XIIIXIIIXIII
Aëv stré Novrī
مقدمة
كنت أنتظر صدورها لأعوام, أحلم في اللحظة التي ستقع فيها بين يدي وتغرقني في عالمها. قبل النوم, وأنا أمشي وحيدة في الليل, وأثناء لعبي لبقية الألعاب, وعيي كان عاجزاً عن مفارقة تفكيره المستمر فيها. ثم صدرت..
أنهيت الساعة الأولى, لا زال الوقت مبكراً كي أحكم عليها.
أنهيت الساعة العاشرة, الجميع يثني عليها, أنا فقط أنظر إليها بطريقة خاطئة.
أنهيت الساعة الخمسين, عالمها مصمم بشكل رائع, وهي, إن نظرت إليها كمجموع لأجزاء, مبهرة.
أنهيت الساعة المئة, أنا..لست أتسلى..هل المشكلة فيني؟ هل أصبحت أكره الألعاب؟! يستحيل أن أكون..
أنهيت الساعة ال300: أنا لا أكره الألعاب, لكني أكره هذه اللعبة!
لم؟ لِم لَم تستطع هذه اللعبة تسليتي؟ ما هو الأمر الخاطئ الذي أقوم به؟!
لا..بل ما هو الأمر الخاطئ الذي تقوم هي به؟!
فكرت في الأمر بشكل مطول, وخرجت بعدة نظريات تتعلق بتلك اللعبة و"الأخطاء التي تقوم بها". لكن القليل من التأمل كان كافياً لدحض الكثير من أفكاري. إذ أن تلك اللعبة نالت إعجاب ملايين اللاعبين, ومن ذلك, فإن إطلاق كلمة "أخطاء" على خيارات اتخذها مصممها وأعجبت اللاعبين سيكون إجحافاً في حقه. بالإضافة إلى هذا, أنا لن أقارب الموضوعية إن انتهجت ذلك النهج, لأن ما فعلته حينها –ببساطة- سيكون أني وصفت ما أحبه شخصياً بالصحيح وما لا أحبه بالخاطئ, أمر لا يقود إلى فهم مجرد وموضوعي ل"لِم لَم تكن اللعبة تخاطبني؟"
نعم, جميع الأسئلة أعلاه غير دقيقة, وأنا أنظر إلى الأمور من الجهة الخاطئة. السؤال الأصح كان ليكون:
ما هو الأمر الصحيح الذي تقوم به الألعاب لجذبي وتسليتي؟
ومن هنا بدأت رحلتي الصغيرة للبحث عن إجابة لهذا السؤال!
رحلة
في البداية ظننت بأن اطلاعاً سريعاً على بعض الكتب سيكون كافياً, لكن الأمر كان أعقد من هذا. فلكي أفهم لم تجذبني بعض الألعاب في حين تفشل أخرى في ذلك, كان يجب على أن أعرف قبلها القليل عن آلية الدافع لدى الإنسان. بعد أن وصلت إلى ما أظن بأنه فهم ليس بالسيء للدوافع الإنسانية, اتجهت إلى بعض الكتب التي تبني على ما تعلمته وتناقش العلاقة بين الدوافع والألعاب, كمادة أساسية أو كموضوع جانبي. في النهاية خرجت بصورة أستطيع إلى حد ما إسناد أحكامي المتعلقة بالألعاب وبالمدى الموضوعي لنجاحها أو فشلها عليها.
بالطبع فإن المقال, كمقال شخصي, مشبع بتصوراتي الشخصية التي تشوب الأفكار الموضوعية المقدمة فيه. في حال ما إذا فضل القارئ استقاء الحقائق المجردة فقط, فإني أدرجت آخر المقال مجموعة المصادر التي بنيت معظم ما كتبته عليها.
لأن جزءاً واحداً لا يكفي!
الأمر هو أن معظم المذكور في الربط بين الدافع واللعبة يفترض وجود معرفة بسيطة لدى القارئ في الدوافع الإنسانية, ولست أحب كتابة ما هو غير مكتمل لذاته. من أجل ذلك, قررت تقسيم المقال إلى قسمين:
الأول يستعرض بعض الأفكار في الدوافع الإنسانية, مع تطرق سطحي إلى الألعاب.
أما الثاني, فيربط بين المذكور في القسم الأول وبين الألعاب, ثم يعطي أمثلة على فشل أو نجاح الألعاب في دفع الإنسان إلى لعبها والاستمرار في ذلك.
الجزء الأول بمفرده يحوي ما يزيد عن ال7000 كلمة, وهو مكتمل في ذاته. لأجل ذلك, ولأني لا أعلم ما إذا كنت سأستطيع إنهاء الجزء الثاني ومراجعته خلال الفترة الزمنية القصيرة نسبياً ذاتها التي استغرقها الأول, قررت طرح كل واحدٍ منهما بشكل منفصل.
ملاحظة: الجزء الأول يتحدث في مجمله عن الدوافع الإنسانية, مع تطرق سطحي للغاية إلى الألعاب. لكن المقالين ككل يتعلقان بأمر مهم للغاية في الألعاب, بل هو ربما المحدد الأهم لنجاح اللعبة (مدى قدرتها على جذب اللاعب, وقدرتها على إبقاءه يلعب).
في الدوافع الإنسانية
"أمر لتفكري به؟"
"موجود!"
"هاتفك؟"
"يعمل !"
"الplaylist للموسيقى؟"
"أتوق لسماعها!"
"الطقس؟"
"رياح باردة وجافة, وليل شاعري..تماماً كما أريد!"
"جيد, إذاً اعتني بنفسك وعودي قبل طلوع الفجر...أو حاولي القيام بذلك على الأقل."
"بالطبع, نوفراي"
ابتسم لمرة أخيرة في وجه انعكاسي في المرآة, ثم أرتدي سينث (headphones), وأخيراً أخرج من منزلي والحماسة تغمرني.
أصل بعد دقائق إلى مدخل الحديقة, فأتسلل خلسة إلى داخلها. أنظر من حولي باحثة عن حراس, وعندما لا أجد أياً منهم, أخرج من بين الأشجار وأبدأ بممارسة هواية مفضلة لدي, أعني المشي والتفكير!
لكن هذه المرة كانت مختلفة, إذ كانت هنالك نحلة عسل تدور حول إحدى الأشجار, والتي ما إن اقتربت منها عن طريق الخطأ إلا والتفتت إلي لتبدأ بمطاردتي, فأوقفت الموسيقى وجعلت أجري هاربة منها. التفتّ إلى الوراء بعد وهلة وأنا أركض لألاحظ بأنها اختفت, فتوقفت لأستعيد انفاسي. وهنا هاجم وعيي سيلٌ من الأسئلة والأفكار:
فلم قامت النحلة بمطاردتي بعد أن اقتربت؟ ولم توقفت عن فعل ذلك؟ لم كانت تدور حول الشجرة؟ ولم تقوم بالطيران بدلاً من المشي؟ وغيرها...
بالطبع كنت أدرك بأن الإجابة علي أي من هذه الأسئلة ستتطلب قراءة القليل عن النحل، لكن ما كنت أستطيع الجزم به هو أن هذه التساؤلات كانت معنية بعمليات اختيار قامت النحلة بها, إن لم تكن تعاني من اضطراب. فالنحلة قررت المطاردة, ثم قررت بعد أن ابتعدت أنا عنها التوقف عن مطاردتي والعودة إلى شجرتها, وهكذا...
لكن لم اتخذت النحلة قرار مطاردتي مثلاً؟
ربما كانت باختيارها مطاردتي تلبي حاجة لديها, كحماية خليتها التي لم أرها مثلاً, فأرادت إبعادي عن المكان أو الموت دفاعاً عنه. (حاجة نفسية وفيسيولوجية)
ربما كانت تصرفها العدائي فقط يعكس طبيعة ملكتها. النحل يتأثرون بسلوكيات ملكاتهم, الملكة العدائية تتسبب بجعل العاملات عدائيات. أي ببساطة أن الدافع لمطاردتي في هذه الحالة كان إشباع حاجة فيسيولوجية لدى الملكة (اضطراب في الفيرمونس لديها, أو غيره. أي نسخة مشوهة من حاجة فيسيولوجية)
ربما كان فقط إحساسها بالخوف هو الذي دفعها إلى هذا السلوك الغير معتاد, لاسيما وأنها كانت تدور حول الشجرة بشكل غريب, أمر جعلني أحتمل بأنها queenless. (مشاعر)
هنالك الكثير من الأسباب المحتملة لسلوكها الغريب. لكن الأمر المشترك بين جميع هذه الأسباب هو أنها يمكن أن تولد سلوكاً, أي أنها دوافع.
