حول فهرست الألعاب

منذ نعومة أظفاري و أنا مغرم بألعاب الفيديو الإلكترونية، لا أستطيع أن أنسى تلك الساعات التي كنت أقضيها عندما أعود من المدرسة حيث أضع حقيبتي جانبا و أنهمك في تصفح أخبار الألعاب و مراجعاتها على أرجاء الشبكة العنكبوتية قبل حتى أن أتناول وجبة الغداء، لطالما كنت شغوفا بهذه الهواية التي أوجدت لي آفاقاً من العوالم الساحرة التي لم أعرف إليها سبيلا آخر .. فلا الأفلام الهوليوودية و لا المسلسلات السورية أو المصرية ( قبل عهود الأتراك و المكسيكيين ) خلبت لبّي كما فعلت ألعاب الفيديو .. و انقضت الأعوام و السنون و تحول الطفل الصغير المسحور .. إلى شخص يكرّس وقته للكتابة في هذا المجال عبر موقعه و موقعكم الأثير تروجيمنج.

و من هنا ولدت فكرة تقديم سلسلة من المقالات الخاصة بشكل دوري، مقالات تتناول مواضيع مفرّقة و مبعثرة لا يلمّ شتاتها سوى فهرست الألعاب، ووقع الاختيار على فهرست الألعاب – كاسم لهذا البرنامج – من قبل زميلي العزيز في المنتديات “إيهاب قريبة” .. حيث عقدنا العزم سويّة على اختيار اسم عربيّ فصيح، يناسب هويّة الموقع و اللغة التي ولد بها، هذه سلسلة من المواضيع التي لا نريد أن تذوي بها الذاكرة فتفقدنا و نفقدها، و لأننا نعتنق المبادىء القديمة في التثبيت و لا نتخلى عن القلم و الورق، أو شاشة الحاسب و لوحة المفاتيح .. فتم الاختيار بأن تكون هذه المادة كتابية بحتة، عوضاً عن المواد المسموعة و المرئية .. والله وليّ التوفيق.

حسين الموسى

فنّية الألعاب

“هل اﻷلعاب فن أما لا ؟” لطالما شغلني هذا السؤال، و تذبذبت في إجابتي عليه بين مؤيد لكون الألعاب فن، و بين رفض لذلك، و منبع هذا التذبذب هو التناقض بين الطاقة الفنية الكامنة في الألعاب، و بين المستوى الفني للألعاب الصادرة من بداية عهد الصناعة إلى الآن، فلا أحد ينكر أن الألعاب تحمل في طياتها قدرة رهيبة على احتواء الفنون السبعة و تزيد عليها فوق ذلك أشياء ما كان لأي فن أن يقدر عليها، ففي لعبة واحدة يمكنك أن تجد الموسيقى، و الشعر، و النصوص الأدبية، و القصص المصورة (الكوميكس)، و المقاطع السينمائية، واللوحات الراقصة، هذا غير المنحوتات و الرسومات و التصاميم المعمارية المختلفة، كل هذا يتم مزجه في الألعاب بطريقة سهلة جدا و بدون أي تكلف، مما يعطي المصمم أريحية في التعبير عن أفكاره أكثر حتى من الأريحية التي يتمتع بها مخرجو الأفلام (الذين يعتبرون فنهم أرقى الفنون). فعلى سبيل المثال يمكن لمصممي الألعاب تضمين ألعابهم نصوصا طويلة بينما يعجز المخرجون السينمائيون عن ذلك، و هذه نقطة بالذات إضافة لعمر الألعاب الطويل نسبيا أظن أنها من المفترض أن تجعل الألعاب بيئة مناسبة لاقتباس الروايات الملحمية عوضا عن الأفلام التي تختزل الكثير من أحداثها. و لا تكتفي الألعاب بهذا بل تذهب إلى أبعد من ذلك، تذهب لتزود الفنانين -مصممي الألعاب- بأكثر من منحهم حرية توظيف الفنون السبعة في خدمة ما يودون قوله، بل تمنحهم أكبر قدر من الحرية في إشراك المتلقي لأعمالهم الفنية -اللاعب- في صياغته عن طريق أسلوب اللعب و حرية التحرك و تحديد المصير و تغيير مسار القصة.

