Avicenna
φιλόσοφος
وبعدُ: سبق وان تكلمنا في موضوع العباقرة عن تمحور فكرة البحث، ونتائج الخبرة التاريخية في توضيح شخصيات القادة والمفكرين على مر العصور. سبق وذكرنا أن للتاريخ أبواب، وفيه يُقتاد المفكر لوضع نتيجة قبل دراسة التباين; التاريخ هو كقصيدة انشدها صاحبها ليلون ظلمات واقعه أو مسرحية كتبت بعد تأديتها حتى تغير دور البطولة نسبة لمن فك أغلاله وتحرر من النص. لكن، لعل التاريخ أكبر من مجرد قصص ملحمية لأباطرة بابل، أو خيالات موثقة لأعمال دافنشي. التاريخ هو منظور أعمق بكثير من البشر أنفسهم! ففي النهاية، الكاتب هو الأمة التي أعلنت انتصارها. تلك الأمم عاشت لتروي قصص أبطالها وتناجي أبنائها حتى يكونوا أهراما لكتب التاريخ ونجوماً تلمع لمن يأتي بعدهم.
هنا تأتي فكرة موضوع "ميزان الأمم". حيث نقوم بالبحث في سجل بعض الحضارات ونناقش قيامها ومراحل تطورها! لن اجعل من الموضوع أساسا كما فعلت مع موضوع العباقرة، كون الطريقة البحثية السريعة المستخدمة لن تفي بالغرض عند دراستنا للشعوب. لذلك من الأفضل أن نبني محور الكلام تحت ظل "ميزان الأمم" حيث يكون لكل موضوع دولة، حضارة، أو أمة نبحث فيها ونتكلم في أمرها. وحتى نكون على نفس الموقف البحثي في هذا الموضوع وغيره من شؤون التاريخ، لعلي أضع بعض المحاور الأساسية في البحث لو أحب أحد كتابة بحث تاريخي والمشاركة في مشروع "ميزان الأمم":
*ملاحظة: انتقل للقسم التالي من الموضوع لو لم تكن مهتماً بالجانب التقني المستخدم في الكتابة..
-البحث في الثقافات والأمم لم ولن يكون تحت إطار حرية التعبير. هذا يعني بتجنب الراي في كتابة التاريخ (لكن لا يعني عدم وضع استنتاج). هذه النقطة مهمة لكن مزعجة للكثير من كتاب التاريخ كون الراي والاستنتاج وجهان لنفس العملة. لكن الفارق يتضح عند المقارنة الصريحة:
مثال عن الراي: بريطانيا قررت عدم التدخل في شؤون الفرنسيين أثناء الثورة (ظاهرياً على الأقل). من المؤكد أن لعرش القارة العجوز تأثير على المحور الفرنسي في تلك الفترة!
مثال لجملة استنتاجية: بريطانيا أخذت جانب الحياد عن اندلاع الثورة الفرنسية. لكن هذا لا ينفي تأثير بعض مفكريها وسياسييها على المنطقة (من أمثال توماس بين وغيرهم) كون الفكر الثوري انتقل على لسان هؤلاء المفكرين بحكم الهيمنة الثقافية التي نالتها بريطانيا.
*ارتكب خطأ الراي عند كتابة التاريخ، والأمر ذاته عند كبار المؤرخين فلن الومك لو قررت عدم الإقرار بهذه النقطة، لكن أعطيك الأساس المثالي والنظري للتدوين على الأقل.
-تجنب ذاتك وكن موضوعياً. حيث انه ما من داع لتذكرنا أنك جمهوري وتحب ترامب عند الكلام عن نظام الحكم الأمريكي على سبيل المثال.
-خذ كل ما كتب في التاريخ على انه كذبة ودع تلك تكن نقطة البداية لبحثك! هنا تسهل على نفسك التدقيق واستخراج المعلومات المهمة بدل التركيز على مقال واحد أو كتاب صغير لمؤلف وضع أحدهم بجانب اسمه لقب "دكتور" -امزح، كل الحب لل PhDs (&) -
-لو اخترت بين الكتاب أو Wikipedia فأرجوك أن تختار الكتاب! أنا من مشجعيWikipedia لكن الكتب يمر عليها مدققين تاريخيين وثقلها كبير لو كان المؤلف موثوقاً به. على العموم، انبش حتى تأتي بوثيقة تصلح لتصنيف قولك ووضع حجة لصحته.
-لا تتجنب كتب الحقائق ولا تكن ممن آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعضه! من السهل أن تكتب عن الأخطاء التي ارتكبتها دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية وتنهي الموضوع على أنها مجرد دولة بنيت بأيدي العبيد وعلى دماء السكان الأصليين. لكن هنا تكون أخذت الشين وتركت الحسن في امر الأمة وهذا نوع من أنوع التزوير في كتب التاريخ..
-استمتع! البحث التاريخي يأخذ بعض الوقت ويؤدي الى حالة من الملل خصوصاً لو نظرت اليه على انه واجب لتبرير فكرك أو وضع قصة جميلة أحببتها. خذ التاريخ على انه قضية تحقيق يغطيها الشك وتبعد فيها الحقيقة. كن مرسالاً لجمال البحث وقيمة الأمانة في وضع النتيجة ولا تجعل التاريخ مرضاة لفكرك وتقبلاً لما تعلمته من غيرك. هنا تكون باحثاً ومحققاً، لا سارداً وناقلاً. هذا ولعل التاريخ علم من العلوم وفكر من الافكار لذا قد يكون من السليم ان ناخذ بعض القواعد الكلامية التي وضعناها في موضوع اسس العلم ونطبقها في دراسة التاريخ.
*وبهذا نكون انتهينا من بداية الكلام والفكرة من وراء موضوع "ميزان الأمم". دعونا نأتي أول أمة من تلك الأمم وأول حضارة وقصة نبحث في امرها!
-----------------------------------------------------------------------------------------
لن أخفي عليك عزيزي القارئ، الصين هي أصل فكرة إنشاء هذا الموضوع من الأساس. حيث انتابني الفضول حول قصة التنين الشرق أسيوي ذاك وكيف وصلت به الأيام ليكون اقوى اقتصاد عالمي ومدعاة لخوف كبار الدول في العالم. قررت الابتداء من نقطة الصفر، حيث يصلنا التاريخ ببداية نشوء القبائل والممالك الصينية. لكن كل ما وجدت هناك هو أفكار روحانية بدائية (Shamanism) وبداية صراعات طوائف سياسية ودينية وفلسفية في المنطقة. ومع أنك لن ترى أهمية عظيمة في أصول ذلك التاريخ، إلا انه كان الأساس لتكوين الفكر الحالي والثقافة النافذة في "اقوى" اقتصاد على وجه الأرض!
لذلك دعنا نبدأ الكلام عن الصين خلال مرحلة ما قبل الصراعات الملكية (وهي أقرب شيء لبداية تاريخ الصين كون مرحلة بناء القبائل لم تدون بشكل واضح ومتكامل).
بداية التاريخ المدون لبلاد الصين هي بالقرن الواحد والعشرين قبل الميلاد (معلش, نتجاوز الإمبراطور الأصفر والرز الأحمر وفترة قوس المطر تلك). خلال تلك الفترة، تربعت سلالة شيا على الحكم ودون في التاريخ أن المؤسس لتلك العائلة هو يو الأكبر. هذه الفترة ليست مميزة في تاريخ الصين، لكن خذها كمرحة نهائية للعصر الحجري الحديث وبداية الفترة الوسطى في المنطقة. كان الفيضان العظيم للنهر الأصفر وفساد الأراضي الزراعية اهم المشاكل الحاصلة آن ذاك، واستطاعت الأسرة الحاكمة أحكام قبضتها على الإنتاج والمحاصيل بعد توحيد القبائل ووضع الحلول لحماية المزارع وإنهاء الفيضان. هذه العائلة مشكك في أمرها عند بعض المؤرخين لقلة الدلائل المكتوبة في الموضوع، لكن ذكرتها بما أن وثائق "المؤرخ العظيم" ترى أصلا في وجودها (هذه الوثائق هي بمثابة كتب ابن خلدون لأوروبا أيام العصور المظلمة).
