنى أثر، و في اليوم التالي عُثر على الفتاة الصغيرة مقتولة في الغابة طعناً، في حين كانت الثانية حيّة و إن فقدت صوابها تماماً و كانت تهذي بكلمات: “قط وحشي”، “راكوون وحشي”، الفتاتين كانتا يتيمتين حيث توفّت والدتهما مريضة.

عودة إلى الفيلم يُمكنك أن تشعر بالتشابه الكبير و المُذهل بين الفيلم و بين القصة الحقيقية التي يبدو أنها تركت أثراً كبيراً على نفس ميازاكي الطفل آنذاك، استوديو جيبلي لم يؤكد أي صلة حقيقية بين الواقعة و بين Totoro إلا أن التشابه واضح بدرجة غير معقولة، فماي ضلّت الطريق في الغابة لكن الأرواح حمتها و الراكون Totoro جنّبها خطر الغابة، كما أن والدة ماي و ساتسكي في الفيلم هي أيضاً مريضة و طريحة الفراش في المشفى لا تُفارقه.

ينتقل بنا الفيلم بعد ذلك إلى جزئية أخرى، حيث تستقبل ساتسكي عوضاً عن والدها رسالة تخبر العائلة بضرورة الاتصال على المشفى الذي تتعالج فيه والدتها، ساتسكي تتصل على والدها لتخبره بما حصل، و هو بدوره يطمئنها بعد الاتصال بالمشفى أن والدتها تعاني فقط من نزلة برد لا أكثر و لا أقل، و أنها ستغيب عدة أيام أخرى قبل أن تلحق بهما في المنزل الجديد، بعد ذلك تبكي ساتسكي مُتسائلة إذا ما كانت والدتها حقاً ضحية لنزلة برد، أم أن هناك أمراً أسوأ من ذلك.

يتجلّى هنا عنصر آخر أحبه كثيراً في السرد القصصي لفيلم “جاري توتورو”، و هو النظرة التي تصبغها كل شخصية على عالم الفيلم، حيث ترى ماي الأمور وفق نظرتها البريئة، فهي لا تشعر بالخطر و لا تفهم ما يحصل حولها، يمكننا أن نقول أن ماي هي الشخصية الأكثر نقاءً في الفيلم، بينما ساتسكي تحمل معها براءة الطفولة الممزوجة بحس أكبر من الوعي و الإدراك، ساتسكي تشعر بالخطر و إن كانت تجهل أسبابه. يُمكننا أن نقوم بإسقاط ذلك على أخبار الأم، فساتسكي تشعر بأن والدتها مهددة بالموت، فيما تظنّ ماي ببرائتها أن كوز الذرة الطازج الذي تحمله بيدها كفيل ليجعل والدتها تتعافى، و هكذا تنطلق ماي الصغيرة في رحلة طويلة سيراً على الأقدام لتجلب الذرة الطازجة إلى والدتها الحبيبة.

تكتشف ساتسكي و المربّية اختفاء ماي التي تضلّ الطريق، و تبحث عنها في كل مكان بلا جدوى، و يخرج أقل القرية بأكملهم باحثين عن ماي، و هذه رسالة أخرى من ميازاكي إلى المجتمع الياباني، يذكرهم بالمحبة و التعاون و الإخاء، حين كان كل فرد مستقلّ يحظى بأهمية و مكانة كبيرة في المجتمع، أما اليوم فأمست الأحوال الاجتماعية مختلفة بشكل كبير و اختفى الودّ و الوئام بين الناس.

يُمكنك أن تُشاهد ماي هنا و هي جالسة على حافة الطريق الموحش، حائرة لا تعريف طريقاً، و بإمكانك أن تلاحظ تماثيل Ojizou-sama خَلفَها، إنها رسالة ميازاكي المشاهدين: لا تقلقوا، ماي بأمان، فإن Ojizou-sama يُراقبها و يَحمِيها.

ببراعة، يستمر الفيلم مع الرحلة الأخيرة للأختين على ظهر الكائن الغريب القط الحافلة ( Bake Neko ). إذ يؤمن اليابانيون بأن القطط تمتلك قوى سحرية تجعلها قادرة على تغيير هيئتها إذا ما تقدمت في السن، و هذا ما يفسّر وجود هذا المخلوق العجيب، الذي يحمل الأختين إلى المستشفى أخيراً للاطمئنان على والدتهما التي تبدو بصحّة جيدة، و تنتهي الرحلة بالفراق بينهما و بين المخلوقات السحرية توتورو و القط الحافلة، يقول ميازاكي بأن الأختين لن يلتقيا بتوتورو مرة أخرى، لأنهما لن يستطيعا العودة إلى عالم البشر و الأحياء لو حصل ذلك.

عندما صدر هذا الفيلم للمرة الأولى حمل معه Tagline يحمل معنى ثقيلاً جداً: We brought what you left behind، “لقد أعدنا لكم ما تركتموه خلفكم”. ميازاكي لم يقصد بتاتاً عودة ذكريات الطفولة فالفيلم أعمق من ذلك بكثير، ميازاكي أعاد تراث و أصالة الشعب الياباني و أخلاقيات المجتمع القديم، لقد رسم إليهم بريشة الفنان لوحة عكست ماضيهم و انتقدَت حاضِرَهم، “جاري توتورو” هو فيلم كلاسيكي لن يتكرر أبداً، و مقطوعة Path of the Wind من المايسترو جو هيساشي ستبقى عالقة في الأذهان طويلاً.

شارك هذا المقال