لا زلت أذكر جيداً الكثير من المقابلات التي أجراها المخرج العجوز هياو ميازاكي و التي أدمنت على قرائتها مسحوراً بعوالم هذا المخرج العظيم، هذا الرجل الذي لم يتوقف يوماً عن إبهار العالم بأفكاره العجائبية و طريقته المتفردة في إخراج أفلام الرسوم المتحركة. ربما لأن مقابلاته تحتوي على ملحوظات تستثير اهتمام القارىء على الدوام، و لعل أكثرها طرافة هو إقراره بندمه على أنه لم يقم بممارسة الرسم أكثر في صباه، لأنه لم يصل إلى مستوى رسامي القرن التاسع عشر!

لا عجب أن أكون و غيري مولعين بأعمال هذا المخرج الكبير الذي يضعه اليابانيون في مصاف أستاذهم الأكبر “أكيرا كوراساوا” ( مخرج Seven Samurai )، فإذا كان كوراساوا ملك الواقعية و الدراما الإنسانية و التاريخية العظيمة، فإن هياو ميازاكي ملك الخيال و الأسحار و المغامرات الخالدة، و لن أقول عنه “ديزني الشرق” لأن ميازاكي هو ميازاكي، مدرسة مستقلة بذاتها و أكبر من الارتباط بذات أخرى!

لا أعرف كيف أصف شعوري حينما سمعت الأخبار – المتوقعة – حول اعتزال ملك الخيال و العذوبة بعد فيلمه الأخير Kaze Tachinu الذي ننتظر نسخة البلو-راي منه على أحر من الجمر، لقد نزل الرجل المكافح أخيراً عن عتبة المسرح بعد أن ترك إرثاً خالداً سيثقل كاهل من يخلفه في استوديو جيبلي لأنه إرث تنوء بحمله الجبال، بعد مسيرة حافلة استمرت لأكثر من 50 عاماً كمخرج للأنميشن و 30 عاماً في استوديو الروائع جيبلي، أعتقد بأن أنباء ارتجال ميازاكي هي ضربة فادحة لصناعة الأنمي الياباني لا سيما على الصعيد العالمي، و قد تكون أقسى ضربة تلقتها هذه الصناعة في تاريخها، كيف لا و ميازاكي هو واجهة الأنمي الياباني أمام السينما العالمية و حامي ألويتها الأول ؟ أعتقد بأن تنحي العجوز سيلقي بظلاله على أفلام الرسوم المتحركة اليابانية و مدى قبولها في الغرب بشكل بارز في المستقبل.

على أية حال، ما أودت أن أشارككم به حقاً في هذه السطور؛ هو الذكريات الرائعة مع أفلام هذا المخرج و الذكريات العطرة التي تركتها في أذهاننا، و قبل ذلك سألخص على هيئة نقاط؛ الخواص التي تتميز بها أفلامه و تتكرر كثيراً من عمل إلى آخر:

* الطيران : لا أعرف مخرجاً يحب الطيران مثلما يحبه هذا المخرج، إذ لا تكاد أفلامه تخلو من الطيران و الطائرات قاطبة ( الشراعية بالأخص ) … الطيران الذي حلم به الإنسان منذ فجر التاريخ و الذي يجسد الحرية المطلقة. و الطيران ليس مقتصراً على الطائرات فحسب، فهناك أيضاً مكنسة كيكي السحرية!

* الطبيعة : من العادل أن نقول بأن ميازاكي إنسان يقدس الطبيعة الأم و يحترمها بشدة، و يرى بأنها مصدر يخلق و يعزز الصفات النبيلة في بني الإنسان، في حين يهدمها العمار و البنيان، و كثيراً ما عبر ميازاكي عن كرهه للتمدن و العالم الحديث، و حنينه إلى جمال الطبيعة الأخاذ.

* الشينتو : و هي الديانة اليابانية القديمة، و التي نجد جذورها بارزة و متأصلة في أفلام ميازاكي الذي يحترم تاريخ و تقاليد بلاده العريقة، لعل أبرزها تجسيداً لمعالم الشينتو فيلم Tonari no Totoro الشهير.

* السلام : لطالما امتازت أعمال ميازاكي بالرسائل المناهضة للحروب و الدمار، و ألاحظ دائماً تركيزه الكبير على أطماع الجنس البشري و تحميله المسؤولية كاملة.

* الأنثى : تحظى الأنثى دوماً بدور البطولة البارز مع ميازاكي، و ربما يجد ميازاكي في الطبيعة الرقيقة للجنس اللطيف محركاً مثالياً لأعماله الراقية، و العمر لا يهم كثيراً فلا شك بأن قلبك معلق بشجاعة الطفلتين “ماي” و “ساتسكي”، و أنك متعاطف مع العجوز اللبقة صوفي.

هناك الكثير من اللحظات التي لا يمكن نسيانها في أعمال ميازاكي، لو أردنا حقاً أن نوفيها حقها فيجب علينا أن نكتب المجلدات. على أية حال، أعتقد بأنني أحب فيلم “توتورو” بشكل خاص من بين جميع أفلام ميازاكي، و ربما أقوم بكتابة تقرير مفصل عنه في المستقبل، لشرح الرمزيات العميقة التي احتواها على عكس ما توحي به قصة الفيلم العذبة، و لعله أكثر أفلامه التي تبرز حنينه إلى الطبيعة من أشجار و بحيرات و خضرة تسرّ الناظرين.

و بالتأكيد، هناك اللوحة الفنية الخالدة Castle in the Sky ( أو قلعة في السماء ) هذا الفيلم الذي يحمل روح “عدنان و لينا” ( أحد مسلسلات المخرج ) كما لا يفعل فيلم آخر من أفلامه، أعتقد بأن المشاهد الأخيرة ستعلق في أذهان من شاهدها مدى الحياة، لحظة الوصول إلى القلعة السماوية ذات القبة المقلوبة و الأسوار البيضاء شاهقة الارتفاع؛ حيث تم تصوير و تجسيد التصميم الداخلي للقلعة بمخيلة لم يَجُد بمثلها عالم الرسوم المتحركة حتى يومنا هذا، كما رسمت اللغة الصامتة للروبوتات – الوطنيون الأصليون – سيمفونية درامية ليس لها مثيل، حينما ترى آثار الطبيعة و التعايش السلمي بينها و بين الروبوتات، و أطماع الإنسان الذي أراد مجدداً أن يجلب الدمار للعالم، فكان قلبه أشد قسوة من الجماد.

و بالتأكيد، هناك Spirited Away، الذي يعتبره متتبعو المخرج الطبعة اليابانية من “أليس في بلاد العجائب”، و الذي تزور فيه بطلتنا شيهيرو حماماً عمومياً- ترتاده الأرواح – يقبع في ملهى مهجور. و هناك فيلم “قلعة هاول المتحركة”، الذي أعتبره أكثر فيلم من بين جميع أفلام ميازاكي حمل روح و طابع أفلام ديزني الكلاسيكية.

حسناً، يطول الحديث عن أفلام ميازاكي و يطول و يطول، لأن الحديث عن الفن و الإبداع متعة لا تنتهي، لكنني أضع قلمي جانباً ( أو أنزع أصابعي عن لوحة المفاتيح بالأصح )، و أترك لقراء TG الكرام الكلمة و التعليق بخصوص أعمال هياو ميازاكي و أروع التجارب و اللحظات المفضلة لديكم مع أعماله ! شاركونا في الردود.

شارك هذا المقال