كحالها من الممالك، وصلت شيا لمرحلة من مراحل الفساد واستُبدلت بعن ان أطاحت عائلة شانغ (بقيادة.. شانغ) بآخر حكام أسرة شيا وهو الملك التعيس جي. ولاية شانغ كانت ممتازة اقتصادياً، كان التركيز فيها على الزراعة كغيرها من دويلات السهول والمرتفعات الخصبة تلك الأيام. لكن برع سكانها بالأعمال اليدوية كصناعة البرونز.. كما ازدهرت تجارة الأسماك المحلية لكثرة الصيد بالنهر الأصفر والمياه العذبة بشكل عام.
التطور العلمي في تلك المرحلة كان بسيطاً نسبياً ومتمركزاً على أسس التنجيم وما الى ذلك (توقعي أن تلاحظ تمسك الصينيين بفكرة التنجيم لو درست تاريخهم بعمق). بعض ما يميز هذه الفترة هي التقدم الاقتصادي من ناحية تبادل السلع وطرق المعاملة المالية. الأساليب المتبعة في التبادل وكمية التطور الحاصل ينافس بلاد ما بين النهرين ومصر بكل سهد ويسر.
خلال هذه الفترة من التاريخ، بدأت تيارات الممالك بالظهور وجاءت سلالة الزو لتزيد الطين بلة. هذه الأسرة جاءت كالمعتاد، تدعي أن نظام الحكم فاسد وانه تم اختيارها من قبل السماوات حتى تحكم الأرض.
كان الصينيون مؤمنين بفكرة أن قيمة العائلة الملكية تمد بأصل الديانة، والديانة هي مجرد الأيمان بالقدرة السماوية لأرواح الموتى. فلو قلت إن جدك لويس الرابع عشر، فممكن تستعيد الحكم في فرنسا من أسرة تدعي أن جدها رجل مات قبل بضع عقود. كلما قدم الجد كلما عز شأنه. هذا والبعض كان يصنع الأصنام والتماثيل وما إلا ذلك مع انهم لا يؤمنون بقدرة التمثال ذاته. لكن هو مجرد مسكن لأرواح الموتى حين ينزلون على الأرض الخ..
لو أحببت التعمق في هذا الموضوع فأنصح بمحاضرات الدكتور جون لاجروي على كورسيرا (أو اصنع لنفسك جميلاً لن تنساه وخذ كتابه عن تاريخ الديانات الصين)..
خلال الفترات الأولى من تاريخ الصين، كانت الديانة المعتنقة من الأغلبية هي الكونفشيوسية وبعدها تأتي البوذية لتؤثر بشكل جذري على طريقة الحكم السياسية والاقتصادية. كذلك مرت ديانات اسيوية ثانية على الصين بالإضافة الى كل الديانات الابراهيمية، ولكن لم تسنح لها الفرصة حتى تشيع في الأراضي الرئيسية للدولة ولذلك لم يملك أصحابها أي سلطة او جاه استطاعوا عن طريقه نشر تلك الديانة واخراج الدولة من دياناتها القديمة وتقاليدها المترسخة.
____________
----------
----------
هنا تدخل الصين فترة تاريخية مهمة. سماها المؤرخون بفترة الممالك المتحاربة. الفترة هذه ابعد البعد عن التقدم، هي كلها صراعات داخلية، مؤامرات، مشاكل اجتماعية.. الاسم وحده يكفي حتى تفهم أن الفترة هذه عبارة عن مشاكل سياسية بعيدة عن سياق الموضوع الاقتصادي. لكن، الأهمية في هذه الفترة هي بكمية المعلومات المؤرخة عن طرق النظام الحاكم وكيفية تفكير الشعب الصيني آن ذاك. الشعب على العموم لم يكن مثقفاً والديانة كانت تحتكرها الولاية (الملك يحكم باسم الآلهة) والوسيط الروحي. الشعب الصيني ما همه غير النظام المستعبِد ذاك، ماشياً خلف ظله في وقت كانت الثورة فيه أسهل طريق لتغيير الحكم. الشعب الصيني ذاك الوقت كان بسيطاً للغاية وأذهان الناس كانت مليئة بالترهات حتى انهم كانوا يعانون عند المرض لكثرة الأخطاء الطبية لديهم. مع كل ذلك، وجد الصينيون طرقاً لمقاومة العبودية تلك. طوروا نظام الأعشاب الطبية وتركوا الصلاة للنجوم والسماوات. وضعوا الأدب من حكم وقصائد وروايات علماً أن الكتابة كانت محصورة على الطبقة الرفيعة من العائلات الملكية. هذا وتبنى الشعب الصيني النظام "البوذي" العام الذي حررهم من الحكم القسري وفكرة عبادة أرواح الأقارب والموتى.. هذا كله بصورة تاريخية عامة، نتجاهل فيها أن الأغلب كان يمشي وراء الجهل مع ظهور التفكير المطلق في بلاد الشرق تلك حالها حال غيرها من الأمم…----------
----------
لعلك تتساءل عن كيفية قيام وتطور المنطقة بهذه السرعة النسبية؟ الجواب ببساطة هو لنفس سبب قيام بلاد ما بين النهرين ومصر! حيث إن التربة الخصبة مثلت سبباً للاستقرار وبداية مرحلة "التمدن". هذا والنهر الأصفر كان بمثابة شريان الحياة الذي يجري على طول المنطقة الشمالية والوسطى آن ذاك. هي ببساطة، ارض مؤهلة لتطور الحضارة; ومع ذلك تأتي الصراعات والمشاكل حول القوة والملكية.
بعد سيطرة سلالة الزو على شمال الصين، تبدأ الصورة التاريخية للمنطقة بالظهور ويبدأ الحبر الذي غطاها بالزوال!
الظاهر من تلك الفترة أن الصين كانت الدولة التي قادت تطور العصر البرونزي وسيادته بعد المرحلة البدائية التي مرت بها جميع الحضارات العظيمة في تلك الفترة. وقد لا أكون أبالغ لو قلت لك بان الصين هي من وضع الأساس للعصر البرونزي. في فترة الزو, بدأ النظام الحاكم بمشاركة بعض من سيادته العامة بتعيين قادة للجيش ذوي شأن مرتفع حتى تأسس نظام الطبقات الواضح في الصين القديمة (يبدأ بالحاكم اعز الله شأنه وينتهي بالفلاح الجاهل الغافل).
كان يلي الطبقة الحاكمة ما يسمى بال “وزارات الثلاث" وهذه تمثل:
-الممتلكات (وزارة المالية)
--الأيدي العاملة
-الأحصنة (أمور الحرب والصيد)
الكثير من المفكرين والكتاب في ذلك الوقت اخذوا وضيفة التكلم باسم الملك حتى يقودوا كافة شؤون البلاد من دون تدخل مباشر من الملك. المناطق التي توزع عليها الحكم (ولايات) كانت مقسمة على القادة والأمراء، وسماها الصينيون بال "هو" (أو "خو", 侯, او Hou - Google Translate لطريقة اللفظ السليمة بشكل عام في هذا الموضوع حيث اني لست خبيراً في اللغة الصينية للأسف-). هؤلاء هم القادة، النبلاء، أو حتى الملوك الإقطاعيين، سمهم ما شئت عزيزي القارئ... المهم انهم يديرون الولايات باسم المملكة وولايتهم من السماء لانهم عباد مأمورون للملك العظيم.