الدافع هو كل ما يتسبب بإحداث سلوك.
عدت إلى منزلي, لكني بقيت أفكر في الأمر. فمعرفة أن الدافع هو ما يولد السلوك لا تكفي, أنا أريد معرفة ما هو أعمق من هذا, إذ ما الذي قد يتسبب بإحداث سلوك؟ هل يمكنني أن أصنف هذه الدوافع أو أحصرها؟
أتضح بأن الأمر ممكن. بل هو حتى أمر سبقني إليه مئات الفلاسفة والعلماء الذين قضوا القرون الأربعة الماضية يحاولون فهم الدوافع وتصنيفها. بشكل عام, عندما تقوم بأمر, فأنت قمت به لأنه يستوفي حاجة لديك, لأنك فكرت في القيام به, أو لأن مشاعرك دفعتك إلى القيام به.
أي بعبارة أخرى, الدافع هو حاجة، وحدة إدراكية ، أو عاطفة تتسبب بإحداث سلوك. فهم الدافع هو فهم هذه التراكيب الثلاثة، وفهم التفاعلات بينها.
كيف تترابط هذه التراكيب؟
سأتحدث عن الأمر بإسهاب أكبر لاحقاً, لكن في الماضي كانت هنالك نظريتان مهمتان لتفسير الترابط بين الدوافع الثلاثة. في الأولى, الحاجات, الأفكار, والمشاعر تعمل وتؤثر على السلوك بشكل منفصل, مع كون كل واحدة منها تؤثر بدورها على الأخرى. في الثانية, الأفكار والحاجات تتسبب بإحداث مشاعر, والمشاعر وحدها هي التي تؤثر على السلوك. اليوم يغلب بعض العلماء كون النظرية الثانية هي النموذج الأفضل للتفسير. لكن بغض النظر عن هيكل الترابط, فهم كيفية عمل كل تمثيل من الثلاثة كنظام مغلق هو الأسلوب الأفضل لفهم الدوافع الإنسانية.
وأول هذه التمثيلات هي الحاجة.
الحاجة
"أنا أريد تناول الآيس كريم، لذلك أنا... موجودة؟"
الحاجة هي الشرط الضروري لحياة الشخص، نموه، أو كونه على ما يرام.
إشباع الحاجة يقود إلى الإحساس النفسي بالرضى، في حين يتسبب إهمالها باضطراب في البنيتين النفسية والحيوية للحي. إذ عندما تقوم بإهمال تناول الطعام مثلاً، ستقوم حاجتك إلى الطعام بإحداث اضطراب داخلي فيك يتمثل في كل من إحساسك النفسي بالجوع، وتأثر وظائفك الحيوية الذي ينعكس على أداء دماغك. هذه التغيرات في نفسك وجسدك ستُترجم إلى عاطفة سلبية، والتي بدورها ستجعل من تناول الطعام أولوية لديك حتى ينخفض احتياج جسمك إليه.
الأمر لا يتوقف هنا، إذ لنقل بأنك، حتى بعد تشبع جسدك من الطعام، قمت بالاستمرار في تناوله، فماذا سيحصل حينها؟ ببساطة، بعد تناولك لكمية من الطعام تتجاوز احتياجك، سيُحدث جسدك اضطراباً آخر (مشابه للمذكورة أعلاه) يدفعك إلى التوقف.
ربما قد لاحظت بأن التفسير المذكور أعلاه بسيط للغاية ويغفل الكثير، وهذا صحيح. فهو مجرد اختصار –شنيع- لتفسير أعمق تقدمه نظرية ال drive لكلارك هل، والتي تضع سبع مراحل أساسية لارتفاع وانخفاض الحاجة الفيسيولوجية وتصف كل واحدةٍ منها بتفصيل. إلا أن التطرق إليها هنا سيدخلنا في تفاصيل كثيرة لا تخدم المقصد من المقال، لذا فإني آثرت الاختصار والاكتفاء بذكر الآلية البسيطة.
بشكل عام، يحصر علماء النفس حاجات الإنسان في ثلاثة أصناف: حاجات فيسيولوجية، حاجات نفسية، وحاجات مكتسبة. هنالك بالطبع الكثير من التصانيف الأخرى للحاجات، لكن هذا التقسيم هو الأكثر اعتماداً في الوسط، ووضوحاً لغايتنا.
الحاجات الفيسيولوجية
الحاجات الفسيولوجية هي الحاجات المرتبطة بالنظم الحيوية المختلفة في الإنسان كالهرمونات، الشبكات العصبية، وأعضاء الجسم بشكلٍ عام. بخلاف الحاجات النفسية الحاضرة بشكل دائم، الحاجات الفيسيولوجية هي انخفاض وارتفاع مستمرين. فأنت لست محتاجاً للطعام طوال الوقت، الحاجة إلى الطعام سترتفع لديك عندما تتطلب نظمك الفيسيولوجية ذلك. الأمر كذلك مع حاجتك إلى التنفس، فليس وكأنك في تفكير دائم بـ "أحتاج إلى التنفس!", لكن عندما تفقد الهواء، فإن هذه الحاجة سترتفع وتشغل كامل ذهنك، وهكذا الأمر مع بقية حاجاتك الفيسيولوجية.
هذه الحاجات تتضمن الجوع، العطش، تجنب الألم، وغيرها.
قليلة هي الألعاب التي تخاطب هذا الصنف من الحاجات، وهي إجمالاً ليست أول ما سيفكر به الشخص عندما يسمع كلمة "لعبة". فقط اعلم بأن اللعبة التي تكافِئُك بالطعام هي لعبة تخاطب حاجة فيسيولوجية لديك، إن كانت هنالك لعبة كهذه.
الحاجة النفسية
أنا أحب القيام بالرسم، كذلك فإني استمتع بالكتابة وبلعب ماريو كارت لوحدي. تجربة تقمص الأدوار التي أعيشها في دراجون كويست لا نظير لها!
لكن.... لم؟ ما الذي يدفعني إلى ممارسة هذه النشاطات؟ ما المُسلّي فيها؟
ليس وكأن جسدي سيتضرر إن لم العب، فاللعب لا يستوفي حاجة فيسيولوجية معينة لدي في النهاية. إذاً فما الذي يدفعني إلى الجلوس وحيدة أمام الشاشة واللعب؟ ما الذي أخرج به من تلك التجربة؟ ولم قد يكافئني جسدي بالتسلية على أمر لا يشبع حاجة فيسيولوجية لديه؟
يتضح أن هنالك صنفاً آخر من الحاجات، صنف لا أستطيع استيفاءه بتناول الآيس كريم أو بشرب كأس من الماء. صنف يدفعني إلى القيام بالتبادل الفكري العاطفي المنظم الذي اسمه اللعب، يدفعني إلى الدفاع عن هويتي الخاصة واستقلالي وصيانتهما، ويدفعني إلى السعي باستمرار في بحثي عن الانتماء. اسم هذا الصنف هو "الحاجات النفسية"، والحاجات الموجودة تحت مظلته هي التي تخاطبها الألعاب.
بين استباقية وتفاعلية
قبل التفصيل في الحاجات النفسية، يجب أن نفرق بين نوعين مختلفين من الحاجات. فهنالك حاجات تفاعلية وحاجات استباقية.
عندما أرى أسداً أمامي، ينظر إلى بحدة ثم يقوم بالزئير، فإني سأشعر بالهلع وسأركض هاربة منه. الحاجة التي دفعتني إلى الهرب وولدت الهلع فيّ هي حاجة تفاعلية، أتت كردة فعل على رؤيتي للأسد.
بالمقابل، عندما أكون مستلقية على الأريكة، اعبث بهاتفي وأنا غارقة في الملل. ثم تخطر على فجأة فكرة قيامي بلعب ماريو كارت، فإني سأقفز متحمسة وأنطلق في رحلة للبحث عن السويتش الخاص بي. الحاجة التي دفعتني إلى القفز والبحث عن السويتش هنا استباقية، تولدت من فكرة خطرت علي.
الحاجات التفاعلية هي التي تتطلب وجود مثير معين كي ترتفع. أما الحاجات الاستباقية، كما في مثال السويتش، فإنها هي الحاجات التي ترتفع نتيجة لخطور فكرة على الذهن.