رغم ذلك الكلام المثالي عن فنية الألعاب و الذي لا ينكره إلا فاقد للروح الإبداعية نجد أن واقع الألعاب مغاير لذلك، و أن السمة السائدة في صناعة الألعاب هي اللا فنية، فالعمل الفني -من وجهة نظر شريحة كبيرة من متذوقيه- ينبغي أن يحقق مقولة المتصوف ابن عربي القائلة : “كل فن لا يفيد علما لا يعول عليه”، و معنى كلمة “علما” هنا لا يقتصر على المعنى الحرفي للكلمة المتمثل بتزويد الناس بالمعلومات العلمية و الثقافية المختلفة، بل يمتد إلى أكثر من ذلك إلى معانى أخرى خفية، تتلخص في توجيه أعين الناس إلى قضايا حياتية مختلفة -سواء كانت دينية أو سياسية أو أخلاقية أو اقتصادية- قد يغفلون عنها .

هذا هو أحد تعريفات الفن و الذي ما أن نطبقه على عالم الألعاب حتى ندرك أن الغالبية الساحقة من الألعاب ليست فنا فعليا، و هذا ما رسخ في وجدان المجتمع و حتى اللاعبين أنفسهم بأن الألعاب وسيلة للتسلية و الترفيه ليس أكثر، و أن الألعاب لا تصلح لأكثر من ذلك فعليا، و ربما يكون هذا مرد الاعتقاد المتربع في العقل اللاواعي لغالبية أفراد المجتمع بأن الألعاب للأطفال، بل حتى في عقول اللاعبين أنفسهم، فكثير منهم يؤمن في قرارة نفسه بأنه سيأتي يوم و يترك عالم الألعاب لأنه أصبح كبيرا -عمريا- عليه !

فالغالبية العظمى من الألعاب لا تقدم من خلال الساعات الطوال التي نقضيها معها، و من خلال قصصها أي شيء يمكن احتسابه على الفن أو الثقافة، مما يجعلها أحيانا أشبه إهدارا للوقت فيما لا ينفع، فمثلا كم لعبة حرب موجودة في السوق ؟ الكثير أليس كذلك ؟! لكن كم لعبة حرب لم تصور الحرب من منظور الربح و الخسارة بل صورتها من منظور القبح و الدمار و الموت -من منظور إنساني- ؟ الجواب تقريبا لا شيء يذكر ! فلماذا هذا هو حال صناعة الألعاب ؟ لماذا لا تستحق غالبية الألعاب الوصف “عمل فني” ؟ و لماذا تعجز الألعاب عن جذب عشاق الفن و الجمال من فنانين و مثقفين إلى عوالمها رغم الطاقة الفنية الكامنة في داخلها ؟

أعتقد أن الجواب يتلخص في سببين رئيسيين , الأول : انعدام الخبرة الإنسانية في مجال صناعة الألعاب، فأي فن يمر بمراحل عدة قبل أن يصل لمرحلة النضوج، فالسينما مثلا في بداياتها أوائل القرن العشرين مختلفة تماما عن السينما الآن سواء على الصعيد التقني أو على صعيد المواضيع، و الأهم على صعيد طرق التعبير عن مكنونات صدر الفنان، فشتان ما بين فيلم A Trip to the Moon البدائي الصادر سنة 1902 و فيلم Hugo الصادر العام الماضي، رغم أن الفيلم الأخير يتحدث بشكل غير مباشر عن الفيلم الأول.

و نفس الأمر ينطبق أيضا على فن القصة كذلك، فالقصص التي كان يتناقلها الإنسان البدائي في العصور الغابرة مختلفة شكلا و مضمونا عن روايات زماننا هذا , فشتان ما بين قصص الأميرات الجميلات و الفرسان الشجعان والحطابين الفقراء و الغيلان الشريرة و بين روايات ديستوفسكي و فيكتور هيوجو و عبد الرحمن منيف و غسان كنفاني، و هكذا بقية الفنون، و فن ألعاب الفيديو لن يكون حالة شاذة، فصناعة الألعاب ما زالت تخطو خطواتها الأولى في الحضارة الإنسانية، و تحتاج للكثير من الوقت حتى تصل مرحلة النضج .