مع أن فترة حكم السلالة بشكل ثابت كانت قصيرة (حوالي 12- 35 سنة) وقيمة الإمبراطورية لم تكن الأرفع عبر البلاد، إلا أن الإمبراطورة قضت 12 سنة من التطور المستمر والثورة المعرفية، رفعت فيها أصول الحضارة من علوم وفنون وحرف. وخلال هذه الفترة تم بناء بعض أفضل المخططات المدنية كأطول طريق بري في تلك الفترة وسور الصين العظيم..
ولكن ذلك التطور لم يكن بالمجان، حيث كانت الولاية متشددة جداً وأصبح نظام العمالة الداخلية أشبه بنظام العبودية الصريح. هذا غير بعض الأفكار الاقتصادية المثيرة للاهتمام مثل الضرائب المتضاعفة على العوائل المتكونة من أكثر من خمس اشخاص لأن ذلك كان عاكساً لتقاعس الأيدي العاملة. هذا الموضوع حرمته ولاية شانغ وجعلت تقتل بعض الأبناء اللذين لا يزالون يعيشون في منازل آبائهم.. ولكن بهذه المفاهيم، قامت الولاية بوضع قانون ثابت للميراث حيث يحصل كل من الأبناء على قسمة مشابهة من أموال وممتلكات الأب. مفهوم قسمة الميراث مثلت معضلة أمام تقدم النظام الأرستقراطي الذي اعتاد على استغلال الطبقة الفقيرة والسيطرة على أراضيهم، حيث ان الأراضي مقسمة لعدة أقسام والاستحواذ عليها من قبل "الإقطاعيين" في غاية الصعوبة.
هنا رجح بعض المؤرخين على أن فكرة الممالك المتحاربة لم تكن الا جانباً أساسيا من النمو الحضري في الصين حيث إنها شجعت كل أهل الصين على ممارسة ما يبرعون به وقللت من وجود "العاصمة المزدهرة ذات فرص العمل الزراعي الممتازة".
الآن قد تبدأ بالتساؤل عزيزي القارئ، كيف كانت الصين تنظم الجانب التجاري بين كل هذه المقاطعات ذات الحرف المختلفة؟
الموضوع ابتدأ، كأي حضارة, باستخدام التبادل في القيمة حيث اني أعطيك السمك واشتري ما صنعته يديك من القطع البرونزية. هذه كانت مشكلة خاصة في المناطق البعيدة عن النهر الأصفر لضعف حرفتهم وقلة الطلب مقارنة بالعرض. هنا قد تكون ذا قيمة عالية لكنك لن تستطيع إيجاد المشتري لضعف الطلب المرمي على أصل السلعة...
هذا جعل الحاجة للعملة شيئا بديهي في دولة كالصين! اول ظهور للعملة في الأسواق الصينية كان على يد القادة العسكريين والكبار في نظام الحكم. هؤلاء قاموا بنشر العملة وتشجيع العامة على استخدامها حتى كانوا يقومون بتبادل الموارد الطبيعية مع الدويلات الأخرى في ذلك الوقت.
نوع الرمح أو المغرفة، ونوع السكين… التسمية كانت مبنية على شكل العملة حيث ان الشكل يمثل وحياً من المواد المستخدمة يومياً وقيمتها استيقت كانعكاس لقيمة تلك المواد التي مثلت ارتفاع القيمة الاقتصادية للعامة في الدولة.
في هذا الوقت من الزمن كذلك، ظهرت أولى العمل في منطقة الشرق الأوسط باختلاف الأشكال والمادة المستخدمة في التصنيع.
بعدها بفترة ظهرت عملة ال CHU والتي صنعت من الذهب حتى تمثل القيمة العامة في الصين وخارجها (لعبت دوراً شبيهاً للدولار في فترة من الفترات لكن القيمة لم يتم الاتفاق عليها لعدم اتصال العالم آنذاك مثلما هو متصل هذه الأيام)..
هذا وظهرت عملة خاصة بسلالة تشين والتي استحوذت على قوة تجارية عالية في منطقة النهر الأصفر.. هذا غير هيمنتهم السياسية ونباهة حكامهم الذين أطاحوا بعدة ممالك داخلياً حتى انهوا عصر الممالك المتحاربة (العسكري) من وجهة نظر بعض المؤرخين. ظهور العملة التجارية في ارض الصين أدت لاستحداث فكرة التجارة وخروج مستوى اجتماعي جديد يسمى ب “تجار الدولة" وهم الذين رافقوا القادة وعملوا تحت أمرتهم لغرض توفير البضائع النادرة في السوق..
دعنا نتكلم مثلاً عن Fan Li الذي ترك رئاسة الوزراء في Yue عام 473 قبل الميلاد حتى يسافر ويجوب أراضي التشي ويصنع الربح من التجارة. وجد فان القيمة في خزن بعض البضائع الموسمية، حيث يشتريها في وقت الكساد ويبيع المخزون في وقت الندرة. أفكار تجارية بسيطة بدأت بالظهور حاملة معها ثورة في القطاع الخاص الذي حصل على معاملة خاصة من الحكام شرط توفير البضائع والخبرات الخارجية. هذه الثورة في التجارة، جعلت من الصين مستقطباً لتجار العصر آن ذاك حتى بغياب التواصل المستمر بين الأمم واعتمادهم على الطرق البرية والبحرية التي قد لا تمتاز الصين باي منها عندما يتعلق الأمر بالتجارة الخارجية مع الأمم الأخرى مثل مصر واليونان وبلاد ما بين النهرين..
في ذلك الوقت، ولايات الصين لاحظت أهمية الموارد الاقتصادية في السيطرة والتمكن على الولايات الأخرى والعالم اجمع. احدى رسائل Guan Zi استخدمت اللفظ "ملوك الظل" وقصد بذلك ملوك ولايات الجو والجي واليان، حيث انهم لا يدركون القيمة التي تحملها الموارد العظيمة التي يمتلكونها، ولو انهم استثمروا هذه الموارد في الاندفاع الاقتصادي لهيمنوا على باقي الأراضي. فلو قرر ملك الجي ان يجرب أهل ولايته على العمل في انتتاج الملح وبيعه للولايات المجاورة في وسط الصين لأصبحت ولايته اغنى دولة على وجه الأرض لكمية الطلب العالية للملح في وسط الصين.
إذا لم يفهم الملك قيمة الموارد الواقعة تحت يديه ففي النهاية قيمتها بقيمة رمل البحر ولا سبيل لاستخدامها لإنعاش القطاع الخاص حتى لكثرة العوائق والتمركز في القوة الاقتصادية.
كل هذا التمركز في القوة بدأ ينقلب على ظهره عند ازدهار القطاع الخاص ودعم الحكام للتجار في ذلك الوق; حيث قاموا هم بالتركيز على استخدام هذه الموارد والتجارة بها حول أراضي الصين وصولاً لباقي دويلات الأرض. هم رفعوا بذلك علم الهيمنة الاقتصادية الأول للصين. والحكومة اتبعت منهجا عبقرياً للتعامل مع الثروات العظيمة التي جاء بها القطاع الخاص ممتثلين بذلك لنصائح الحكيم Guan Zi والذي حذر من التدخل المباشر للحكومة في القطاع الخاص ونصح باستخدام الضرائب بدل ذلك (ثلاثون بالمئة تقريباً بالنسبة للمنجم الواحد على سبيل المثال).
لم تتوقف الولايات عند الاستخدام المشروع للتدخل الحكومي باستخدام الضرائب، بل قررت استخدام موقعها السيادي حتى تضع القوانين والمبادئ التي بني عليها القطاع الاقتصادي. كل هذا لم يمنع القطاع الخاص من الازدهار لانعدام البدائل في ذلك الوقت. هو استغلال الحكومة لك كعبد أو ترك الزراعة ولديك احتمالية ان تكون رجلاً غنياً وأنت من تختار!