الحاجات الفيسيولوجية تفاعلية بطبيعتها، والحاجات النفسية استباقية. إدراكنا لاستباقية الحاجات النفسية يمهد الطريق لمنصة هامة للغاية تفسر الحاجات النفسية، وهي الأورغانسمية.
فما هي الحاجات النفسية؟
هنالك عشرات المنصات التي تحاول تفسير الحاجات النفسية في الإنسان وحصرها، من التفاسير الفلسفية التي سبقت القرن العشرين والتي أدخل بعضها أموراً كـ "الجانب الروحي" إلى المعادلة، حتى التصانيف القديمة والتي تفتقر إلى الدقة كهرم ماسلو. لكن إن كنا سنتحدث عما هو سائدٌ اليوم، فحديثنا في هذه الحالة لن يبتعد عن النهج الأورغانسمي في التفسير ونظرية تحديد الذات (SDT). لكن قبل التطرق إلى النظريات القائمة على الأورغانسمية، لم لا نتحدث قليلاً عن المنصات الأقدم؟
النظريات الفلسفية الأقدم كانت في مجملها تقوم على الـ self-introspection والتصانيف المشتقة منه. الـ self-introspection هو ببساطة جلوسك مع نفسك وقيامك بتحليلها. فمثلاً، يقوم الفيلسوف بتدوين سلوكياته وتوثيقها، ثم يتبع ذلك بالجلوس وحيداً ومحاولة تفسير كل واحدة منها، وفي النهاية يقوم إيجاد منظومة تصف احتياجاته التي تفسر أفعاله، وهكذا. وعلى الرغم من عملية هذا المنهج في ملاحظة الأنماط وأشكال التناسب المختلفة، إلا أن تعميم أي من نتائجه يعكس عدم فهم جوهري للطبيعة الشخصية لوحدات الإدراك أو الأفكار عموماً. فبدلاً من السعي وراء الحقيقة، سيقوم متبع هذا المنهج بخلق منظومة تتناسب مع تصوراته. ليخرج في النهاية بأمر هو أقرب إلى عقيدة شاملة تشعره هو ومن معه بالاطمئنان، لكن لا تمت للحقائق الموضوعية بصلة.
أما إن كنا سنتحدث عن نظريات القرن العشرين البدائية (كهرم ماسلو)، فإن المشكلة معها هي في كونها مغلفة بتصورات من يخرج بها. فماسلو مثلاً قام بدراسة أفكار وسلوكيات من أسماهم بالـ master race"" (مجموعة من الفلاسفة، العلماء، والمشاهير)، ثم صاغ تصوراته عن الحاجة على افتراض جوهري هو أن كون الإنسان منتمياً إلى الـ master race يعني بأنه سوي وخال من الاضطرابات النفسية، اعتقاد شخصي للغاية ولا يمت للموضوعية بصلة. وعلى الرغم من حقيقية الحاجات المذكورة في نظريته وتماسكها مع كثير من المنصات البدائية في علمي النفس التطوري والاجتماعي، إلا أن نموذجه مليء بالفجوات، والمجتمع العلمي لم يرحمه بأمثلته المضادة.
لأجل ذلك، غدت معظم النظريات الحديثة تحاول تجنب مشكلتي التبسيط الزائد وشخصية الأفكار، عن طريق قيامها بالتقسيم والفصل واتباع النهج التجريبي بحذافيره. مثال على هذا هو قيامها بالفصل بين الحاجات الفيسيولوجية، النفسية، والمكتسبة، ومعاملةَ كلٍ منها كمنظومة مستقلة تتفاعل من نظيراتها. بالإضافة إلى ذلك، فإن هنالك معايير أساسية غدت تراعى في التصنيف، كالاستباقية والتفاعلية مثلاً. بشكلٍ عام، معظم النظريات المعاصرة للحاجات النفسية تدخل تحت مظلة الأورغانسمية، وهذا ينطبق على ال (sdt) التي هي محور حديثنا.
الأورغانسمية
الأورغانسمية مشتقة من Organism، والتي تعني "كائن حي". هي نهج معين تجاه تفسير الحاجة النفسية، يقوم بتمثيل البيئة ككيان متغير ومرن يتفاعل الحي معه بشكل مستمر. لأن البيئة مرنة، يحتاج الكائن الحي إلى التغير بشكل مستمر ليواكب التطورات فيها. ونتيجة لتغيره، هو يحدث بدوره تبدلاً فيها عندما يتفاعل معها، وهكذا.
أول ما تقر به الأورغانسمية هو احتياج الحي إلى البيئة، فهي التي توفر له الموارد التي يحتاجها لإشباع حاجاته الفيسيولوجية: كالطعام والشراب وغيرها. وهي كذلك تمثل وسطاً يحوي وعيه.
أمور أخرى تقر بها الأورغانسمية هي امتلاك الكائن الحي للمهارات اللازمة للتكيف مع البيئة، قدرة الكائن على اكتساب المهارات الجديدة لمواكبة التغير المستمر في بيئته، وأخيراً كون الكائن استباقي وتفاعلي في سلوكه.
في المنصة الأورغانسمية، العلاقة بين الكائن وبيئته استباقية وتفاعلية في الآن ذاته. يبادر هو إلى القيام بأمر، ثم تأتي ردة فعل البيئة، فتأتي تبعاً لها ردة فعله هو، وهكذا. إن لم تكن ردة فعل البيئة بناءة، فإن الكائن سيتعلم سبلاً جديدة للتفاعل. هذه الدائرة تسمى بالديالاكتيك، وهي محور الأورغانسمية والنظريات القائمة عليها.
النهج الميكانيكي
الميكانيكية هي منصة معاكسة للأورغانسمية، إذ أنها تفسر العلاقة بين الحي وبيئته كعلاقة تفاعلية فقط، فتكون سلوكيات الحي وفقها هي مجرد ردود أفعال على مبادرات البيئة. الميكانيكية هي منصة دالية، أي أنها تقر بحتمية ردود أفعال الحي على مبادرات البيئة. بشكل عام، المنصة الميكانيكية تفسر بعض النظم في الإنسان، لاسيما عندما نتحدث عن التفاعل بين الحاجة الفيسيولوجية والبيئة، لكن معظم النظريات الحديثة لتفسير الاحتياجات النفسية تهمشها وتبني على الأورغانسمية.
نظرية تحديد الذات، والاحتياجات النفسية البدائية
تعيد نظرية تحديد الذات لوازم الإنسان النفسية إلى ثلاث حاجات بدائية: الحاجة إلى الاستقلال، الحاجة إلى القدرة، والحاجة إلى التعلق.
وفقاً للنظرية، فإن هذه الحاجات الثلاث جوهرية لكل حي، إذ أن كثيراً من دوافع السلوك لدى الإنسان هي إما تنبعث من هذه الحاجات أو ترتبط بها بشكل أو بآخر، والنفس الإنسانية تتضرر بشدة عند وجود خلل في استيفاء إحداها. هذه الحاجات ليست مكتسبة، فهي جزء من الذات، وتربطها بالأفكار والعواطف شبكة من التفاعلات التي تشكل الصورة الكلية للدافع لدى الإنسان. (الحاجات تساهم في توليد الأفكار، والأفكار تُعالج من قبل مرشح الاحتياجات قبل أن تتحول إلى عاطفة مولدة السلوك).
فكر في كل من هواياتك، الرياضات التي تحبها، والألعاب التي تلعبها. جميعها تستوفي واحدة أو أكثر من هذه الحاجات الثلاث، واستيفاؤها لحاجة لديك أو أكثر هو سبب وجود الدافع لديك لممارستها. ببساطة، فهم احتياجات الإنسان النفسية هو فهم هذه الحاجات الثلاث وكيفية ترابطها وتأثيرها على بقية النظم النفسية والحيوية لدى الإنسان. وأول هذه الحاجات هي الحاجة إلى الاستقلال.
استقلال
"أكون أو لا أكون، هذا هو السؤال"
"ماذا تريدين أن تكوني عندما تكبري؟"
قالت لي المعلمة بلطف، فأجبتها بحماسة: "أريد أن أكون ألّوفة!".
جعلت المعلمة تفكر لثوان قبل أن تسأل: "وما هي الألوفة؟"
نهضت من على كرسيي بفخر قبل أن أهتف: "التي تؤلف القصص!"
