Avicenna
φιλόσοφος
فمنذ أيام سلفنا كان للعلم باب يُطرق من كل طالب ويُفتح من كل خبير، حتى صار درباً مشى عليه من أراد الخير لدنياه واخرته. كان ذلك العلم محصوراً بين الطالب والخبير حتى وجد فلاسفة اليونان الطريق لتوضيح فكرهم للعامة وادخالهم دور العلم حتى يفهموا ما كان محرماً عليهم وفي باب التقدير على خير العباد في زمانهم. حارب أصحاب القامات وسماسرة الدين هذه المدارس باسم الله وقالوا ان العلم لا يعرفه الا صاحبه. وهكذا ظل الناس منتقلين بين العلم والجهل.. وفي ربوعنا اخذ العلماء ورجال الدين طريق الفلاسفة وصاروا يؤسسون مدارس يمنحون فيها اجازات ووصائف تُعلق على صدر حاملها لتجعل منه جديراً بالحكم وواسعاً بالكلمة. اغلب هذه المؤسسات كانت تُدار على مد يد المعرفة وانشاء الأفكار. حيث تكون لابن سينا مدرسته، وللغزالي مدرسته، وللفارابي مدرسته، وهكذا.. وكمثل أيام اليونان، كانت المنافسة بين هذه المدارس شديدة ودافعة لحب الاستمرار والتقدم في فنون المناظرة والكلام. وهنا صار عندنا طُرقُ تعليم غير مركزية تُدار على أساس فكر بدأ به مؤسس وقام عليه تلامذته. تُربط هذه الأفكار بالمناظرة الاكاديمية والكتب النقدية حتى تعتق من كل شائب ويكون لدينا محصلة "مقطرة" من العلم الخام.
في بلاد الغرب، كانت الطريق أكثر اعوجاجاً لاحتكار رجال الدين العلم على أنفسهم حتى يبقى الفلاح فلاحاً ولا يطمع الفقير في أموال الغني. هم كانوا يخافون ضعف شوكة المتعلم إذا نشر علمه فيكون خسر سلاحه الوحيد وافنى من قيمته. حاش ان نقول ان أصل الشر فيهم من ذلك الفكر، فحتى عند العرب كان الناس يرون ان للعلم رجالاته وليس كل من قرأ الكتاب عرف الكلام. هذا النقد للتعليم الحر صحيح في مجمله، لكن احتكار العلم ليس المقصود منه. المشكلة كانت في مفارقة تاريخية جهل فيها المتعلمون الهدف من علمهم حتى صار البعض يرى ان العلم في الدين للأخرة وما عدا ذلك فترهات لا قيمة لها في الحقيقة (والكلام فيها يكون زندقة وتركاً لفكر العامة واصولهم الأخلاقية). هذا التقليل من قيمة الفكر لم يكن عند الكنيسة فحسب، بل هو أصل بشري قُتل على أثره أمثال سقراط في واحدة من الدويلات الأكثر حرية وحباً للعلم في ذلك الوقت. لذلك نرى ان العالم يحب إبقاء العلم لنفسه، والجاهل يرى ان العلم محض زندقة والطريق لن يتغير عن كونه طريق ظلال لا خير فيه.
بعد عقود من زمن الثورات صار للعلم جمالية قيام الحضارة ولم يعد محرماً مثلما كان، بل صار الحرام هو ان تجهل معارف دنياك وتبقى بذلك قابلاً. وبعد اكتشاف موجة العلماء تلك لحقول المعرفة التي دفنتها اليونان والعرب، قاموا بالبناء ونشر المعارف وفق ما يسمونه بال “اختراع" فنكون وجدنا الخطوة الثانية لتعميم العلم والتحسين من سمعته بين العامة ممن جهل.
وبعد قيام الثورة الصناعية وما بعدها من تطورات معرفية وفكرية، لم يعد العالَم في حاجة للعبيد أصحاب العضلات، ولا الفلاح المسكين وما عنده من دواب، صار العالم محتاجاً لنوع اخر من العبيد. عبيد اذكى وأقدر على مجاراة نواحي العِلم الذي جاء بقطع هندسية في حاجة للصيانة، ومبادئ طبية مجمع عليها في حاجة للممارسة، ومقومات فكرية لازالت تحتاج الوسام المقلد من قبل صروح العلم تلك (مثل العلوم الطبيعية، والفلسفة، والعلوم الإلهية). انتشرت هذه الثقافة حتى عادت فاتحة معها يد التطور لبلاد الشرق جاعلة مما مر عليهم محض غفلة وقلة فهم. صار المتعلم يرى نفسه وكان الله لم يهد غير، او وكان رحمته لم تنل سواه..
ونحن هنا نقف منبهين (كالعادة بعد كل درس تاريخ) ان التاريخ لا يُقال لمجرد الاعتبار مثلما يُقال لطالبي العلم هذه الأيام. بل هو طريقة للتفكر في كيفية وصول الأمور لما هي عليه الان، ولماذا قد يتم النقد على أساس الواقع الحالي.
فمثلما ترى حفضك الله، نحن الان في زمن لا يكون غيره إذا تعلق الامر بعدد المتعلمين. فليس من الصعب هذه الأيام ان ترى رجلاً متعلماً وحاملاً كثير الاوسمة ورافعاً مختلف الشهادات. بل الغريب ان نرى رجلاً لم يدخل دار علم قط. صار الكل يريد لبنيه ان ينالوا اعلى الشهادات وان يتقلدوا ذلك الوسام "الاجتماعي" الذي كاد يمثل قيمة الانسان وقدرته على البقاء والعيش بكرامة هذه الأيام.
كل هذا ولم أر جيلاً أجهل من هذه الأجيال.. نحن وسعنا نطاق العلم، لكن بذلك نكون قتلنا العباقرة والمفكرين الذين لا يريدون من فكرهم غير استمرار الفكر نفسه. نحن بذلك نقتل اناساً يريدون العلم لا لمرتبة اجتماعية أحبوها، ولا لقامة اقتصادية أرادوا تحصيلها، بل هم ارادوه بغية فيه فحسب!
ليس ذلك شديد القول، بل دور العلم تلك صارت تحتكر العلم مثلما احتكرته الكنيسة أيام عصر الظلمات! فكيف لمفكر بلا أصل أكاديمي ان يُقارن بمفكر تخرج من جامعة الازهر عند الكلام عن الدين.. وكيف لجامعي درس في هارفرد ان يُقارن بتلميذ درس نفس المادة من الكتاب.. هذا النقد والمقال كان من الصعب الخوض فيه لصعوبة تحصيل العلم حتى العقود القليلة الماضية. ولكن نحن الان في زمن يكون فيه الاحتكار اجتماعياً فحسب في اغلب صروح العلم، فاني والله رأيت خيرة المفكرين ممن تركوا دور العلم تلك وتخذوا باب الكتاب طريقاً. ليس ذلك فحسب، بل وقد نرى تسارعاً في تطور المعارف التطبيقية مثل الطب والهندسة إذا كانت الدراسة منهجية واضحة وخالية من ترهات الطرق التي سنتها إدارات تحت اسم التعليم. الطبيب قد يقضي عقداً من حياته في التعلم بينما أمثال ابن سينا وضعوا منهجاً يؤسس الاطباء ببضع سنين. انا لا أقول ان العلم راسخ ثابت لم يتغير من زمن ابن سينا، ولكن على بعض اللوم ان يقال في كمية الساعات التي يضيعها النظام التعليمي في تدريب التلامذة على ان يكونوا لا شيء الا الات تبحث عن المتشابهات حتى يحصلوا على العلامة الكاملة في الاختبار ويحفظوا لمكة هيبتها..
وهنا نأتي لمشكلة أخرى ترسخت في أنظم التعليم، وهذه هي الاختبارات. حيث كان من مفهوم الاختبار الهدف السامي لقياس نسبة استيعاب الطالب ومعرفته بالمادة التي يتم تدريسها. المشكلة ان ذلك الفكر محض كلام فارغ بأصله. فانا لم يمر على درس علم اجتماعي واحد الا وحفظت ما بين جلدتي الكتاب بما في ذلك رقم بعض الصفحات. ألا ان تعال واسأل ابن سينا في ابسط محتويات ذلك الكتاب بعد أسبوعين من اخذ الاختبار تكون سائلته بما لم يعرف..
هذا الامر معتاد على اغلب الطلبة وفي النهاية لن يتذكروا الا ما أرادوا تذكره وأكثروا استخدامه، اوهل نحتاج الاختبار اللحظي حتى نعلمهم ما يريدون استخدامه؟
غير ذلك فهذه الاختبارات تكون الهدف من انهاء الدرس، فيصبح الطالب يأخذ العلم حتى ينهي جميع الاختبارات بعلامة ممتازة وبعدها يكون الامر تجربة من الماضي. قليلون هم الذين يطالعون العلم خارج إطار الاختبارات لعلمهم ان قيمته معدومة إذا كان الهدف هو التحصيل الدراسي.
فهنا لا نعدم حق واهمية الاختبار فحسب، بل نقول ان وضع درجة وعلامة دراسية للتلميذ تقلل من اهتمامه بالجانب المعرفي وتصب مضنا تركيزه على انهاء الدرس بأقل كمية ممكنة من الأخطاء. أي انها تحث الطلبة على ان يدربوا أنفسهم كي لا يحتاجوا للوقوع في الخطأ وهو قلب التعليم..
يرى بعض مفكري الاقتصاد وعلم الاجتماع ان للدراسة الجامعية ثلاثة اهداف ممكنة لا رابع لهما:
فالدراسة اما تكون من اجل نشر العلم. او تكون علامة تجارية لمنتج تجعل منه قابلاً للاستخدام من قبل الشركات (كون ذلك المنتج قد اثبت جدارته وقدرته بالمرور بذلك النظام التعليمي). او تكون مجرد باب اجتماعي راسخ في اذهان العامة وموقعاً إياهم في حلقة اجتماعية مفرغة لا يعرفون الغاية منها (فأرسل ابني للجامعة حتى يحصل على وضيفة ويقوم الموظِف بتوظيفه لان ذلك هو ما يقوم به الموظِفون الاخرون).
ومع ان الحقيقة هي بين هذه الأهداف الثلاث، الا أني اميل الى ان دور العلم هذه بدأت كمصنع بشري للفكر ثم انتقلت للهدف الثالث المتمثل بالانقياد بالقطيع الاجتماعي والنيل من مجموع ما يراه العامة بالتصرف الصحيح..
هذا وقد أمكننا نقد ذلك النظام اياماً وليال، الا ان على المفكر ان يرجع لمقامه ويسأل السؤال الأهم:
في الحقيقة، الفلسفة وُجدت لتبيين المشاكل والنقد وليس علينا إيجاد الحلول (&)
لكن المشكلة هنا هي أكبر من رجل يحمل اسم ابن سينا يجلس على مكتبه واضعاً حلولاً نظرية على موقع العاب.. مثل هذه الحلول حتى وان تم تطبيقها فهي لن تجاري النظام الحالي المستمر. ولن اضع أي لوم على المشاركين بذلك النظام لأنهم لا يريدون الا الخير في النهاية وكثير منهم قد يكون محباً للعلم بطبيعته. فاذا لم أكن قادراً على وضع قيام المهزلة على طالب العلم او الحرفي فعلى من تقع؟
هذا السؤال كاد يقتلني حتى قلت انها لا تقع على أحد، هي ببساطة مجموع التقدم الذي أحرزته البشرية خلال العقود ويكون العائد الأفضل علينا إذا تعاملنا مع المسألة بشكل فردي (وهذا فكر الساحر سنيب كذلك). أي اننا ننظر لهذه المؤسسات وفق تخريج عمال لإتمام أشغال خاصة، وان اردت العلم فيكون متاحاً لك ذلك متى اردت ولن تحتاج للجامعات تلك من الأساس. ففي النهاية حتى كاتب هذا الموضوع مشارك في أنظمة التعليم تلك وقائم عليها قيام الأسد بفرائسها، والتنافس لازال دافعاً لتقدم الكثير عابرين مراحل دراسية ومتحدين أنفسهم بأصعب الدرجات.
لكن علي القول، على الأقل, ان هذا النظام لا يمثل دور العلم باي شكل من الاشكال، وان على الناس التفرقة بين العالم وصاحب الاوسمة..
_____________________
وبما ان الساحر طالت غيبته والجميع اشتاق له، فنشارك بعضاً من قوله في هذه المسألة:
"الجامعات والمجتمعات تخرج عمال، عشان المجتمع يتحرك. النظر لها على انها مؤسسات تخرج عبيد غير مقنع.."
"الحل يكون في مراكز البحث الخاصة بفئة محددة من الناس ممن كانوا مستعدين لصرف وقتهم الخاص على التعلم والاستكشاف بدل السفرات وتذوق الاكلات. اما باقي الناس فمن حق النظام ان يستعملهم لكي يستمر المجتمع في العمل بشكل فعال.. الوضع المشتكى منه موجود في كل حقبة زمنية."
"البشر كانوا يتداوون بالأعشاب ومعظمهم على أساليب بدائية. أي واحد يبغ يصير "عارف" في الطب وضع مليار خط تحت عارف يبدأ من الممارسات الماضية ويترقى في البحث وجمع المعلومات والتجريب يقوم به قلة قليلة من العلماء. ولما يشتغلون على طرحهم لمئات الساعات ويطلع نافع بعدها يأخذه العامة ويكون قيد التنفيذ. غالب البشر كانوا يركبون الاحصنة دون تفكير.. قلة قليلة اشتغلت على أنظمة المواصلات حتى اتتنا منهم السيارات والطائرات.. فكرة ان الكل يصير مبدع ويساهم او ان النظام يصبح منقاد بهدف الابداع والمساهمة الفعالة هذه انساها. الغالبية العظمى تقوم بالتشغيل، قلة قليلة تهتم بالإسهام الجديد"
"غيرك طلاب مبسوطين وبالعكس يبون الأستاذ يقول لهم بالضبط ايش يذاكرون وايش يحذفون من الكتاب (&)"