بعد فترة منعت الصين تجارة الموارد المستخدمة من قبل الجيش مثل الجلود والأسهم والحديد حيث ان كمية الموارد الطبيعية بدأت تقل في بعض النواحي ولم يرغب الحكام في التوسع الطبيعي بغية الموارد الطبيعية تاركين أرضهم تحت رحمة الولايات المعادية.
اللقطة في هذا الحضر هو أن القطاع الخاص لاحظ وجود الحظر على تجارة الموارد هذه عبر الطرق البرية المملوكة من قبل الولاية. لكن استخراج هذه الموارد والتجارة عبر الطريق البحري لم تكن بمشكلة أبدا! بعد أن اكتشف بعض القادة هذه النقطة, قاموا باستخدام الطرق البحرية كسبيل للتخلص من الحضر التجاري ذاك وقاموا بتبليغ الملوك بذلك التطور الحاصل حتى لا يكون السوق والطريق جزئاً من السوق السوداء(وحتى يحصل القادة على بعض الاموال التي يحصدها التجار من الطريق البحري).. حصل قادة الجيش بذلك على اذن بالضغط على الطريق البحري كذلك لكنهم لم يستطيعوا السيطرة على التجار باي طريقة من الطريق ولم يريدوا أن يستخدموا العنف حتى لا يذهب التاجر الى الولايات الثانية ويخسروا القيمة في السوق الاقتصادي. هنا نشاهد أولى أشكال الفكر الراس مالي الذي قد يقف وجهاً لوجع أمام مركزية القوى في الدولة!
المنافسة قد تقود لأفضل أنواع التطور بالفعل، حيث ان بلاد ما بين النهرين لم تكن في حاجة للتجار لموقعها الجغرافي المثالي وانعدام الازدهار المماثل في الدول المجاورة فلو ترك تاجر مكانه فلن يكون ذلك المكان شاغرا لمدة تتجاوز اليوم او اليومين على اقصى حد. بينما كان على الحكومات في اقصى الشرق المنافسة على الوجه المحلي لتعدد الممالك.
هذه المنافسة التجارية أدت لظهور بعض المعونات الحكومية وتقليل الضرائب الداخلية حتى تجذب هذه الولايات والممالك التجار لمناطقها.
في هذه النقطة من التاريخ، يكون هناك الكثير من الكلام حول فكرة التمدن وخروج بعض القرى لتصبح ملكية الارض للقادة العسكريين والمباني والحصون. هذا غير التوسع الحضري الذي ظهر مع التجارة في اغلب الولايات. لكني لن أركز في هذا الجانب الان لعدم تمامه ولقلة مثل هذه التطورات الاقتصادية.. مع ذلك, كان هناك نقطة أساسية في الثورة الاقتصادية تلك، وهذا هو الاتساع الحاصل في القدرة الإنتاجية لدى الصين. وكأنهم كانوا على علم بأنهم سيصبحون مصنعاً للعالم في يوم من الأيام. كانت المدن هي الحاضنة الأساسية للإنتاج ولتحويل المواد الخام. انتشر صيت الإنتاج المتسع على طول النهر الأصفر ودعمت المنافسة بين الممالك ذلك الاتساع حتى وصل بالصين الى شتى بقاع العالم بامكانياتها الانتاجية الخارقة!
لا ندري عن كيفية حدوث ذاك التطور الانتاجي السريع ولكن يرجح بعض المؤرخين السبب لكثرة المواد الخام وحاجة الدولة لتحويلهاً باسرع وقت ممكن حتى تنافس سوق الممالك المجاورة.
يقول كتاب السيد شانغ ان لاستقرار الحاكم في زمن الممالك المتحاربة سببين; أولهما هي الزراعة وتأتي بعدها الحرب..
ان في هذه الكلام لدلالة على ان الاستقرار السياسي لم يكن مبنياً على التجارة واستخدام الثروات حتى بعد التوسع الذي شهدته الصين في ذلك القطاع! السبب وراء ذلك من وجهة نظر بعض المؤرخين هو ان التجارة كانت محصورة على التجارة بين الممالك وتبدل السلع في المنطقة التي نسيمها الصين وبعض الدويلات المجاورة. التجارة مع العالم الخارجي لم تكن ذات أساس واسع عندما يتعلق الامر بسياسات الحاكم وهذا لان التجار البحريين كانوا اشبه بالسوق السوداء التي خرجت عن سيطرة الحكام في ذلك الوقت. هذا والطريق البري لم يكن بخيار جيد لبعد الدويلات المزدهرة عن مراكز التجارة في الصين وايضاً لكثرة قطاع الطرق غير المسيطر عليهم.
لكن هذه لم تكن المشكلة من الأساس.. حيث اننا ذكرنا بان الممالك اتبعت نظاماً شبه راس مالي فيما يخص القطاع الخاص تاركتاً كل تبعياته للتجار وأصحاب الأسواق. فكر في الموضوع عزيزي القارئ! دولة مبنية على حاكم تم اختياره من قبل الاله وسيطرته دامت على رعيته لقرون, بعدها يظهر قطاع في الدولة خارج عن سيطرة ذلك الحاكم وبإرادته العاكسة لحكمة ذلك الزمان! هذا كله مثل خطرا كبيراً على الدولة حيث لو انتعش سوق التجارة اكثر وصارت الأرباح تغطي أرباح الزراعة فلعلنا نرى هجرة من نواحي المملكة الريفية الى الأسواق التي تعج بالتجار. هذا الانتقال والتمدن شيء طبيعي في أي دولة مارست التجارة وباشرت ببناء الأسواق, لكن النقلة هذه تمثل تهديداً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً على سيادته..
بعد تخلص المزارعين من النظام الاحتكاري للملك وتحررهم في الأسواق تقل الموارد الزراعية والايدي العاملة التي يسيطر عليها الملك. هذا بالإضافة الى انهيار في الدويلات التي تعيش على المحاصيل الزراعية من داخل المملكة...
بنائاً على هذا كله، اتخذ الملوك استراتيجية اقتصادية ذكية تتمحور حول الضرائب والتضييق على التجار باستخدام القوانين العامة والتي لا تأثر بهم مباشرةً لكنها تحد من نفوذهم. وبهذا نرى ردة فعل تساعد على منع التسارع في النظام الاقتصادي حتى يصل الشعب لمرحلة اتزان في الايدي العاملة ويصبح من الصعب على الفلاح ان يغير مهنته للتاجر لثبات الأسواق. هذه الترجمة الاقتصادية لم تكن في بال الحكام في ذلك الوقت حتى نكون واقعيين، وهذا لان الحاكم لا يهتم الا بثبات ملكه وملك أبنائه وليس ازدهار وتوحيد الدولة تحت نظام شبه راس مالي.
سيادة الحاكم على التجار وصلت لمرحلة لخصها Proto-Guanzi بقوله بعدمية القيمة الجوهرية للمال والسلع.. حيث يقول ان الحاكم، بسياسته المالية هو من يحدد القيمة النسبية للأشياء. يقول ايضاً بان على الحاكم ان يعطي الأموال بشكل غير مباشر حتى يساعد على تسريع عملية ازدهار البلاد (ما يعرف الان في كتب الاقتصاد بال Government Spending). ويقول غوان زي ان من صفات ازدهار البلاد ان يزداد الأغنياء ثراءً حتى يضعوا الأموال ويستخدموا الموارد للبناء والعمران علماً ان الضعيف الفقير هو من يعمل تحت أيديهم. أي بزيادة الأغنياء ثراءً، يصير لدينا فرص عمل جديدة في الدولة مما يعطي الفقراء فرصة لدخول الطبقة البرجوازية..
حتى أكون صريحاً، لم أكن أتوقع هذه الكمية من الاستنتاج والتحليل الاقتصادي في زمن الممالك المتحاربة! اغلب ما قد قيل فيه الكثير من الخلل ولن يكون صورة فعالة يعكسها الواقع، لكن هذا لا ينفي ان النظرية الاقتصادية كانت سابقة لزمانها! بالأخص في منطقة كانت مبنية على قدرة الحاكم المخول من قبل السماء على إدارة الرعية (واغلبهم فلاحين ومن الطبقة الفقيرة في تلك الأيام).