ضحكت المعلمة لتقول: “تعنين روائية. حسنا...لكن ما عنيناه بالعمل هو المهنة، أي كالطبيب، المهندس، أو العالِم. وتستطيعين قضاء وقت فراغك على كتابة القصص... لذا هل فكرت في مهنة؟"
هنا انطفأت شعلة الحماسة في داخلي، فالعمل الذي كنت أحلم به، العمل الذي يصف ذاتي، لم يكن عملاً بل أمراً هامشياً في نظرها. شعرت بالذبول، فالأعمال التي ذكرتها هي لم تكن تثير اهتمامي أو تصفني.. شعرت كما لو كانت هي تحاول تقرير مصيري نيابة عني.
جعلت أفكر بركود قبل أن أقول بصوت يُظهر عدم الاهتمام: "لا بأس أي عمل هو جيد."
"لكن يجب أن تختاري، ما هو العمل الأحب إليك من الأعمال هذه؟"
فكذبت عليها وانتقيت مهنة عشوائية كي أجعلها تتجاوزني، لكني بقيت أفكر: ما قيمة الاختيار إن كانت جميع الخيارات لا تصفني؟
المعلمة أعطتني خياراً وهمياً بين مجموعة من المهن التي لا تثير اهتمامي ورفضت تعريفي لما أسميه مهنة.
هذه القصة تلخص جوهر الحاجة إلى الاستقلال، وما يمكن أن يترتب على عدم استيفائها.
ما هو الاستقلال؟
الاستقلال هو الحاجة النفسية إلى توجيه الذات، التعبير عما يصفها، وإحداث السلوك الشخصي بقناعة، طواعية وحرية.
الاستقلال، كأول الحاجات النفسية وفق الـ SDT, لا يسهم فقط في توليد الخواطر لديك، بل هو كذلك يعمل كمرشح للأفكار المختلفة بعد تشكلها; إذ أن مدى تحقيق فكرة معينة لحاجتك للاستقلال سيرفع أو سيخفض من الدافع للقيام بها لديك. هنالك أمور تقوم بها لأنك ترغب بالقيام بها، وهذه يكون دافع قيامك بها أقوى، وهنالك أمور تقوم بها لأن القيام بها –وفق قناعة لديك- واجب، وهذه، لإخلالها بالاستقلال الخاص بك، يكون دافعك إليها أضعف.
الاستقلال هو تركيب عام للغاية، فهمه ككل هو أمر عصي. من أجل ذلك، فإن نظرية تحديد الذات تفسره كمجموع لثلاثة محددات، فمدى تحقيق سلوك معين لجميع هذه المحددات هو مدى استيفاءه لحاجة الاستقلال لديك. أول هذه المحددات هو الموضع المشاهد للسببية.
محددات الاستقلال I: الموضع المشاهد للسببية
كنت أمشي في حديقة Morningside park فجراً، أستمع إلى سيمفونية باندا-هوفين العاشرة في حين أتأمل روعة الموز. فشاهدت رجلاً متقدماً في السن يطعم حيوانات الراكون التي قد اجتمعت حوله. وفقت لوهلة، وجعلت أتأمل ما يقوم به في حين أفكر: لم بحق الجحيم يقوم بهذا؟
آثرت سماع إجابته على بقائي في حيرتي، فتقدمت وحييته، قبل أن أسأله: "هل تطعم الحيوانات يومياً؟"
التفت إلي وابتسم، ثم قال: "لا تخبري أحداً عن الأمر، إطعام الراكون ممنوع. فالبلدية تحاول الحد من أعدادهم مؤخراً في سعيها لحل مشكلة الربو.", ثم عاد إليهم متجاهلاً وجودي، يلاعبهم ويطعمهم، فبقيت اراقبه بصمت لدقائق.
عندما انتهى، نهض وقال لي:" تحبين الحيوانات إذاً", لم أجب عليه وإنما فقط سألت:" مع معرفتك لموقف البلدية من إطعامهم، لم تطعمهم؟"
نظر إليهم وهم يلعبون بين الأشجار، ثم قال:" هذه كائنات حية، موجدها هو ذاته موجدي. كما يتكفل إلهي بإطعامي يومياً، هو يتكفل بإطعامهم عن طريقي. هي رحمة الإله التي تتمثل في أفعال كهذه."
ثم أشار إلى أحدهم وقال: "أرأيت ذلك الراكون؟ لن يعيش ليوم دون وجود من يرعاه بشكل مباشر. كان مملوكاً لأحدهم، لكن تخلى عنه صاحبه، وهو الآن غير قادر على تأمين طعامه."
جعلت أتحدث معه عن حيوانات الراكون لدقائق، ثم ودعته ومضيت في طريقي، حاملة معي أطناناً من الأفكار.
مبرر ذلك الرجل كان الدين. فمن خلال توظيفه لاعتقاده، هو يعطي غطاءاً فكرياً لأفعاله التي يقدم عليها. لو أن الحكومة أرغمته على إطعام الراكون، لانخفض دافع القيام بذلك لديه لانتفاء الاستقلال، حتى مع كون الفعل هو ذاته. ولو لم يكن الدين موجوداً، لتأثر دافعه للقيام بهذا الأمر، لعدم وجود غطاء تبريري آخر له القوة ذاتها لديه. قصة هذا الرجل هي مثال على الموضع المشاهد للسببية، المحدد الاول للاستقلال.
الموضع المشاهد للسببية هو الفهم الشخصي لسبب السلوك. عندما يتم سؤالي: لم تقرئين هذا الكتاب؟ فأجيب: لأنه مفيد. ما قلته لا يعكس بالضرورة الدافع العميق للسلوك، وإنما يعكس فقط كيف أبرر هذا السلوك لنفسي، أي الموضع المشاهد للسببية. أقرأ الكتاب، ثم أتأمل في نفسي باحثة عن سبب قيامي بالقراءة، وفي النهاية أخرج بمبرر. هل المبرر يصف الدافع؟ ليس بالضرورة. لكن المبرر يصف ما أعتقد بأنه الدافع.
متى يرفع الموضع المشاهد للسببية من الاستقلال ومتى يضره؟
هنالك موضع خارجي مشاهَد للسببية، هنالك داخلي، وهنالك ما هو بينهما.
مثال على الخارجي هو "أنا أقرأ لأجل الاختبار غداً", أو "أنا أقوم بحضور هذه الدورة لأن رئيسي في العمل طلب مني".
مثال على الداخلي هو "أنا أقرأ لأن القراءة مسلية", أو "أنا أحضر هذه الدورة لأنها قد تفيدني".
أي بعبارة أخرى، إن كان تبرير الفعل يتعلق بك كشخص، فموضع السببية المشاهد داخلي، إن كان يتعلق بعامل خارجي، فالموضع خارجي. بشكل عام، كلما كان الموضع المشاهد للسببية أكثر داخلية، كلما كان السلوك مستوفياً للاستقلال بشكل أكبر. عندما تجد ما تبرر به سلوكك دون إدخال عامل خارجي، فأنت قد قمت بالاستقلال تبريرياً، وبغض النظر عن مدى استقلال الدافع الحقيقي، داخلية موضع السببية المشاهد ترفع من استيفاء السلوك للحاجة إلى الاستقلال.
مشكلة الموضع
مديري في العمل طلب مني أن أقرأ هذا الكتاب، فأطعته. الموضع المشاهد للسببية هنا خارجي، صحيح؟
ليس تماماً. نعم، أنا أقرأ الكتاب طاعة لمديري، لكن لم أطعت المدير هنا؟ ببساطة لأني أبحث عن ترقية. أي أني قرأت الكتاب لأني أردت الحصول على ترقية في عملي.
والآن، هل الموضع المشاهد للسببية هنا خارجي أم داخلي؟
مشكلة أخرى هي: ماذا لو كنت قرأت الكتاب لأنه مفيد أولاً، ولأني أريد الحصول على ترقية ثانياً؟
للإجابة على هذين السؤالين، يجب أن نقوم بالفصل بين الرغبات الداخلية وبين العوامل الخارجية. فكل ما تقوم أنت به في النهاية، طوال حياتك، يهدف إلى تحقيق رغبات داخلية لديك. لكنك لا تستطيع تحقيق هذه الرغبات مباشرة، فالإنسان ليس مطلق القدرة، والبيئة التي يعيش فيها مليئة بالعوائق التي تفصل بينه وبين ما يريد.
لم أحرك أقدامي؟ لأنه يجب علي أن اتحرك.
لم يجب علي أن أتحرك؟ لأني أريد الوصول إلى المغسلة ثم غسل وجهي.
لم أريد أن أغسل وجهي؟ لأني أريد أن أكون في أبهى حلة.
لم أريد أن أكون في أبهى حلة؟ كي أنال قدراً أكبر من الإعجاب.