أما السبب الثاني فهو : قلة عدد المصممين الذي يمكن وصفهم بالفنانين المبدعين، فقلة قليلة جدا من المصممين يملك في داخله حسا فنيا حقيقيا، و قلة منهم من يملك الثقافة التي تؤهله لأن يكون فنانا و مبدعا، و قلة منهم من يدرك حقيقة الطاقة الفنية المهولة الكامنة في الألعاب، و التي تحتاج إلى غواص محترف يستطيع استخراج الدر الكامن في أحشائها , فغالبية مصممي الألعاب ينظرون إليها على أنها وسيلة للترفيه و التسلية و الإثارة ليس أكثر، لا يختلفون في ذلك عن مخرجي أفلام الأكشن الهابطة في الثمانينات و التسعينات من القرن الماضي -أفلام Sylvester Stallone و Arnold Schwarzenegger و Van Damme و غيرهم- الذين لا تقدم أفلامهم سوى إثارة رخيصة مكررة، أو كتاب روايات “عبير” الرومانسية التي لا تقدم إلا شحنا كاذبا للعواطف و صورة مضخمة وهمية للحب.

و حتى من يدرك من مصممي الألعاب حقيقة طاقتها الفنية الكامنة لا يشفع له ذلك في كثير من الأحيان أن يتحفنا بعمل فني، فالكثير من المصممين لا يستطيع التعامل مع كل هذه الخيارات اللامحدودة في مجال تصميم الألعاب، فالألعاب تضع بين يدي المصمم سبعة فنون بجلالة قدرها، و فوق هذا كله إضافة عناصر أخرى هي من سمات الخاصة بالألعاب التي لا تجدها في الفنون الأخرى. و مع غياب الخبرة الإنسانية في التعامل مع هذه الطاقة الهائلة الكامنة في الألعاب تصبح الحاجة ملحة للإبداع , لإيجاد الخلطات المختلفة و المقادير المدروسة بعناية للفنون السبعة و طريقة اللعب , ليظهر لنا في النهاية ما يعرف بالألعاب الفنية.

أحب أن أقول أن صناعة الألعاب لم تعدم هؤلاء المصممين المبدعين الفنانين الحقيقيين، و لم تعدم الألعاب الفنية، فهنالك قائمة من الأعمال الفنية هنا و هناك في عالم الصناعة و إن كان معظمها لم يصل للشكل المثالي الذي ينبغي أن تكون عليه، لكنها تشكل اللُبنة الأساسية و الخطوة الأولى في الطريق نحو الألعاب الفنية، و ستمثل تراكم من التجارب سينهل منه في المستقبل القريب الجيل الجديد من مصممي الألعاب أو بالأحرى الجيل الجديد من الفنانين. و من هؤلاء المصممين الفنانين المصمم Hideo Kojima و سلسلته الرائعة Metal Gear Solid، و المصمم Ken Levine و تحفتاه System Shock 2 و Bioshock الأولى، و المصممة Amy Hennig و سلسلتاها Legacy of Kain و Uncharted، و المصمم David Cage و تحفه الثلاث Omikron: The Nomad Soul و Indigo Prophecy و Heavy Rain، و المصمم Sam Lake و سلسلتاه Max Payne و Alan Wake، و المصمم Michel Ancel و رائعته Beyond Good & Evil، و المصمم Kan Gao و تحفته To the Moon، و المصمم Tim Schafer و تحفته Grim Fandango ، و المصمم Chris Avellone و تحفتاه Fallout 2 و Planescape: Torment، و الكاتبة Jane Jensen و تحفتها Gabriel Knight: Sins of the Fathers , هذا ناهيك عن أجزاء Silent Hill الأربع الأولى، و أعمال فريق Telltale الواقف خلف حلقات The Walking Dead الإبداعية، بالإضافة للّوحة الفنية Journey، و رائعتي فاميتو يودا ظل العمالقة و آيكو، و عدد لا يستهان به من ألعاب تمثيل الأدوار اليابانية و الغربية، و ألعاب الفيجوال نوفل، و ألعاب أشر و إضغط، و ألعاب الإندي، و هذه الأخيرة بالذات أعتقد أنها ستكون الميدان الفعلي لأكثر المحاولات جرأة و إبداعا في التوجه نحو فنية الألعاب، و للحديث بقية إن شاء الله .

المقال بقلم إيهاب قريبة

شارك هذا المقال