مع أنى أحب إعطاء القوة المركزية للملك فيما يخص الصين، الا انه من المهم ان تنتبه الى ان قدرة الملك أيام ال 200 قبل الميلاد لم تكن نفسها عند بداية المماليك في ارض الصين. في البداية، كان الملك اشبه بفرعون يحكم بقبضة الاله على اهل هذه الأرض وهذا كان عنصراً مُستغلاً بسبب ضعف الفكر الايماني عند اهل الصين حيث انهم كانوا يؤمنون بالأرواح وقدرة الاله المتمثلة بالملك مثلما سبق وذكرنا. اما بعد صحوة البلاد خلال حكم عائلة الهان وهذا بسبب ظهور الديانة البوذية وانتشار فكرة الثبات النفسي والاتزان الروحي الذي كان اشبه بالقوة المعاكسة لمركزية الملك الدنيوية..
لعل فترة حكم الهان هي من اهم فترات الصين من جميع النواحي تقريباً. صنعت فيها الدولة قوانين عبقرية ساعدت على تقدم الفئة الفقيرة وانفجار الطبقة الوسطى حتى تنهض بشتى أمور الدولة. من اهم هذه القوانين هو رفع الخدمة الاجبارية من عمر ال 17 الى عمر ناهز فترة ال 20 – 25 طبقاً لمكانة الرجل الاجتماعية. وفي عام 155 قبل الميلاد نرى ان الطبقة الاجتماعية الأعلى اختفت مع صلاحياتها وكان لازماً على الجميع دخول الخدمة الإلزامية بعمر ال 20 سنة. قانون ثاني كان بوضع عقوبة مالية على النساء غير المتزوجات بين سن ال 15 وال 30. هذا غير ان نظام العمل تطور ليتضمن العمل غير التطوعي حصرياً علماً ان الولايات في دولة الهان كان لها من القوة ما كان لسابقتها أيام الممالك المتحاربة. هذا جعل من عمال المناجم والورشات الإنتاجية مصادر لفرص العمل براتب شهري!
قد يقف القارء متسائلاً عن السبب الذي جعل حكم الهان يتخذ كل تلك القرارات.. هل كان النظام الملكي نظاماً عادلاً في وقتهم؟ هل قامت الدولة بتامين اساسيات العيش لسكانها؟ هل نزل بينهم نبي من الله حتى يهديهم للطريق الصحيح وللعيشة السليمة؟
الجواب على كل هذه الأسئلة هو لا! اللام والالف هنا تشكلان لا تفيد النفي..
انا لن ادخل في الجانب السياسي من ذلك التاريخ، لكن انصح المهتم بالبحث في ذلك التاريخ حيث ان فيه الكنوز من حيث القصص السياسية والاجتماعية المهمة. تذكروا ان طريقة حكم الصين كانت مشابهة لغيرها من الدويلات لكن قرارات حكامها لم تكن منطقية إذا قارنتها بغيرها من أنظمة الحكم المشابهة.
على العموم، التوسع الحاصل أيام الهان شمل التجارة بشكل مباشر وصارت فكرة ارسال البعثات السياسية والتجار لدول مجاورة شرق اسيا محببة عن ملوك الهان. ولعل اهم البعثات كانت أيام الامبراطور Wu الذي كان فتح طريق الحرير على يديه. بينما كانت فارس متصلة بأرض الاتراك وواصلة لليونان من الشمال ومارة على ارض العرب وشمال افريقيا من الجنوب; كانت الصين شبه منعزلة عن القارة الاوربية واواسط الشرق حيث ان اتصالها كان محدوداً ببعض الطرق البحرية والبرية المهجورة. كان لطريق الحرير أهمية تتعدى أي مشروع تبناه البشر. حيث ان البعض يعد طريق الحرير اول مرحلة من مراحل ال Globalization والمبنية على أساس الاتصال العالمي الحاصل في منتصف القرن الماضي.
كان لطريق الحرير جانباً اقتصادياً في كل الدول التي مر بها ولعل العرب استغلوه أكثر من الصين نفسها. حيث ان الصين كانوا متحفظين من ناحية تبادل الثقافات وقبول الهجرات وتبني اللغات. بينما أحب العرب الخروج بلغاتهم وافكارهم الى شتى بقاع الأرض. هذا غير ان في العرب تجار اليهود الذين كانوا يحلمون بفرصة للتجارة كتلك التي وفرها طريق الحرير. هنا ترى التاريخ يتوقف للحظة حتى يأخذ العرب أفكار الصين والهند ويطورونها عندهم. بينما تقف الصين تنظر الى كمية الأفكار والثقافات والأديان التي وجدتها في الغرب. مومياء ملكية على ظهر حصان، خنجر دمشقي اشتراه أحد القادة، صولجان من بلاد ما بين النهرين تناقله التجار حتى يبيعونه بأضعاف وزنه ذهباً، الخ..
هنا لن نتكلم عن تجارة الشاي، او التوابل، او الحرير وغيرها من البديهيات التي وُضعت في ذلك الزمان. خذ نفساً عميقاً وفكر في هذا المنتوج البشري للحظة..
*بعد المرور على بعض الكتب، أدركت ان طريق الحرير يحتاج لموضوعه الخاص. او قد يأتي ك DLC لهذا الموضوع في المستقبل على اقل تقدير.
دولة الصين هي حالها حال جميع الدويلات في المناطق السهلية مثل بلاد ما بين النهرين وارض مصر. كلها دويلات قادها عظيم الشأن المخول من قبل الالهة حتى يحكم الأرض ويسود فيها العدل باسمه. لا أدري ان كان سبب التطور الاقتصادي ذلك محض صدف ام طبيعة اهل الصين نفسهم.. لكن كل ما نعرفه هو ان الصين قادت العالم في جميع الانجازات الاقتصادية تقريباً!
اترك لكم التحليل او التفنيد هنا..
مع بداية التاريخ الميلادي، بدأت المدن الكبيرة بالظهور وازدادت الهجرة من المناطق الزراعية (وهذا ما ارادت الممالك المتحاربة ان توقفه، أيام الازدهار التجاري، باستخدام الضرائب). هذه الهجرة لم تأثر سلباً على اقتصاد الدولة وحاجتها كون الزرعة وصلت لمراحل متطورة لا تحتاج لكمية مهولة من الايدي العاملة. من الناحية الثانية، كان هناك طلب غير مسبوق على الاقمشة، صناعة الفخار، صناعة الجلود، وحتى تجارة الملح! الطلب هذا ساعد على قيام المدن وفتح الأسواق لتجميع كل هذه السلع التي كانت مطلوبة كذلك من قبل قادة الجيش والبلاط الملكي. كل هذا الطلب المتزايد وازديد الأرباح في المجالات التجارية والحرفية ساعد على زيادة فرص العمل في هذه القطاعات. هذا كله صنع من المدينة بنياناً مستقراً قد يقدر حتى على ان يكون قلب الاقتصاد النابض ويستبدل الزراعة كالحرفة الأساسية لأهل الصين من الطبقة الوسطى والفقيرة. وحتى نذكر الطبقة الفقيرة، ماذا تظنه قد حصل لهذه الطبقة السوشيواقتصادية؟ من المؤكد ان ازدياد فرص العمل رفع فكرة ريادة الاعمال وصار من الطبيعي ان تسمع عن قصص الفلاح الفقير الذي ذهب للمدينة بمشروع او بفكرة حتى يصبح من الأثرياء في تلك المدينة..