رغبتي بالاهتمام، التعلق، والإعجاب هي التي تسببت بسلسة الدوافع أعلاه، فجميع الدوافع الأخرى كانت تهدف إلى تخطي العوامل الخارجية لتحقيق هذه الرغبة لدي.
فهل الموضع المشاهد في تحريكي لأقدامي داخلي أم خارجي؟
هذا يعتمد على تصوري، إذ تذكر: الدافع الحقيقي لا يساوي الموضع المشاهد للسببية.
إن كنت قد خدعت نفسي وقلت بأن الدافع هو غسل وجهي لأن باندا سيغضب إن لم أفعل، وتوقفت هنا دون أن أفكر في "لم أكترث بغضب باندا؟", فالموضع سيكون خارجياً.
لكن ماذا إن استخدمت المنطق السببي أعلاه؟
في هذه الحالة، مدى خارجية الموضع المشاهد للسببية سيتناسب مع عدد العوامل الخارجية (التي تعرفها وتدركها) التي تفصل بينك وبين الرغبة الحقيقية. أي كلما كان عدد العوامل الخارجية المدركة أقل، كلما كان الموضع المشاهد للسببية داخلياً بشكل أكبر.
الموضع المشاهد للسببية، كالركن الأول للاستقلال، مهم للغاية. لكنه لا يكفي وحده لإرضاء الحاجة للاستقلال، ليس من دون وجود الركنين الثاني والثالث، أعني الإحساس بالاختيار والطوع.
محددات الاستقلال II: الإحساس بالاختيار
هبطت طائرتي إلى مطار شيكاغو ليلاً. خرجت من المطار منهكة، لأجد الريح تعصف والثلج يتساقط بغزارة، فقلت في نفسي بضجر: "رائع، لأني كنت أحتاج إلى عاصفة ثلجية", ثم أخرجت هاتفي على عجل وطلبت سائقاً من Uber كي يُقلّني إلى الفندق.
وصلت السيارة بعد دقائق وركبتها لأُفاجأ بالموسيقى الصاخبة المنبعثة من مكبرات الصوت فيها، بدا الأمر كما لو أن هنالك حفلة تقام في الداخل. جعلت أفكر في نفسي، الا يمتلك هذا الوغد حساً عاماً؟ أعني حقاً؟! لكني آثرت البقاء صامتة، فقد كنت في حالة من الإنهاك لا أطيق فيها بدء شجار.
بعد دقيقتين، التفت إلي السائق وسأل:" بيري أم بيبر؟"
قمت بإمالة رأسي مستفهمة، فاستطرد السائق –الذي كان ينظر إلي في الخلف ويقود في الآن ذاته-:"هل أقوم بتشغيل اغنية لكاتي بيري أم لجستن؟"
أوه، الآن أدركت الـ pun. أظن بأن السيد سائق كان يحاول كسب مودتي من خلال إعطائي الخيار، وزيادة المودة عن طريق توظيفه للـ pun.. كم هو لطيف....
لا هو ليس كذلك!!!!
علمت حينها أمران: الأول هو أن السائق لا يعرف أي شيء عن الدوافع الإنسانية، والثاني هو أنه يتقلب بشكل يائس بين كونه وغد وودود.
قلت له "لا أمانع أي شيء.." بصوت خافت، وأتبعتها ب" سأكون ممتنة لو..خفضت الصوت قليلاً" بصوت لم يسمعه مما يبدو.
بعد نصف ساعة من المعاناة الصاخبة، وصلت إلى الفندق أخيراً. لكن تلك الذكرى لا زالت تلازمني، لا لسوئها، بل لأهميتها في تشكيل تصوري عن الاختيار وعلاقته بالاستقلال.
أهمية الإحساس بالاختيار
الإحساس بالاختيار هو الإحساس الذي نعيشه عندما نكون في بيئة توفر لنا مجموعة من الفرص التي نقوم بالاختيار من بينها عن طريق اتخاذ قرارات تصف قيم داخلية فينا، دون توجيه أو التزام.
توفير الخيار هو على الأرجح الأسلوب الأكثر استخداماً لاستيفاء احتياجات الأفراد إلى الاستقلال. فكل عملية اختيار حقيقية تُطرح على الفرد وتنتهي بقيامه –حقاً- بالاختيار، تقوم بتأكيد قيمة داخلية فيه، ترفع من مدى استقلاله، وتستوفي حاجة الاستقلال الأساسية لديه.
تأكيد القيم الداخلية في الاختيار يأتي من حقيقة أن الاختيار بين أمرين هو ببساطة تفضيل لأحدهما على الآخر. وهذا التفضيل، إن كان يعود لأسباب داخلية، يرسخ جانباً من هوية الفرد ويرسم ملامحه الشخصية. الاحتكام إلى معايير ذاتية في الاختيار هو علامة على استقلال عال، ومع كل اختيار حقيقي ناجح، يرتفع احتكام الفرد إلى ذاته (لاتضاح صورتها لديه)، ومن ذلك يرتفع استقلاله.
وهم الاختيار
في مثال السائق أعلاه، كذلك في المثال مع معلمتي، كان يتم توفير الخيار لي، لكن وجود الاختيار في الحالتين لم يستوف حاجتي إلى الاستقلال. لم؟
لأنه ببساطة خيار وهمي!!
عندما أقوم بتخييرك: هل تريد ركوب سيارة أجرة صفراء أم سيارة أجرة حمراء، وأنت لا تريد ركوب سيارة أجرة في المقام الأول، ما قيمة هذا الاختيار؟
يجب أن نفرق بين الاختيار كحدث في البيئة والاختيار كتجربة شخصية. ففي الظاهر هما الأمر ذاته، لكن في الحقيقة هما أمران مختلفان للغاية. تخيير الطلاب بين كتابة مقال عن أهمية الموز أو مقال عن أضرار الليمون لن يستوفي حاجة الاستقلال ولن يرفع من دافع الفعل. لأن الخيار في هذه الحالة هو فقط حدث في البيئة وليس بتجربة شخصية. لا أحد من الطلاب يرغب حقاً بكتابة مقال عن الموز أو الليمون، الأكثرية لا ترغب حتى بكتابة مقال، وهنالك قلة ممن يرغبون بالكتابة، لكن عن أمور تعنيهم. خيار يلامس اهتمامات الطلاب كـ " اختر بين عدم كتابة مقالة، أو كتابة مقال عن أمر يهمك، أو كتابة مقال عن الموز" كان ليكون خياراً حقيقياً للطلاب، أي كان ليستوفي الحاجة إلى الاستقلال لديهم.
لكن بالطبع، حتى لو كان أحد الخيارات يصف ما يريده الشخص، إحساس الإلزام سيضر بحس الاستقلال، وهذا يقودنا إلى المحدد الثالث للاستقلال.
محددات الاستقلال III: الطوع
"أرغب بقراءة كتاب.", فذهبت إلى مكتبتي، أمسكت كتاباً أثار اهتمامي، استلقيت على الأريكة، وانهمكت في القراءة حتى انتهيت منه.
"سيكون من المنتج للغاية لو قمت بتعلم الكثير هكذا بشكل يومي، وأنا أحب القراءة عموماً، فلم لا أخصص جزءاً من وقتي للقراءة؟"
*بعد نصف ساعة*
"خرجت أخيراً بخطة يومية جيدة. وفقاً لها، يجب علي في كل يوم أن أقرأ لساعتين على الأقل."
لكن مضى الأسبوع ولم أفعل أياً من هذا. فما الذي جعلني أقضي 7 ساعات على كتاب في ذلك اليوم، لكن لم يجعلني أقرأ كتاباً لا يقل عنه تشويقاً في اليوم الذي تبعه؟ ما الذي اختلف؟
الذي اختلف، ببساطة، هو تحول الأمر من "أرغب" إلى "يجب". أمر أدى إلى انهيار في مدى استيفاء الفعل لحاجة الاستقلال لدي، ونتيجة لذلك، انخفاض في دافعي للقيام بالأمر.
الطوع هو الركن الثالث من أركان الاستقلال، وهو الإرادة الذاتية الغير محكومة بالضغوطات لفعل شيء.
الطوع يتعلق بالموقف الذاتي. عندما أقوم بتفسير الفعل كأمر أنا مرغمة عليه، فإن الدافع إلى القيام به سينخفض. بالمقابل، لو نظرت إلى الفعل –ذاته- كأمر أستطيع القيام به أو عدم القيام به، ثم اخترت القيام به لأني أرغب بذلك (مثلاً بتذكير نفسي كم هو مسل، أو بتأمل الأمور الجيدة التي ستحصل لو قمت به، دون ضغط على نفسي)، فإن الدافع إلى الفعل سيرتفع لكونه أصبح يستوفي حاجة الاستقلال لدي.
الطوع، الإحساس بالاختيار، والموضع المشاهد للسببية هم المحددات الثلاثة للاستقلال. تكاملهم يرسم ملامح هوية الحاجة إلى الاستقلال لدى الإنسان. عندما يستوفي السلوك هذه الأركان، فإنه يستوفي حاجة نفسية أساسية لدينا، وبذلك يكون دافع القيام به –أي السلوك- أكبر. لكن الحاجة إلى الاستقلال ليست الحاجة النفسية الوحيدة، بل هي فقط واحدة من ثلاث. فهنالك، بالإضافة إليها، كل من الحاجة إلى القدرة والحاجة إلى التعلق. الدافع النفسي إلى الفعل يكون في العادة مزيجاً بين اثنين أو أكثر من هذه الحاجات.
قدرة
"نعم، نحن نقدر!"
أستيقظ في منتصف الليل، أذهب إلى غرفة الألعاب، أقوم بتشغيل Super Smash Bros، ولا أتوقف عن صقل مهارتي في التفادي حتى أشعر بطلوع الفجر. فأعود لغرفة النوم وأنا أردد "لم؟!"
أعني... ما الذي كنت أفعله؟ لم قضيت 4 ساعات من حياتي على صقل مهارة هامشية في لعبة هامشية؟!
لكن تلك التساؤلات تتلاشى عندما أتخيل اللحظة التي سأستطيع فيها هزيمة الوغد (^&%), بعد معركة ملحمية أوظف فيها جميع مهاراتي. فتغمرني عند التفكير في الأمر نشوة غامضة، مخبرةً إياي عن حاجة نفسية أساسية لدى الإنسان، وهي الحاجة إلى القدرة.
نحن جميعاً نحتاج إلى القدرة. وأعني بالحاجة إلى القدرة الحاجة إلى التعامل بفعالية مع البيئة، واستخدام وتنمية مهاراتنا، مواهبنا، وقدراتنا بشكل فعال. أنا أستوفي هذه الحاجة عندما أواجه تحدياً يتطلب مني توظيف إحدى مهاراتي، أضعه نصب اهتمامي وأكرس له تركيزي، أتغلب عليه وأتقدم إلى الأمام، تصبح مهارتي التي استخدمتها أفضل، فأشعر بالرضى أو حتى بالسعادة. هذه الحاجة جوهرية للنفس ومتجذرة فيها، وهي الحاجة النفسية الثانية وفق نظرية تحديد الذات.
أركان الحاجة إلى القدرة
اركان الحاجة إلى القدرة هي الأمور التي يدعم توفرها في البيئة أو الشخص نمو هذه الحاجة وإمكانية استيفائها بشكل فعال. عند وجود اختلال في أي من هذه الأركان، فإن الدوافع القائمة على الحاجة إلى القدرة ستضمر، كذلك فإن النفس ستعتل وسيظهر عليها سلوك تجنبي.
التحدي والـ flow
أول وأهم أركان الحاجة إلى القدرة هو كون تقديم البيئة أو النشاط للتحدي. التحدي يتحقق في اختبار النشاط لمهارة، موهبة، أو قدرة الشخص، وتنميته له بشكل فعال. فمثلاً، عندما تقوم بلعب الشطرنج مع صديقك المقارب لك في المستوى، أنت توظف مهاراتك في التحليل الاستراتيجي لوضع خطة تهزمه بها، ومع استخدامك لهذه المهارة، هي تنمو مشبعةً معها حاجتك إلى القدرة.
عندما نقيم النشاطات من حيث التحدي الذي توفره، فإنها لا تخرج عن ثلاثة أصناف: صعبة للغاية، سهلة للغاية، أو في تيار الصعوبة الملائمة.
النشاطات الصعبة هي التي تتطلب مهارات تفوق التي يمتلكها الشخص، ونتيجة لذلك، فإنها تولد له القلق أو تجعله تحت الـ (stress). ممارس النشاط الصعب للغاية لا يتسلى به، كذلك فإن المهارات لا تنموا بشكل فعال أثناء ممارسته.
بالطبع فإن الأمر يختلف من شخص لآخر، وحدود "الصعب للغاية" نسبية. لكن سؤال جيد لتحديد مدى صعوبة النشاط هو "دون تدخل خارجي، هل لديك أمل في الفوز؟"
إن كان الأمل –الموضوعي- موجوداً، فإن الأمر سيعود إلى مدى محبة الشخص للتحديات الصعبة، لكن التحدي في هذه الحالة سيكون منتمياً إلى تيار الصعوبة الملائمة، في الجانب العلوي منه بالتحديد.
مثال على النشاط الصعب هو أن تضع شخص يلعب الشطرنج لأول مرة في حياته في مباراة ضد بطل العالم، أو بشكل أعم، أن تضع شخص بالكاد يعرف التحكم في لعبة معينة في مباراة ضد لاعب محترف. هو سيكره اللعبة، أو على الأقل، لن يشعر بالسعادة أو بأن مهاراته يتم تحديها أو أياً من ذلك.
النشاطات السهلة هي التي تتطلب مهارة معينة تمتلكها، لكنها لا تتطلب الكثير منها. هي التي لا تحتاج إلى تركيزك، لا تمتحنك، لا تنمي مهاراتك، واحتمال تخطيك لها يقارب الـ 100%. النشاطات السهلة، إجمالاً، لا تستوفي الحاجة إلى القدرة، وستقود ممارسها إلى مشاعر الملل في حال عدم وجود دافع آخر في المعادلة.
أحياناً يتسلى البعض عندما يواجهون تحديات سهلة، لكن تلك التسلية –في العادة- لا تتعلق باستيفاء الحاجة إلى القدرة بقدر ما تتعلق بأمور اجتماعية أو حاجات مكتسبة منفصلة. لذا تجب التفرقة بين التسلية المستسقاة من القدرة، والتسلية المأخوذة من الأمور الأخرى. عندما اقوم بهزيمة كال –صديقتي- في Super Smash Bros بسهولة لأنظر إليها وأضحك، فالتسلية هنا هي من صنف مختلف لا يتعلق بأي شكل بحاجتي إلى القدرة.
تيار الصعوبة الملائمة يتحقق عندما يكون التحدي ملائماً لمستوى المهارة، ويقود إلى حالة نفسية اسمها الـ flow. الـ flow هو حالة من التركيز تتضمن انهماكا كلياً في النشاط يغطي كافة جوانب الإدراك، تمتاز بكونها تعود بكمية كبيرة من "التسلية" إلى من هو فيها، فتدفعه إلى تكرار النشاط مرة تلو الأخرى. هي تتحقق عندما يتم استيفاء كافة أركان الحاجة إلى القدرة، لاسيما ركن ملائمة التحدي.
هنالك حالة تتساوى فيها المهارة مع الصعوبة لكن لا يتم فيها تحقيق الـ flow, وهي عندما يكون كلاهما ضئيلان أو حتى معدومان. ففي هذه الحالة يكون التعلق بالنشاط محدوداً للغاية، بحيث يكون موقف الشخص هو عدم الاكتراث بالفوز أو الخسارة، ويكون دافعه للاستمرار بممارسة النشاط ضئيلاً. هذه الحالة فقط مبدئية (تحصل مع النشاطات التي تمارسها لأول مرة)، إذ مع الاستمرار بممارسة النشاط، سيصل الشخص إلى عتبة معينة في المهارة والتحدي يبدأ اكتراثه بالنشاط فيها بالتشكل. مشكلة عدم الاكتراث هذه بالمناسبة هي أحد أكبر التحديات التي يمكن أن يواجهها مصمم الألعاب، إذ كيف يستطيع جعل اللاعب يستثمر ما يكفي من الوقت ليبدأ بالاكتراث باللعبة؟
الـ feedback
تلعب اللعبة، تستمر بلعبها ويتحسن مستواك مع استمرارك باللعب. بعد أشهر من اللعب، تعود لخصم واجهته في أيامك الأولى وأنهكك، لتهزمه الآن بسهولة صادمة. تقف مبهوتاً، عاجزاً عن استيعاب الفارق بين مستواك الحالي ومستواك حينها. نعم، لقد أصبحت أفضل، وهذه هي طريقة اللعبة في إخبارك ذلك.