يقول المؤرخ Sima Qian ان ريادة الاعمال كانت في قطاعات مختلفة وواسعة النطاق مثل بيع الخمور, مخازن الأغذية والاعشاب, الجلد والحرير, الخشب, النقوش والفخار, صناعة البرونز, وحتى صناعة العربات وغيرها من طرق وأدوات للتنقل. يقول أيضا بان المستثمر او الفلاح الذي لديه عشرة الاف قطعة نقدية يحصل على اقل تقدير على عائد الفي قطعة نقدية بالسنة.. وهنا نرى ان التاجر ذو المليون قطعة يحصل على مئتي ألف قطعة بالسنة الواحدة على اقل تقدير. نرى ايضاً في هذه الحقبة بعض الرائدين في قطاع الحديد او تجارة الأسماك والملح يجنون ثروات تعادل المئة مليون قطعة.. هذه الأموال مهولة بلا شك لكنها لا تساوي شيئاً إذا مررنا على أصحاب الأراضي في الهان الشرقية والتي تقدر ثروتهم بمليارات القطع النقدية.
الأسواق المعتمدة في المدمن كانت تحت رقابة حكومية وكان المسؤولون عنها مخولين من قبل قادة الجيش وغيرهم من ذوي الشأن العالي في نظام الحكم. كان السوق يفتح ويغلق على ايدي هؤلاء المراقبين وكانوا يستخدمون الطبول اعلاناً بانتهاء فترة البيع والشراء او بدايته. كانت هناك ايضاً الأسواق السوداء والتي تدار من قبل الجماعات الخارجة عن القانون والتي كان اغلبها يملك قطاعاً اقتصادياً وتجارياً خاصاً به ولا يعني بالحكومة بشيء. مع ذلك، كان يُسمع أحياناً ان النظام الحاكم يتعامل مع التجار من بعض هذه الأسواق حتى يأتي ببضاعة اعجبت شخصاً ذو شأن عال في المملكة.
بعد رؤية الاقبال على طريق الحرير وكيفية استخدام دويلات اسيا الغربية له، قام تجار الصين بتعلم الصنعة وارسال البعثات الى شتى بقاع الأرض حتى يصلوا الى مصر وروما ليعودوا يكل ما تشتهيه الإمبراطورية من أوان ذهبية وغيرها من السجاد الفارسي والتوابل. قامت الصين بالهيمنة على سوق الحرير واتبعت ذلك بتجارة متميزة للتوابل حتى غلبت بذلك العرب والهنود لفترة من الزمن على الاقل. كما عملت الصين على تقوية العلاقات الدبلوماسية مع البلدان والالتزام بسياسة السلام التجاري. هذه كانت المرة الأولى التي تتخلى فيها الصين على فكرة حكم العالم وتفهم ان القوة هي في الهيمنة الثقافية والاقتصادية!
هذا بالطبع لا يعني ان الصين تحولت ليابان بعد الحرب العالمية الثانية وهدمت جيشها حتى تنتج الانمي.. القصة وما فيها هو انها جعلت من جيشها حصناً دفاعياً ذو إمكانية عالية على التوسع والسيطرة على الدويلات المتفرقة بعد فترة الممالك المتحاربة. هذا يعني ان دعم قادة الجيش وجميع اركانه لا زالت قوية نسبياً ولم تكن الصين تظهر أي جانب ضعيف من الناحية العسكرية.
وهنا نأتي الى نقطة مفصلية تذكرتها كتب التاريخ باسم "تمرد العمامات الصفراء".. وهنا قام بعض المتمردين بالخروج عن الامر الامبراطوري لأسباب اختلف عليها المؤرخون لكن الواضح هو انهم خرجوا ضد الظلم الحاصل في القطاعات الشمالية من الإمبراطورية حيث باشرت فرص العمل بالذهاب لمركز الإمبراطورية وكاد اغلب من عمل في الزراعة في الأقسام الشمالية يموت من الجوع وعدم توفر فرص العمل والدعم الحكومي. هم ايضاً ثاروا لغرض قومي مدعين ان موقفهم هو العامل الأساسي للتغيير الذي قد يجلب السعادة والاستقرار لسكان الإمبراطورية. هنا يتصدى قادة الجيش لهذا التمرد ويباشرون انقلابهم على الإمبراطورية بعد اسقاط العمامات الصفراء. وبهذا نرى انتقال القوى من نظام وراثي الى ايدي قادة الجيش المدللين من أيام الممالك المتحاربة! هذا يعني هدم المركزية السياسية في الدولة وقتل الامر الإمبراطوري حتى خرج النظام الحاكم والتوجه السياسي عن الفكر الديني والروحاني لأغلب سكان الصين. بعد نهاية الإمبراطورية، قام قادة الجيش بتقسيم الصين الى ثلاثة ممالك ومع ذلك التقسيم نرى سخرية القدر والتدهور الحاصل في السنين القادمة.
لعل النتيجة من هذه الفترة في غاية الوضوح، حيث ان انقسام امبراطورية الصين لثلاث ممالك تحت سلطة قادة الجيش الذين هم اعرف بحال الشعب وكيفية الدفاع عن حقوقه من دون ادخال الامر الإلهي بعد كل قانون او وثيقة. المشكلة هو ان النظام الحاكم انتقل من نظام مركزي يعني بكل أمور الشعب وطرق معيشتهم الاجتماعية والاقتصادية الى ثلاث أنظمة قد لا تتشارك نفس القوانين والمصالح. بهذا نرى مبدأ "فرق تسد" يتم استخدامه من قبل القادة العسكريين حتى يجعلوا من السيطرة على ارض الصين الواسعة عملاً اسهل قليلاً..
القيمة الاجتماعية والاقتصادية في ارض الصين كانت مبنية على وحدة البلاد تحت راية الإمبراطورية بحماية قادة الجيش، لكن كل هذا قد تغير بعد انقسام البلاد لثلاث رايات تحت إدارة نفس القادة. المشكلة الأكبر هي غياب الرقابة السماوية التي كانت تتمثل بالإمبراطور المخلوع. ومع ان اهل الصين لم يكونوا بذلك المستوى العالي من الايمان عندما يتعلق الامر بالهبة السماوية للملك، الا ان الفراغ الذي تركه تحررهم من النظام المركزي أخاف الكثير من العامة وذاع في ربوعهم الكلام على ان الدولة قد انتهت ولا مفر من عقاب الاله وغير ذلك..
انقسم النظام الاجتماعي للعامة والنبلاء (كالعادة&&) ولكن ظهرت الان طبقة الفلاحين الأغنياء لتكون نظاماً اقطاعياً خاصاً بها جعل منها عائلات نبيلة ومحترمة. هنا نرى اول اللمحات لقيام الدولة على أساس مالي يرتفع فيه ذو النفوذ المالي لطبقة اجتماعية مختلفة بشكل واضح وصريح.. في الحقيقة، التغير الاجتماعي هذا كان بمثابة موجة اكتسحت الأراضي الزراعية وقامت بإعادة توجيه اهتمام الأثرياء للزراعة وترك التجارة لبعض الوقت، ريثما تستقر البلاد وترجع الأمور لمجاريها.
نظام الضرائب الذي وضعته الهان كان في طي النسيان حيث ان الولايات الجديدة لم يعجبها ميل النظام المالي لوضع الاحمال والضرائب على الأغنياء والتجار. ولكن لعل اغرب القوانين التي سنتها الولايات الثلاث هي ان العوائل تدفع الضرائب بمنتوجها من الحبوب والملابس وليس النقود! قد تقولون لي لماذا هذا القرار الغريب يا ابن سينا؟ الجواب هو ببساطة لان العملة كانت تموت تحت تأثير التضخم الذي صنعته الهان بقوانينها غير المكترثة والترف المفاجئ الذي عم ارجاء المملكة بسبب نمو التجارة.
في الحقيقة، احدى الممالك الثلاث (Wei) انهت استخدام العملة من الأساس وأصبح الحرير الطريقة المعتمدة لتبادل القيمة بينما بقيت المملكتين الباقيتين تحت النظام المالي للنقد والذي وضعته ولاية الهان. في كلا الحالتين، قلت السيطرة الاقتصادية على عموم الشعب وصار القطاع الخاص في غاية القيمة حتى في أمور الري والزراعة.
لعل ولاية جيانغنان كانت هي العاصمة الحية لغلبة الازدهار على تلك المنطقة وهذا لان سكانها كانوا من العائلات التي تعمل في التجارة وتنظيم الأراضي الزراعية وهي العائلات التي تملك القطاع الخاص بشكل عام. ظهور المناطق المزدهرة مثل جيانغنان في الجنوب جعل المراكز الحكومية تعمل على استرجاع صك العملة بشكلها البرونزي والعمل على إعادة تشكيل الدولة، لكن وجود القطاع الخاص لن يمحي روح الثورة التي خرج بها اهل الشمال جاعلاً من تلك الممالك الشمالية حضانة للتمركز العسكري الذي يدعوا لإعادة توحيد البلاد تحت راية واحدة وباسم الشعب والقوة التي فرضها بمساعدة قادة الجيش..
صدق او لا تصدق عزيزي القارئ، نحن اقتربنا جداً من فترة البعثة النبوية والأوضاع العالمية في الوقت الحالي كانت بيد الولاية البيزنطية وصراعاتها مع الدول المجاورة نسبياً مثل فارس وجماعات الاتراك (مجرد قبائل ضعيفة في تلك الفترة).. وكما سبق وذكرنا، الصين كانت على حافة إعادة توحيد الممالك وتأسيس الإمبراطورية الشرقية والشكر كله لجهود اهل الشمال. مع ذلك، القصة ليست مكتملة حتى الان.
المشكلة التي واجهها اهل الشمال هو ضعفهم التجاري والاجتماعي مقارنة باهل الجنوب الذين عاشوا فترة الرفاهية والاستقرار وامتلكوا كل الأموال في البلاد. وهنا يظهر عرق جديد من المتأثرين بفكر الهان حتى يأسسوا ممالك تعتمد على الفكر الكونفوشسي في المركزية حول الملك. هم فكروا انه بتواجد ملك تستظل به الدولة سيعيدون توزيع القدرات المالية على كل البلاد. وهنا تظهر ولايتي التانغ والسوي التان حلمتا بإعادة مجد الهان والحفاظ على الاستقرار الداخلي للامة (الفكر السائد في تلك الفترة كان الفكر البوذي الذي نبذ المركزية الإلهية في الملوك لكن هيهات ان تختفي روح تلك الأفكار من قلوب الناس بهذه السرعة!).
لقب قادة التانغ أنفسهم بالخانات وظهرت في هذه الفترة اول امرأة حاكمة للبلاد بشكل ملكي لأسباب وراثية وسياسية لن نتطرق اليها في هذا الموضوع. وبعد كل هذه المحاولات لتوحيد الدولة بيد الولايات الشمالية، قامت الصين بشكل لا ارادي من نشر فكرها بأنحاء شرق اسيا! فمع انهم لم ينجحوا في توحيد الصين كلياً للاختلاف الاجتماعي مع الجنوب، فهم قاموا بتوسيع نطاق البوذية والأفكار الصينية في ذلك الوقت لدويلات كوريا واليابان. وهذه كانت اول مرة في التاريخ نرى فيها شرق اسيا قريبة من التشابه الاصولي الذي قد نلاحظه في يومنا هذا (حتى ان اللغة الصينية شاعت في جميع هذه الدول والدويلات المجاورة).
ولاية التانغ حاولت السيطرة على النظام المالي بصك العملة لكنها لم تنجح بذلك بعدم سيادة الدولة الكاملة على أطرافها والتفكك الحكومي الحاصل في سنوات التفرقة. لذلك أسست الدولة العديد من الطرق لنقل الحرير وغيرها من طرق تناقل القيمة. فعلاً لن أحسد اهل الصين على النظام الاقتصادي لتلك الفترة، لأنه وصل لمرحة تعيسة اعاقت التقدم كجلمود رمته الاقدار وكلما حاولت ازاحته وجدت بعده جلمود أعظم وأثقل.
المقاطعات الشمالية أدركت انها لن تستطيع ارجاع السيطرة المركزية وتوحيد البلاد الا بغزو جنوب الصين وتدمير الحصن الاقتصادي الرفيع الذي كان يحمي الارستقراطيين من الدولة الجديدة. وهنا نرى نظاماً قسرياً يخرج واقفا باسم روح الثورة حتى يحرق معه الأخضر واليابس! فسرعان ما نجحت المقاطعات الشمالية بضم الجنوب تحت راية الولاية الجديدة، ولم يكتفوا بذلك فحسب، بل قاموا بتوجيه انظارهم صوب فيتنام وكوريا. ولكن واجهوا بعض المشاكل مع الممالك الكورية حتى قررت الولايات الشمالية التساهل قليلاً في احلامها وتطلعاتها التوسعية.
طريقة حكم الولايات الشمالية كانت تطمح لتقليد ولاية الهان والكين، ولكنها فشلت فشلاً ذريعاً بتحويلها للبلاد لنظام بيروقراطي مبني على الصراعات والأزمات. هذا ونقول ان الأيام لم تكن نفسها تلك الأيام عند ظهور الهان او سيادة الفكر الكوفشسي, لكن الان البوذية هي المسيطرة! ولن ينفع الملك ذاته ولن يمتلك السلطة السماوية التي حصل عليها قبلاً. هذا يعني ان حتى رجال الدين قد كانوا ضد تأسيس الدولة الشمالية تلك..
وبما اننا بدأنا الكلام عن رجال الدين، هم كانوا عبارة عن جماعة من أصحاب الأراضي والممتلكات وهذا لأهميتهم الاقتصادية في البلاد حيث ان البوذية انتقلت على الطرق التجارية ومن الطبيعي معرفة أصحاب تلك التعاليم بكيفية النظر للأمور الدنيوية مثل الاقتصاد (هذه كانت نقطة مفاجئة بالنسبة لي على الاقل, لانني طالما نظرت للبوذيين على انهم بسطاء لا حول لهم ولا قوة بامور السياسة والاقتصاد). على العموم، الصين كانت في مرحلة غليان ولا أحد قادر على الوقوف ومشاهدة النتيجة لان ذلك العرض التاريخي كان ليكلفك الكثير!
ماذا عن طريق الحرير؟ ماذا حل به يا ترى؟
هو في الحقيقة ليس قائماً فحسب، بل قد تعد هذه الفترة الأهم والأفضل للتجارة الخارجية وحفظ القيمة بالتجارة وتبادل القيمة المستمر مع المنطقة اليوراسية! تخيل مرحلة كلها مشاكل داخلية مع قسم من الدولة يتمركز كلياً على القطاع الخاص، هذه تمثل أفضل فرصة للتجار الاذكياء للخروج عن سيطرة الحكومة والتجارة المفتوحة مع باقي الدول والممالك الغربية والشرقية..
____________
----------
----------
في سنة 755 ترى ولاية التانغ انقلاب سياسي شديد قاده جنرال مهم ضد قوانين الحكم التي وضعتها الممالك الثلاثة! ومع كل انقلاب سياسي ترى دماراً اقتصادياً في المدة القصيرة على الأقل..----------
----------
هنا نرى حوالي الالف من المزارع الغنية والاساسية تُدمر على يد الثوار حتى يعيقوا قدرة الحكومة على توفير الموارد واستكمال النظام السياسي. هذه الاستراتيجية قد تكون استُخدمت حتى يكسب الانقلاب الشارع لجانبه (بشكل اجباري) ويضمن تحولاً سياسياً كاملاً في البلاد. هذه الفترة من تاريخ الصين الاقتصادي تعد مرحلة في غاية الأهمية ويسميها المؤرخين بال "Tang-Song Transition". يقول الباحث الياباني نايتو كونان بان فترة التحول هذه كانت بداية العصر الحديث من تاريخ الصين ويعتبرها لحظة فارقة في تاريخ العالم بشل عام. الان قد يظن البعض ان الصين كانت تدخل عصور ظلمات والاقتصاد يموت وكل شيء تم بنائه قد اختفى.
في الحقيقة هذا عكس الواقع!
الاتلاف الزراعي كان مزعجاً للاقتصاد لو نظرت على الفترة الزمنية القصيرة لكن كانت بمثابة الدفعة التي احتاجتها الصين حتى تنهي اعتمادها الجزئي على الزراعة كلياً وتتحول تحول كامل للإنتاج والتجارة..
خلال فترة التحول تلك التي افتتحها الانقلاب المهول ذاك، برز اقتصاد منطقة وادي نهر اليانغزي والتي كانت اشبه بشريان الصين الابهر لنقل الموارد بين المناطق الوسطى وبقية المناطق المهمة بالإضافة الا كونها حلقة رابطة للأراضي الشمالية الزراعية (مناطق فقيرة ومتلفة بعد الانقلاب) والجنوب الغني المبني على الأساس التجاري والمدني.. هنا ساعد ذلك الربط على انشاء التوازن والتقليل من الانقسام السوشيواقتصادي بين الشمال والجنوب كونه سهل على العائلات التنقل والذهاب للحصول على فرص عمل افضل مما اعطى من بقي من الفلاحين في الشمال قدرة/قوة سوقية (Market Power ). من أفضل ما رأت عيناي من فترات التوازن الاقتصادي على مر التاريخ (من الممكن ان تكون منافسةً لثورة النظام الاقتصادي بعد فتح القسطنطينية حتى).
موجة التغير تلك لم تتوقف عند إعادة تنظيم الايدي العاملة فحسب! انتهى النظام الاقطاعي بشكل رسمي وصارت لدينا فكرة الملكية الخاصة والتي شجعت ايضاً على استثمار الموارد وعدم استهلاكها من قبل الحكومات والتجار.. هذا غير النظام الضريبي الذي انتقل من نظام ضريبة ثابت من أيام الممالك الى Progressive System يأخذ بعين الاعتبار كمية الممتلكات والمصادر المالية.
هذا وقلت الطلبات الإلزامية التي فرضتها الدولة على الايدي العاملة لحد مقدرتهم على المشاركة بالقطاع الخاص مما أتاح لهم القدرة على تجميع بعض الأموال واستثمار السيولة تلك بمشاريع تجارية وصناعية عالية الربح وقليلة المخاطر. العقلية الاستثمارية والتجارية باشرت بالانتشار وأصبح الكثير من أبناء الفلاحين تجاراً ومسؤولين على مقرات إنتاجية مهمة في الجنوب. هؤلاء بدأوا ببناء عواصم إنتاجية في الشمال مما وفر فرص عمل عالية وزاد من المستوى المعيشي لأهل الشمال كذلك!
للأسف محاولات الصين لتوحيد الشمال الفقير مع دويلات الجنوب المتطورة والتوازن الاقتصادي الذي كان قد ابتدأ لم يكونوا حصناً كافياً ضد الأعداء والقبائل الطامعة في الأراضي الشمالية الخصبة للصين. هنا نرى سيطرة منشوريا على شمال الصين (اترك لك البحث في تاريخ المنشورين هؤلاء وتاريخ شمال غرب الصين لو أحببت). وهذه كانت ضربة مؤلمة للصين لكن دعنا نقل انها لم تكن نهاية العالم، حيث ان الاقتصاد كان قد تعافى ووصل الصين لمرحلة تحسد عليها.
وحتى نأسس مقارنة عادلة بشكل عالمي، يجمع الكثير من المؤرخين على ان الاقتصاد الصيني في تلك الفترة كان مرشحاً ليكون الاقتصاد الأقوى عالمياً! امبراطورية فارس كانت قد انتهت على يد المسلمين والهند جائوا في المركز الثاني والعرب كانوا في بدايات العصر الذهبي لكنهم جدد على التجارة العالمية بينما الغرب كان في قمة الفشل الاقتصادي في ذلك الوقت!!
خلال هذه الفترة التي تعتبر في غاية الأهمية الاقتصادية، واجهت الصين كمية انتاج عالية جداً والتي لم يتم بنائها على تقنيات جديدة مثل الثورة الصناعية في أوروبا، ولكنها بُنيت على استخدام التقنيات الحالية بأفضل شكل ممكن حتى تصل الدولة لأعلى المراحل الإنتاجية. حيث ترى زيادة الاتزان في انتاج الأطعمة، والاقمشة، والحدادة، وحتى بناء السفن! كان لبناء السفن ذات الهيكلية الممتازة (والقادرة على مصارعة الأحوال الجوية الشديدة) حصة الاسد في الطلب من من بين الصناعات الحديثة في تلك الفترة. كيف لا والصين الان هي، ببساطة، المنطقة الجنوبية التي رعاها التجار لقرون!
استطاعت الصين كذلك السيطرة على منتوجها من الرز باستخدام الطرق الزراعية المستحدثة التي رفضتها الممالك السابقة (سمها تحجر لو أحببت، لكن اظن انهم كانوا مرغمين على ذلك حتى لا يستفرد الاقطاعيين بالأراضي ويجعلون الحداثة حجة للتقليل في كمية الضرائب المدفوعة للحكومة مقارنة بالإنتاج المرتفع).
كمية انتاج الشاي، والسكر، والحرير بجودته الخرافية، والاواني دقيقة الصنع المستخدمة للمشروبات الكحولية رأت زيادة عالية جداً خلال تلك الفترة مما قد يدل على ازدياد الترف في البلاد، او لعله مجرد علاقة بازدهار التجارة في تلك الفترة. ضعف التحكم المركزي بالاقتصاد والايدي العاملة بعد الانقلاب اجبر الولاية الحاكمة للجوء لنظام الضرائب غير المباشر حتى ينتفعوا بأكبر قدر ممكن. وكان ذلك حتى القرن العاشر عندما لفضت ولاية التانغ أنفاسها الأخيرة.
بالنسبة لفترة السونغ, فنرى Wang Anshi واتباعه يسنون القوانين الجديدة ويحاولون إعادة السيطرة المركزية على البلاد ولكن هذه القوانين الجديدة فشلت بشكل مزري بعد أعوام معدودات من حكم السونغ. لكن السوغ نجح في اقناع التجار على مشاركة بعض ارباحهم ومنع التكتم والامتناع عن دفع الضرائب عن طريق توفير الامتيازات لأفضل التجار وجعل المنافسة بين التجار هي الحكم والدافع الكبير للتقيد بنظام الضرائب.
قبل ان ننهي هذه الفترة، تذكر انها تعتبر من اهم الفترات الاقتصادية مع انها لم تر الكثير من التغيرات الجذرية الاقتصادية وهذا لان الصين بشكل عام بدأت برؤية أفكار اقتصادية جديدة مثل كثرة الاحتكار في القطاع الخاص وانتهاء السيطرة المركزية تقريباً. خصص باحثوا الاقتصاد والتاريخ كتباً كاملةً لهذه الفترة وانا لن أنصف أي من الفترات في هذا الموضوع لان الهدف هو المرور بتاريخ الصين من الالف للياء من دون التعمق في الفترات التاريخية تلك. لو أحببت تعلم المزيد عن هذه الفترة ولو كان عندك سؤال، فأنصحك ان تفتح النقاش في الموضوع او تبحث في الكتب المخصصة وهذه الأفضل (وابلغني لو أحببت ان اعطيك أي توصية بكتاب او مصدر لكن اغلب الكتب جيدة لان تاريخ الصين بشكل عام كتب من جهة واحدة تقريباً ولا خلاف كبير على احداثه).