أياً كان نشاطك، الفيدباك هو ركن مهم للغاية لحاجتك إلى القدرة. فمن خلاله، أنت تعرف مستواك الحالي، مستواك السابق، والفارق بينهما للجهد الذي بذلته. تستطيع من خلاله تقدير كم ستتحسن في المستقبل، مما يدفعك إلى الاستمرار في النشاط بل والتشبث بما استثمرته حتى الآن فيه.
الفيدباك قد يكون ببساطة الصوت الذي يخرج من الآلة الموسيقية، وقد يتمثل في إحصاءات معقدة تصف تطور أسلوب لعبك في لعبة معينة. انطباع الجمهور عن لوحاتك التي ترسمها هو كذلك فيدباك. ببساطة، كل ما يخبرك شيء عن أدائك الحالي أو السابق هو فيدباك، وهو مهم لحاجتك إلى القدرة.
التنظيم
التنظيم في النشاط أو في البيئة الحاوية له هو ركن مهم للغاية من أركان الحاجة إلى القدرة. النشاط المنظم هو النشاط الذي تعرف فيه ماذا تريد أن تكون أو يكون لديك مثال فيه على ذلك، ويكون لديك طريق واضح يوصلك إلى ما تسعى إليه. التنظيم يزداد عندما تعرف –بتحديد- ما هي المهارات أو القدرات التي تحتاج إلى تنميتها كي تصل إلى وجهتك، وهكذا.
بيئة منظمة بشكل أكبر هي بيئة داعمة للحاجة إلى القدرة. فكيف تصل إلى ما تريد الوصول إليه إن لم تكن تعرف الطريق؟
احتمال الفشل
البعض منا يستطيعون الموت أمام أحد زعماء Dark Souls لأكثر من 50 مرة، ثم يعودون إليه بعد ذلك بحماسة آملين في هزيمته. الغير؟ ربما يستطيعون فقط الموت لمرتين قبل أن يقعوا في اليأس ويركنوا اللعبة جانباً. قدراتنا على احتمال الفشل تتفاوت. والقدرة على احتمال الفشل هي أحد أركان الحاجة إلى القدرة.
البيئات والنشاطات التي تهون من الفشل (أو حتى تنظر إليه بإيجابية) هي بيئات داعمة للحاجة إلى القدرة. تفسير الفشل كوسيلة للتعلم واستخلاص التجارب، تحليل أسباب الفشل وتطوير جوانب النقص تبعاً لذلك، فلسفات وأساليب كهذه تدعم الحاجة إلى القدرة وتقوي بذلك الدافع إلى فعل النشاطات القائمة عليها. بالمقابل، المعاقبة على الفشل، الخوف منه، أو ربطه بتقدير الذات، يقومون بجعل الشخص ينتهج موقفاً عاماً متجنباً للتحدي، أمر يضر للغاية بحاجته إلى القدرة وبالدوافع المستمدة منها, بل وبالنفس عموماً (لعدم استيفاء حاجة جوهرية فيها).
ببساطة، عندما تكون نسبة فشلك هي 50%, فأنت تقوم بعمل رائع، لأنك تمضي في تيار الصعوبة الملائمة. لذا لا تلم نفسك على عدم فوزك في كل مرة.
تعلق
"أنا أحبك"
نحن نحتاج إلى الانتماء. نحتاج إلى أن نُحِب وأن نُحَب، نحتاج إلى وجود كيانات ننتمي إليها وتمثلنا، نحتاج إلى التفاعل مع الغير، نحتاج إلى دفء العلاقات القريبة، ونحتاج إلى أن يتم فهمنا، إعطاؤنا قيمة، الاكتراث بنا وتقبلنا لما نحن عليه. نحن نحتاج لأن يكون جميع ذلك ثنائياً، أي أن يرغب الآخرون كذلك بأن نفهمهم ونحبهم ونتعلق بهم. هذا الاحتياج لا يشمل فقط الأفراد، بل هو يمتد إلى الجماعات وكافة التراكيب الاجتماعية. هذه الحاجة هي الحاجة النفسية الثالثة للإنسان وفق نظرية تحديد الذات، الحاجة إلى التعلق.
الحاجة إلى التعلق هي الحاجة إلى وجود ارتباط عاطفي يقرنك بشخص، مجموعة، أو أي كيان قادر على التفاعل عاطفياً. هذه الحاجة، كغيرها من الحاجات النفسية، جوهرية للذات ومتجذرة فيها. بالطبع، ليست جميع العلاقات أو الارتباطات العاطفية تستوفي هذه الحاجة. بل في الحقيقة، العلاقات التي تستوفي هذه الحاجة لدى الإنسان تكون في العادة محدودة للغاية، لكونها بطبيعتها تستنزف الكثير من الوقت والموارد الذهنية والعاطفية. العلاقات التي تستوفي هذه الحاجة يجب أن تكون مستوفية لستة شروط: الاكتراث، الاستلطاف، القيمة، التقبل، الحقيقية، والمبادلة. عند وجود اعتلال في أي من هذه الشروط، فإن استيفاء العلاقة لهذه الحاجة سيكون محدوداً بقدر الخلل. فليس من الغريب أن يكون الإنسان وحيداً حتى مع وجود الكثير من العلاقات في حياته، إذ أن ذلك يحصل عندما لا تستوفي أي من علاقاته هذه الشروط.
الاكتراث
تحدثت عن الاكتراث في مقال آخر. لكن ببساطة، عندما تكترث بأحدهم فأنت تمتلك تقمصاً وجدانياً كبيراً تجاهه، أي أنك تفرح لفرحه، تحزن لحزنه، تستاء لأجله، تهتم بجعله في حال أفضل. والأهم هو أن هذه المشاعر تحكم سلوكك وتحركه.
الاستلطاف
عندما تستلطف أحدهم، فأنت تشعر بالانجذاب إليه. أي أنك ترى الأمور الجيدة فيه، تقدرها، وتتسلى بها.
هنالك معايير، أصناف، ومسببات كثيرة للاستلطاف، من ضمنها مثلاً تقدير المظهر أو تقدير الشخص أو جانب منهما (بغض النظر عن السبب). لكن بشكل عام، عندما تشعر بالانجذاب إلى أحدهم، تستمتع بوقتك الذي تقضيه معه، وتتطلع إلى قضاء المزيد من الأوقات بجانبه واستكشاف المزيد منه، فأنت تستلطفه.
القيمة
لكل شخص تعرفه، هنالك قيمة معينة في قلبك مقترنة به. قيمة الشخص (بالنسبة لك) تعتمد على الكثير من المحددات والعوامل، كحالتيه المادية والاجتماعية، شخصيته، مدى استلطافك له، مدى اكتراثك به، مدى تقبلك له، مدى التقارب الثقافي بينكما، كمية الفرص التي يوفرها وجوده لك، مدى قربه منك، وغيرها الكثير..
هذه القيمة، كما تتحدد من الاكتراث والاستلطاف والتقبل، هي تؤثر عليهم. أنت تكترث بشكل أكبر بمن يمتلك قيمة عالية لديك، أنت مستعد لتقبل جانب معين في شخص إن كانت قيمته لديك عالية بما يكفي. وهكذا.
التقبل
تقبلك لشخص هو معرفتك لما هو عليه، ورضاك عنه وعن هيئاته المادية، الاجتماعية، الشخصية، والفكرية الحالية. عندما تتقبل شخصاً ما، فإن اكتراثك به، قيمته لديك، واستلطافك له لا يكونون محكومين بمعيار أو بهيئة معينة تحاول تشكيله عليها، وإنما بما هو عليه حالياً. المحبة المشروطة لا تستوفي الحاجة إلى التعلق، وهي تقود إلى علاقة غير صحية أبداً.
الحقيقية
"أنت لا تحبني، أنت تحب قناعاً أرتديه." قالتها لي لتغرقني في بحر من التساؤلات والشكوك. فمن تكون هي حقاً؟ ولم هي قادرة على تشكيل هذا القناع الجميل؟
وقفت صامتاً لدقائق وهي تنظر إلى بقلق، وأخيراً نطقت: "نعم، أنا أحب القناع الذي ترتدينه. لكني كذلك أحب الوعي الذي قام بنسج هذا القناع."
هل الشخص الذي تحبه حقيقي أم مصطنع؟ هل صديقك يريك فقط جانباً منه، أم أنك تعرفه كما هو؟
الحقيقية في العلاقة هي ركن أساسي لاستيفائها التعلق، فالوعي لا يتعلق بما يشعر أنه وهم.
لكن بالمقابل، الأقنعة تخبر الكثير عن مرتديها، بل هي تخبر عن حقائق لا يدركها ربما حتى صاحب القناع ومن يرى وجهه. فمن تحب أنت؟ القناع أم مرتديه؟
المبادلة
ببساطة، استيفائي للشروط أعلاه لوحدي لا يكفي، واستيفاؤك أنت لها لوحدك كذلك لا يكفي. كي تكون العلاقة مستوفية لحاجة التعلق، يجب أن يكون تحقيق شروطها متبادلاً.
هذه الشروط الستة لا تحتاج لأن تتحقق بشكل تام كي تستوفي العلاقة حاجة التعلق، بل الأمر أقرب إلى مقياس أو قيمة مستمرة، كلما استوفي أحد هذه الشروط بشكل أكبر، كلما كانت العلاقة أكثر استيفاءاً للحاجة. توظف الألعاب الكثير من الأساليب لاستيفاء هذه الشروط في علاقاتك بشخصياتها أو تجاوزها، مدى إتقان اللعبة
-القصصية- لأساليب تحقيق هذه الشروط هو مدى إتقانها لطرائق ربطك بالعالم وشخصياته.
علاقات التبادل والعلاقات المجتمعية
في محيطك المادي، العلاقات لا تخرج عن كونها إحدى ثلاث: علاقات مجتمعية، علاقات تبادل، وعلاقات مختلطة.
العلاقات المجتمعية هي العلاقات التي تستوفي الشروط الستة للتعلق إلى حد معين، وبالتالي تستوفي هذه الحاجة. كعلاقتك بمن تحب، علاقتك بصديق قريب، أو علاقتك بوالديك، اطفالك، أو أسرتك القريبة.
العلاقات التبادلية هي العلاقات التي لا تريد ولا تحاول استيفاء أي من هذه الشروط، كعلاقات العمل أو العلاقات العامة والرسمية مثلاً. هذه العلاقات لا تشبع حاجتك إلى التعلق, فمن الممكن أن يشعر الشخص بالوحدة رغم كونه محاطاً بالكثير من الأشخاص, إن كانت جميع علاقاته من هذا الصنف.
العلاقات المختلطة هي التي تظهر جوانباً من العلاقات المجتمعية، لكنها تظل ذات طبيعة عامة، أو العكس. كعلاقة العمل ذات البعد العاطفي، الصداقة السطحية، أو العلاقة بالخصم، المنافس، أو الشخص الذي تعرفه بشكل سطحي، إن أظهر فيها أحد الطرفين أو كلاهما اكتراثاً أو استلطافاً، وما إلى ذلك.
كيف تترابط هذه الحاجات؟
هنالك عدة نظريات تحاول نمذجة الترابط بين الحاجات في نظرية تحديد الذات، أشهرها ربما هو نموذج كونيل وسكينر. وفق هذا النموذج، النشاط يتمثل كفكرة تتم معالجتها من قبل هذه الحاجات الثلاث، لتخرج كل واحدة منها بقيمة ترتبط بمدى استيفاء الفكرة لها.
في حالة التعلق، القيمة المخرجة هي الالتزام. في حالة الاستقلال، القيمة المخرجة كذلك اسمها الاستقلال. وفي حالة القدرة، القيمة المخرجة تسمى التركيب (أو التنظيم). مجموع هذه القيم المخرجة هو قيمة اسمها الترابط، وهي تعمل كمحدد أساسي للمشاعر اللحظية. المشاعر تعمل كقناة تربط بين الحاجات والوحدات الإدراكية من جهة، والسلوك من جهة أخرى.
بالطبع، فإن الحاجات النفسية هي ليست جميع الحاجات، وإن كانت، بجانب الفيسيولوجية، هي الأكثر جوهرية. الصنف الثالث من الحاجات هو الحاجات المكتسبة.
الحاجات المكتسبة
الصنف الثالث من الاحتياجات الإنسانية. وهي الحاجات التي ليست جزءاً من النفس، وإنما يقوم الإنسان بتعلمها أو اكتسابها من بيئته. هي إجمالاً تعمل كغطاء لحاجات أكثر جوهرية، بحيث يؤدي استيفاءها بشكل غير مباشر إلى استيفاء حاجات نفسية أو فيسيولوجية. لكن لمدى "عدم مباشرة الرابط" بين هذه الاحتياجات وبين الاحتياجات البدائية، فإن الحديث عنها وتصنيفها بشكل منفصل غدا أمراً مهماً خلال العقود الأخيرة. هي تنقسم إلى قسمين: أشباه الحاجات، والحاجات الاجتماعية.
أشباه الحاجات
أشباه الحاجات هي حاجات تتولد من الحالة: الحاجة للمال أمام البائع في المتجر، الحاجة لتقدير الذات عند التعرض للرفض، الحاجة إلى كوب من القهوة عند قراءة كتاب.
كيف تتشابه مع الحاجات، ولم هي ليست بحاجات؟
هي تتشابه مع الحاجات في كيفية تأثيرها على التفكير، الإحساس، والسلوك.
إلا أنها تتولد من مطالب أو ضغوطات حينية، فهنالك حالة خارجية مولدة لها. وعيك ليس –بشكل فطري- في تفكير مستمر بالمال، لكن الحاجة إلى المال ستتولد عندما ترى ما تريد شراءه في المتجر. ما إن تخرج من المتجر وفي يدك ما اشتريته، حاجتك إلى المال ستكون قد تلاشت حتى مجيء حالة أخرى. هي ليست بشيء تحتاج إليه كبشري لتكون حياً أو لتنمو أو لتكون في حال جيد. هي تتولد كردة فعل على حالة محدثة من البيئة. يجب عدم الخلط بين الحاجة الحقيقية إلى الطعام وبين شبه الحاجة إلى المال الذي ستشتريه به.
الحاجات الاجتماعية
هي حاجات يكتسبها الإنسان عن طريق الخبرة، النمو، والتواصل. الإنسان، وفق الأورغانسمية، هو في تفاعل مستمر مع بيئته. أفكاره، مبادئه، مهاراته، وأساليبه الحياتية هي في تبدل مستمر لمواكبة التغيرات في البيئة. لكن بالإضافة إلى ذلك، الحاجات الاجتماعية للإنسان هي كذلك في تغير مستمر يزامن البيئة. ففي تجربة قام بها باحثون على 78 طفل بعمر 5 سنوات، لوحظ بعد أن بلغ جميعهم ال 31 أن فقط القلة منهم هم من حافظوا على احتياجاتهم الاجتماعية التي اكتسبوها في الطفولة. الحاجات الاجتماعية يمكن اكتسابها من البيئة، طبيعة العمل، الأفكار، ومن العلاقات.
كيف تدفع الحاجات الاجتماعية إلى إحداث السلوك؟
بخلاف الحاجات النفسية والفيسيولوجية التي تتسم بالاستباقية، الحاجات الاجتماعية تفاعلية بطبيعته. هنالك مجموعة من المحفزات لكل حاجة اجتماعية، ما إن يتعرض صاحب الحاجة الاجتماعية إلى أحد هذه المحفزات، إلا وسترتفع الحاجة لديه، محركة بذلك دوافعه.
الواعي بطبيعته ميال إلى البيئات ذات العدد الأكبر من المحفزات لحاجاته الاجتماعية. فمثلاً، عندما يمتلك أحدهم الحاجة إلى الإنجاز، فإنه سيتجنب البيئات الغير عملية أو البيئات التي تتسم بالركود، وسيشعر بالانتماء في البيئات المنتجة المحفزة لهذه الحاجة لديه.
أمثلة على الحاجات الاجتماعية
الحاجة إلى الإنجاز
هي الحاجة إلى تحقيق نتيجة فوق المتوسطة وفقاً لمعيار للامتياز. ردود أفعال ممتلكي الحاجة إلى الإنجاز، عند مواجهة معيار للامتياز، عادة وبشكل مجرد، تميل إلى المقاربة. بالمقابل، اصحاب الحاجة المتدنية إلى الإنجاز سيبتعدون عادة عن الاحتكام إلى معايير الامتياز.
الحاجة إلى القوة
هي الحاجة إلى جعل العالمين الفيزيائي والاجتماعي ينصاعان إلى تصور الشخص أو خططه. المحتاجون إلى القوة يرغبون بالتأثير في الغير، تغييرهم، والتحكم بكل من أفكارهم وأفعالهم. هذه الحاجة تمتد إلى الرغبة بالسيطرة على المجموعات، أو ربما حتى العالم.
التعديل الأخير: