hits counter

الاكتساب اللغوي | في مفهوم الإدراك

Avicenna

φιλόσοφος
*مقدمة*
----------------------
(ملاحظة-في غاية الأهمية! -: المقال هو نتيجة نقاش دار عن أصل الإدراك وفيه نكتب ما وجدناه في فلسفة القول وحسن مجازه. انصح بقراءة النقاش قبل المقال حتى تفهم أساس المشكلة وعنوان الطرح وعلته.)

نبدأ باسم الله العليم الحكيم والصلاة والسلام على نبيه ورسوله العربي محمد،

ني أسمع من كل مكان صوتاً ينادي لا تفكر.. رجل الدين يقول لا تفكر، بل آمن. ورجل الاقتصاد يقول لا تفكر، بل ادفع. ورجل السياسة يقول لا تفكر، بل نفذ.. ولكن فكر بنفسك وقف على قدميك إني لا أعلمك فلسفة الفلاسفة، ولكني أعلمك كيف تتفلسف"

وبعدُ: فقد برع جنسنا في بناء التعابير واستنتاج المفردات صورياً ولغوياً حتى تحمل هدف ذلك التعبير. ومع أن الهدف من ذلك ليس بثابت، إلا أن التناقض في المفاهيم ومقصود المعنى أدى لمشكلة اسميها " انحسار المفهوم" هنا يبدأ المتكلم باستخدام المعنى اللغوي أو الصوري من دون أن يعرف الأصل التعبيري للأول أو الظاهري للثاني. في تلك الحال نرى ضياع المعنى وتشتت التعاريف، حتى تصبح حقيقة القول أقرب لشرب ماء ساخن في يوم من أيام الصيف. هذه التعابير والمفردات قد تكون أقرب للغة المتكلم في مختلف الشعوب وشتى الحضارات، وهذا لانعدام الأدب اللغوي في الكلام واستمرارية الشعوب في الابتعاد عن النقد اللغوي والفلسفة الكلامية (وما فيهما من تكلف). فترى الناس تستخدم كلام مثل "حب" و "كره" و "غباء" و "ذكاء" من دون أن يدرسوا معنى ذلك الكلام بدقة.

هنا قد يأتيك أي مفكر ويقول بان كل ما قد خفي معناه كانت النتيجة ضعف الأصل فيه. وهنا يحاول المفكر أن يمارس الفلسفة ويأتي بنقد أو أسناد لقول بمعنى التعبير حتى يصلح استخدامه أو يبطل الأصل في معناه عند المبلط فيه. لكن، وبعد حوالي ستة أشهر من البحث في معنى الكلام في اللغة، وصلت إلى نتيجة هي أصعب على مفكر النقد والإسناد من غيره من الفلاسفة. حيث إن بعض الكلام ليس مستوحد المعنى لقلة تمعن الناس فيه، بل لأنه تعبير مكتسب قام المتكلمون بتغيير معناه بناءً على استمرارية النظر فيه. والأكثر تعقيداً هو أن بعض هذه التعابير تشكل نفس النوع من انعدام المعنى في عدة لغات وليست محصورة على لغة بضعف المنتج الفكري كالعربية، أو لضعف البناء الأدبي كأغلب اللغات اللاتينية في الوقت الحالي. والنتيجة هي كلام غير واضح السياق، ومستمر تحديد معناه بصورة غير مبنية على النقد والإسناد، بل على الفلسفة الخالصة. هذا النوع من اصطلاح الكلام قد يسمى بالعائلة المكتسبة، لاكتسابها المعنى مما يضعه المفكر في الكلام وليس لها معناً أصيلا واضح السياق (ولا حتى بشكل نسبي). والمثال المطروح في هذا الموضوع هو الإدراك...

**********************
في بداية القول، لعلي اهدي القارئ مختصراً لأصل المشكلة في معنى الإدراك ومن أين ابتدأ النقاش فيه:

ببساطة، قمت باستخدام كلمة "إدراك" لوصف قدرة الكائن الحي الذهنية وإحاطته بعلم ما يجاوره من أسس للتعبير والتكيف. حيث استخدمت الكلمة لوصف قدرة الدلافين التي تقارن بالبشر احياناً عند النظر للمستوى الفكري (أتمنى أنك أحطت بما قلته في بداية الموضوع، لان دخول الدلافين في الفلسفة قد يكون مثيراً للسخرية من دون دراسة أساس النقاش). وهنا تم انتقاد فكرة استخدام الإدراك لترجمة معنى الذكاء المستخدم لوصف القدرة الفكرية في ذلك السياق. في البداية، نظرت الى الموضوع ببساطة على انه انعدام للمعنى كما هو الحال مع اغلب الكلام النسبي في أي لغة. ولكن بعد دراسة معنى الإدراك، صار من المستحيل أن يكون الضعف في المفهوم ناتجاً عن النسبية في المعنى. المشكلة ببساطة هي أن "الإدراك" فرد من أفراد العائلة المكتسبة في فلسفة الكلام فلا يتضح معناه إلا بوضع أصل استخدامه. وفي هذا الموضوع، لعلي أشير لكيفية تعريف الإدراك من قبل المدرسة الكلاسيكية والمدرسة الحديثة (وبالأخص، أفكار الفيزيائي Roger Penrose). بعدها قد ارجع إلا النقاش عن الدلافين ونعطي ذلك النقاش ختامه ولماذا لم يكن استخدام كلمة الإدراك في محله اللغوي أو حتى الفلسفي آن ذاك. وبعد نهاية موضوع الإدراك, ننهي بخلاصة لمعنى الذكاء في الفلسفة وعلم النفس (هي فرصة حتى يمارس القارئ ما يذكر من فلسفة كلامية عن الإدراك ويدلي برئيه الخاص عن صلاحية استخدام التعبير).

اختيار المفردات:

هنا أشير الى بعض المصطلحات والدلالة من استخدامها (كوني اضطررت الى ابتداع ترجمتي الخاصة للكثير من المصطلحات).

-فلسفة الكلام: هنا لا نشير الى علم الكلام في الفلسفة الإسلامية. اقصد علم المتكلم وسيادة الاصطلاح. هذا القسم شائع في الفلسفة الغربية كفرع من فروع الفلسفة اللغوية.

-المعنى المكتسب: هذه بدعة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وضعت هذه الكلمة حتى أعكس المفارقة بين الكلام النسبي وغيره من الكلام مضمحل الأصل.

الوعي: هذا تعريف غير تقيق لكلمة apperception وهذا لان المفارقة غير موجودة بأصلها الفلسفي بين الادراك الاستنباطي وال perception. لم أرد ابتداع الكثير من الكلام في اللغة فاستخدمت الوعي للمفارقة.

---------------------

ألمعنى النسبي والمعنى المكتسب

المعنى المكتسب والفرق بينه وبين النسبية في الكلام: قد يجرح كلامي كل من درس فلسفة اللغة وتصاوير الكلام، لكن الحقيقة هي أن القسم قد يكون من أضعف أقسام الفلسفة. المشكلة ليست من اللغويين أنفسهم، بل من التشابك في تاريخ الكلمات وتبادل الاصطلاح بين الشعوب. أضف الى هذا أن بعض الكلام لا يحمل نفس المعنى لجميع المتكلمين. هنا جاءت فكرة النسبية في الكلام; حيث يقوم الفلاسفة بوضع حدود مختلفة لمعنى الكلام حتى صار بعضهم يعد الحسن في المعنى نفس القبح فيما يقابله. فلا فرق بين الحرب والسلم، ولا فرق بين الحب والكره، ولا دليل أن الكذب بعيد عن أصل الصدق. لكن لعلنا نترك هذا لموضوع ثان ونسلم ببسيط القول وغالب الرأي في أن بعض الكلام نسبي عموماً. بالنسبة للمعنى المكتسب، فهو كل قول ليس بنسبي الأصل، ولكن اختلف المتكلمون فيما يعنيه حيث يكتسب معنى ما يشار به من قبل المتكلم.

الآن قد تسألني:

-لا أرى الفارق بين الكلام النسبي والمكتسب، فلو كان الاكتساب من غير الكلام فلم لا ندعوه بالنسبي كذلك وننهي المشكلة؟

الإجابة لهذا السؤال هي لانعدام أساس المعنى في الكلام المكتسب. فلو أتينا على كلمة "خير", هنا للكلمة روحاً ثابتة غير قابلة للتغير مهما حاولت، لكن تطبيق المعنى لهذه الكلمة نسبي. حيث قد يكون الخير لك شر لغيرك. أما بالنسبة للكلام المكتسب، فخذ كلمة "إحساس". ما الأصل في كلمة إحساس، هل هي طابع فيزيائي للجسم أم ثبات قويم للروح؟ ما حسن الإحساس وما الذي قد نسمي ما دون ذلك؟ كيف للإحساس أن يكون نسبياً؟ ومع ذلك، بعض الكلام (كالإدراك والذكاء) قد يكون أكثر تعقيداً، ولن ترى المعنى من المفارقة الى بعد ساعات من الجلوس تحت سماء الليل وشرب القليل من الشاي...

---------------------

علم النفس أم الفلسفة

ما هو علم النفس؟

في غالب الأمر، أنت لا تملك الإجابة على هذا السؤال. فتعريف علم النفس امر ليس بمتفق عليه في كتب علم النفس. لكن دعني أضع تعريف أل APA حتى ننتهي من الرسميات:

*علم النفس هو دراسة العقل والتصرفات. يشمل في عمومه كل تطبيق إنساني، من تركيب المخ حتى علاقة الشعوب فيما بينها. من دراسة الأجنة حتى البحث في شؤون كبار السن."

أصل الكلمة إغريقي: psyche ومعناه الحياة أو التنفس و logia ومعناه دراسة الشيء...

شئت أم أبيت، موضوع الأدراك قد يدخلك كباحث في علم النفس والاجتماع. ولعل من درس الطريقة العلمية وأساس نشر البحث يعلم مدى احتقار الفلسفة والعلوم الفيزيائية والحياتية لعلم النفس. مع أن علم النفس ولد وترعرع في أحضان الفلسفة وعلم الأحياء، إلا انه كبر ليكون ثغرة في طريقة البحث العلمي ونتيجةً سطحيةً للطريقة العلمية.

-لماذا يا ابن سينا؟ ما المشكلة في علم النفس والاجتماع؟

علم النفس مبني بشكل جذري على مبدئ علاقة الارتباط. حيث يقوم الباحث بدراسة ظاهرة عن طريق مقارنة متغيرين في الأصل (بثبات أحدهما) حتى نجد العلاقة الممكنة بين هذين المتغيرين. ما أن تجد العلاقة، تصبح النتيجة علماً يتم البحث فيه وتدريسه. ومع أن هذا ليس ببعيد عن الطريقة العلمية، إلا أن بناء فرع علمي مبني على هكذا أساس لهو امر مثير للسخرية. وهنا يأتي علماء النفس ليهشموا عظامك ببحوثهم الدقيقة ويفسرون نتيجتهم الحتمية بالعلاقة السرمدية عند النظر لما يأتون به من نتائج.

في الحقيقة هذه العلاقات الدقيقة هي لا شيء في صروح العلم، فمن السهل أن نجد علاقة بين اكل الموز وقيام الحروب، أو بين ركوب الدراجة واصطياد السمك قبل الظهيرة...

خذ هذا البحث كمثال:

Q1mmTee.jpg

علاقة 99 بالمئة بين اكل البرتقال ونسبة الطلاق في ولاية مين
وهنا أكون أخبرتك بسبب كره المجلس لرئيس الحركة العلمية خلال القرنين السابقين (هذا لان اغلب البحوث المستخدمة في الإعلانات وغرها مما يبنى على تصرف البشر هي منتج من منتجات علم النفس).

-قتلتنا يا ابن سينا، هل نسمع لعلم النفس أم نتركه الآن؟

لاختصرت عليك الطريق لو كنت أدري، دعه يكون نقاشاً بين اللاعبين...

وفقاً لعدم ثبات موقف علم النفس، لعلي أركز على الجانب الفلسفي من الإدراك. (تعديل: علم النفس سيحظى بنصيب الأسد عند ذكر "الذكاء" ومقاييس الفكر في نهاية موضوع الإدراك.)

-يتبع…
 
التعديل الأخير:

Avicenna

φιλόσοφος
اعتذر على التأخير في نشر الموضوع. حيث أنى وعدت بكتابته منذ السنة الماضية. ظننت اني لن احتاج إلا لقراءة كتابين في الفلسفة الحديثة لمفهوم الإدراك والقليل منGoogle . لكن انتهى بي الأمر باحثاً في كتب علم النفس ومكرساً الكثير لكتب الفلسفة الكلاسيكية، أضف الى هذا أن نسيان الكثير من الموقف الفلسفي للإدراك لم يكن محفزاً لمباشرة الكتابة. أستميحكم عذراً في أي تقصير من طرفي; كنت على وشك أن اكتب كل ما قمت بالبحث فيه، لكن لعل الموضوع يصبح أكثر عمقاً واقل مركزية (وممل التدقيق في تسعين صفحة حتى أكون صريحاً معك) فلن اذكر إلا أساس البحث والاستنتاج في نهايته. ارجوا من القارئ أن يسال أي سؤال عن أي شيء ذو علاقة بالموضوع حتى لا يضيع وقت البحث سداً (بالذات لو كان الموضوع متعلقاً بمدارس الإدراك وعلاقته بالإحساس). هذا وأوجب ذكر أن اغلب المراجع (بل كل المراجع عدى بعض كتب ابن خلدون حتى أكون أكثر دقة) هي ليست بعربية. ترجمة الفكر عسيرة على أخيكم، فارجوا أن تسال الإيضاح في مسعى ما كتبنا حيث إني أنا الملام في عسير الفكر وليس الفكر ذاته.
 

سيفروس سنيب

بروفيسور فنون الظلام
اعتذر على التأخير في نشر الموضوع. حيث أنى وعدت بكتابته منذ السنة الماضية. ظننت اني لن احتاج إلا لقراءة كتابين في الفلسفة الحديثة لمفهوم الإدراك والقليل منGoogle . لكن انتهى بي الأمر باحثاً في كتب علم النفس ومكرساً الكثير لكتب الفلسفة الكلاسيكية، أضف الى هذا أن نسيان الكثير من الموقف الفلسفي للإدراك لم يكن محفزاً لمباشرة الكتابة. أستميحكم عذراً في أي تقصير من طرفي; كنت على وشك أن اكتب كل ما قمت بالبحث فيه، لكن لعل الموضوع يصبح أكثر عمقاً واقل مركزية (وممل التدقيق في تسعين صفحة حتى أكون صريحاً معك) فلن اذكر إلا أساس البحث والاستنتاج في نهايته. ارجوا من القارئ أن يسال أي سؤال عن أي شيء ذو علاقة بالموضوع حتى لا يضيع وقت البحث سداً (بالذات لو كان الموضوع متعلقاً بمدارس الإدراك وعلاقته بالإحساس). هذا وأوجب ذكر أن اغلب المراجع (بل كل المراجع عدى بعض كتب ابن خلدون حتى أكون أكثر دقة) هي ليست بعربية. ترجمة الفكر عسيرة على أخيكم، فارجوا أن تسال الإيضاح في مسعى ما كتبنا حيث إني أنا الملام في عسير الفكر وليس الفكر ذاته.

الله بجزاك خير على المجهود الذي تبذله في إعداد المادة.
بإذن الله نشارك بعد القراءة بتروي ... لأن الموضوع
محتاج براد شاهي ونظارة ...

سلمت أناملك والله
 

...

Hardcore Gamer
الله يعطيك العافية يا أستاذ كرم

والنتيجة هي كلام غير واضح السياق، ومستمر تحديد معناه بصورة غير مبنية على النقد والإسناد، بل على الفلسفة الخالصة. هذا النوع من اصطلاح الكلام قد يسمى بالعائلة المكتسبة، لاكتسابها المعنى مما يضعه المفكر في الكلام وليس لها معناً أصيلا واضح السياق (ولا حتى بشكل نسبي)

رائع.. ماتدري قد إيش عالم الأنترنت يحتاج إلى هذي العبارة، حاجة قصوى. أحتاجها أنا بعد
 

Avicenna

φιλόσοφος
*في مفهوم اللإدراك*

الأدراك والمدرسة الكلاسيكية

ملاحظة: (لن أتكلم عن أفكار ما قبل القرن السابع عشر، حيث إن اغلبها مجرد روحانيات وما غير ذلك من المواضع غير المدروسة. لكن أنصحك بالبحث في ذلك التاريخ لو كنت مهتماً بالموضوع بشدة…)

يؤيد أنصار المدرسة التقليدية فكرة أن الإدراك قول مكتسب ويٌقَومون أساسه على انه فاعلية الذات، حيث يقوم الراصد بوضع استنتاج فكري لكل ما هو بعيد عن مضمار الشعور والإحساس. أفضل مثال طرحته المدرسة الكلاسيكية هو تقدير المسافة. حيث يقوم الراصد بوضع قياس ثابت، وهذا القياس يعمل كسجل لحفظ تاريخ الخبرة. كلما قمت باكتساب خبرة أكثر في تحديد وتقدير المسافات، كنت أكثر إدراكا في ذلك المحور. يعتبر ديكارت من كبار الناهضين بهذا الفكر التعريفي للإدراك، يقول ديكارت بان الجسم بعيد عن غايته لإدراك الحقيقة حتى يترك بناء الاستنتاج على إحساسه ويركز على خبرته. هنا يأتيك ديكارت بمثاله المشهور لقطعة الشمع، حيث إن الراصد يجد قطعة الشمع جسماً صلباً بارداً ذو رائحة. إلا أن بوضع النار على تلك الشمعة، تزول بعض تلك الخواص. هنا لا ينكر الراصد وجود الشمعة وأنها هي نفسه الجسم المذاب من قبل النار، هنا "يدرك" الراصد ثبات الجسم بتغير بعض ما فيه من خواص مع أن الحواس قد تأتي بغير ذلك. يقول ديكارت: " أني أدرك بمحض ما في ذهني من قوة الحكم ما كنت احسب أني أراه بعيني"

هنا لم تقم عيناك أو انفك بتعريف ماهية الشمع، بل الاستنتاج البني على الخبرة هو ما قام بذلك.

الآن ارجوا من القارء أن يأتي بكوب شاي أو قهوة ويقرئ التالي بروية:

في عام 1640, خرج ديكارت بتفنيد للفكر الكلاسيكي الذي كان هو نفسه من أعمدته. حيث قال إن المعنى من التفكير هو "إدراك" الوجود وليس العكس. وهنا يأتي بعبارته المشهورة "أنا أفكر، إذا أنا موجود". المشكلة هي انه لم يدرك أن هذا تفنيد للمعنى الكلاسيكي لمفهوم الإدراك. حيث إن الإدراك كان يعرف على انه موقف الذات الصرف، من دون أي علاقة بسببية تلك الذات أو معنى ذلك الوجود الذي يبنى على أساسها. حيث إن الإدراك المحض للشمع وخواصه لذو علاقة بالفكر وهنا ننفي روحانية الإدراك وارتباطه باي حالة خارجة عن الفكر الفيزيائي.

وحتى نوضح الفارق الحاصل في مثال الشمع، دعني أقم بتغيير التصريف الفكري لحالة الإدراك:

عند ملاحظة قطعة الشمع قبل اقتراب النار، تنتج عملية التفكري استنتاجاً بديهيا بخواص تلك المادة (بنائه على مفهوم الاستقبال المبني على الحواس والمرتبط بالجهاز المركزي لمعالجة المعلومات المستقبلة -الدماغ-). قد يرى الفلاسفة انه من البديهي أن تتغير هذه الاستنتاجات وفق اقتراب النار وزوال بعض خواص تلك المادة المعروفة بالشمع، لكن ديكارت رجح في البداية أن إدراك ذات الشيء (الشمع في هذه الحال) تعني برفض تغيير الاستنتاج. بعد قوله بان الإدراك جزء من الفكر، قام ديكارت بوضع الأساس لربط الإدراك بالحس الفكري. حيث قد يكون مجرد استقبال للمعلومات حاله حال صورة ثابتة للمادة، ولكن بتغير المادة تتغير تلك الصورة وفق المعطيات الفكرية. فما دام الشمع معرضاً الى النار، دام التغير في ذلك الإدراك لموافقة الاستنتاج مع حالة المادة. وهنا قد ترى المقاربة مع نظام الاستنباط التي تكلمنا عنه في موضوع الفلسفة.

هذه الفكرة استقبلت بالرفض الشديد من مفكري المنطق وفلاسفة القرن السابع عشر، حيث إن فيها مغالطة في غاية الوضوح (مع أن البعض وضحوا بأن ديكارت كان مقصده غير ذلك). لو كان الإدراك جزئاً من الفكر ويمكن قياسه على أساس الاستنباط فكيف نقوم بشرح مثال الخبرة وما قيمتها في الفكر من أساسه؟

مثال الخبرة هو طريقة جميلة لدعم النظرية الكلاسيكية، حيث تقول النظرية أن الإدراك جزئ من خبرة القياس لدى الراصد، وانه مبني على أساس المنطق البديهي الذي يعني بكمية الرصد. لهذا ترى أن قدرة الطفل على تقدير المسافات ليست كقدرة البالغين. كان هناك الكثير من الناقدين لهذا النقد من قبل الكلاسيكيين ومن أبرزهم جون لوك الذي أكد على أهمية ربط الإدراك بالفكر وعلى أن الخبرة مجرد علاقة ممتثلة بالفكر هي الأخرى فلا حاجة لربطهما معاً.

FTnbga5.jpg

هنا يأتي صنديد التفاضل لايبنتز ليحل المشكلة. لايبنتز لم يرد استخدام مصطلح الفكر للتعبير عن كل هذه التشعبات فجاء بمفارقة استثنائية في قسم الاصطلاح لوضع أساس لما قاله ديكارت والمغايرين، وضع أساس الاحتكام والقول على أن بعض الفكر بعيد عن الإدراك ومبني على الرصد أو الخبرة. وهنا يكون لايبنتز أول من وضع المفارقة بين الوعي والإدراك مشيراً الى أن الوعي هو القدرة الاستنباطية المبنية على الفكر، أما الإدراك فهو قدرة المفكر أو الراصد على ربط الخبرة أو المحدثات بالوعي وإصدار استنتاج مبني على ذلك الرابط.

شهد القرن الثامن والعشرين كماً من كبار المفكرين عبر التاريخ وبعض هؤلاء المفكرين أيدوا فكرة لايبنتز وأبحروا في إيضاحها وبناء السياق المعني في الفلسفة (هذا لان لايبنتز لم يقم بطرح فكره بشكل وأساس فلسفي, انما ركز على الم). بعد وصولي لهذه النتيجة في البحث، ظننت أن قول لايبنتز هو القول الحسن. حيث إن على المتكلم التفرقة بين الأدراك الشعوري (الوعي) والمرتبط بعملية الاستقبال والاستجابة (الفكر الكلاسيكي)، وبين إدراك الخبرة الذي بنى عليه ديكارت.

ولكن كالعادة، السلام من مغايرة الفكر لا يوجد إلا في القبور...

في نهايات القرن الثامن عشر، يشهد التاريخ على شخص سمته بعض كتب التاريخ بعمود الفلسفة الحديثة. فمن غير امانوين كانط قد يهدم أكثر الفكر استقراراً. قام كانط بنقد التفصيل النسبي للإدراك والذي بناه لايبنتز, وقال في ذلك أن الأدراك اصله ليس في الخبرة من الأساس ولا يجب على الفلاسفة إسناد تعريف ليس من اصل القول بشيء. لم ير كانط أن فكرة الوعي امر محتوم وقال في ذلك: أساس القول في أصل المرابطة، فلا يمكن للوعي أن يكون تعاقباً مستمراً للأفكار. على الوعي أن يكون مبنياً على معيار الحيز المكاني، والحيز الزماني، وثبات السببية. فمن غير الممكن اعتماد الفكر سبيلاً للادراك والذي ليس مبنياً على الفكر، بل على الاستقبال المحض ومن دون استباق في رصد ما يُدرك.

إذا كان كلام كانط غير واضحا لك، فما عليك من حرج. اخذ مني البحث في فلسفة كانط وحده شهرين ولا زلت لا أدري ما الذي أراده ذلك الرجل كلامه بالضبط. أعني ان لايبنتز لم يقل بانعدام أصل الفكر في الوعي ولا أدري أن كانت الخبرة قابلة للنقد من السياق الذي اتخذه كانط. في الحقيقة، كبار الفلاسفة استمروا بتبني تعريف لايبنتز للإدراك وأرجح السبب لعدم وضوح ما قاله كانط. لكن بشكل او باخر, كانط يحاول الرجوع لبساطة القول عند ديكارت.

وحتى ننصف أستاذ الفلسفة الحديثة، قام نقده لتعريف لايبنتز بعكس ضعف السياق الفلسفي في علم الاصطلاح. ووضح أن أساس المشكلة في الأصل المعرفي لمعنى الإدراك وليس في إيضاح معنى الكلمة. هذا ترك المجال لبعض رواد العلم في ثورة ما بعد عصر التنوير حتى يبحثوا في أصل الإدراك ويضعوا تعريفهم الخاص لذلك الاصطلاح.

----------------------

بعض رواد المدرسة الحديثة

لو تكلمنا عن أفكار المدرسة الحديثة بشكل عام، فكلها عبارة عن استنتاجات وإعادة تعريف لمعنى الإدراك. ولو أبحرنا فيما قاله كل عالم نفس وفيلسوف فقد ينتهي الأمر بكتابة عدة كتب حتى نوف الموضوع حقه. ولكن دعني أختصر الطريق ولننظر الى أكبر المساهمين في تعريف الإدراك من المدرسة الحديثة. وأفضل ما وجدت هو تعريف ديفد بوم وروجر بينروس (كلاهما فيزيائي من الناحية الأكاديمية).

قام بينروس بوضع بحث شمولي يوضح علاقة الإدراك والاساس الكهروكمي في الفيزياء (QED) وأساس البحث هو بما يسمى بالأنابيب المجهرية. ببساطة شديدة، يقترح بينروس أن الإدراك هو عملية انهيار للاحتمالات، حيث يقوم الراصد بوضع استنتاج مرادف لعملية الرصد الكمي للاحتمالات. وبما أن "الأنابيب المجهرية" مجهرية، فانهيار الاحتمالات شيء متوقع، بل محتم على النظام.

*لن الومك لو رجحت بفراغية هذا الكلام، لكن بينروس جاد للغاية في طرحه وأوجب نقل ما يقول، حتى لو لم أكن أدرى من أي باب آتي كلامه.

ومع أن وضع علاقة غير قابلة للقياس، بين جسم كمي وعملية استنتاج ذهنية ليس بالشيء المثير فلسفياً إلا انه يطرح السؤال التالي: ماذا لو كان بينروس هو الأقراب، ماذا لو كان الإدراك مجرد انهيار للاحتمالات واستنفادا لعملية الاستنتاج؟

بينما انتهج بينروس الأصل الفيزيائي البحت لمعنى الإدراك، قام ديفد بوم بوضع "أساس الاصطلاح" في نظري. حيث إن المشكلة في كلام الفلاسفة في موضوع الإدراك هو انهم نادراً ما يضعون معنى الكلام المستخدم بذاته في الحسبان. أغلبهم يرمي باعتقاد المتكلم عرض الحائط ويضن أن أصل المشكلة فلسفي. بوم انتهج الأصل اللغوي لحل المشكلة ووضع نتيجة بحثه في كتابه المعروف: Wholeness and the Implicate Order.

-من هو ديفد بوهم؟

فيزيائي وفيلسوف ظهر في القران الماضي، عرف بحدة ذكائه وبعد مخيلته مذ كان صغيراً. جذب بذلك كبار المفكرين والعلماء في زمانه (من بينهم اوبنهايمر واينتشتاين الذي سماه بابنه الروحي). أنتهج بوم الفلسفة الشرقية باحثاً عما سماه بالمجال الذي يجمع كل شيء في هذا العالم، وكان لذلك الأثر الكبير في ترجمته لفيزياء الكم. يرى بعض كبار الفيزيائيين انه مبالغ في شانه، بينما يضن البعض أن التاريخ نسى اسم عبقري في علم الفيزياء والفلسفة الحديثة.

وحتى أكون صادقاً معك عزيزي القارئ، هذا الكتاب هو النتيجة التي جاءت بها الفيزياء في فكر الإدراك. سواء أعجبك نقاش الإدراك أم لا، سواء أردت الوصول لنتيجة مرضية أم لا، سواء كنت محباً للفلسفة أم كارهاً لها، كتاب بوم هذا هو كنز بين كتب علم الإدراك وأصل الاصطلاح اللغوي من وجهة نظر القرن الماضي.

ينتهج بوم الأصل الفيزيائي (نفس فكرة بينروس) بشكله اللغوي وبطريقة تجعل النتيجة واضحة للباحث. قد لا يكون كتاب بوم الإجابة الخالصة لأصل الإدراك، ولكنه أقرب ما قد تقرأ لتراث الفلسفة الحديثة وخلاصة استنتاج الإدراك عن طريق الفيزياء والفلسفة اللغوية.


يقول بوم أن المتكلم أو الراصد هو أصل الإدراك وان الفكرة هي باتصال الأجزاء الفكرية بمعنى "الكل" وهو النظام الفيزيائي. لو قام الراصد ببناء استنتاج مبني على الخبرة فهذا لا يعني أن الراصد بعيد عن الإدراك، لكن أصل الخبرة هو نتيجة الاستنتاج وهذا بذاته هو الإدراك. فكرة تقسيم الفكر هي النتيجة الثورية لكلام بوم، حيث نتيجة الرصد هي ما جاء بها استنتاج الراصد والبحث في تلك النتيجة هي انعكاس لشكل النظام وليس إلا.

8eB2pvQ.png
-ما هو المعنى من هذه الفلسفة اذاً؟

ببساطة، بوم وبينروس انهوا العلاقة “الحسية” بأصل الأدراك ورجحوا على انه مبني على الخبرة بشكل أساسي، هنا يقول بينروس بان المسافة لا يمكن تقديرها بالإحساس فقط، ولكن إدراكها (المبني على حكم التجربة السابقة) هو ما يأتي بذلك التقدير. وبهذا يقوم فلاسفة القرن الماضي بمراجعة أقوال كبار الفلاسفة كديكارت وكانط، ولم يجدوا إلا أن يبنوا على الأصل اليقيني في الإدراك (مستعينين بالفيزياء كمبرر).

وهنا أكون قد اكتفيت من الطرح التاريخي الممل للفلسفة، دعنى ننهي موضوع الدلافين ذاك...

ببساطة، من الممكن استخدام الإدراك لعكس مقارنة الوعي بين الدلافين والبشر وهذا لان اغلب الرأي الفلسفي رجح على أن الإدراك مزيج بين الاستنتاج والخبرة (مع العلم أن الاصطلاح ليس بثابت المعنى)، وظاهر القول هو انه لا يعني بما يسميه الناس بالذكاء من شيء. ولكن استخدامي لكلمة الإدراك ليس بمحله لأنني كنت اقصد ترجمة كلمة ذكاء وهي ليست المرادف السليم للإدراك. ومع أني ارتكبت خطئاً فادحاً إلا أن كاتب الكلام باللغة الإنجليزية ارتكب جريمة أشنع، وهي باستخدامه لكلمة ذكاء بدل كلمة (Perception). وهنا قد يطرح بعض القراء السؤال التالي: ما هو الذكاء اذاً؟

يتبع...
 
التعديل الأخير:

Avicenna

φιλόσοφος
مسار الفكر وطريقة التعلم من وجهة نظر الفلسفة وعلم النفس

في علم الفلسفة، يقتصر العلم على الخبرة. ببساطة هي إرادة المرء المحضة لاكتساب الفكر وتوسيط نطاق استخدام ذلك الفكر. ولكن هذا التعريف لا شيء إن قارنته مع كيفية تعريف مسار التعلم في علم النفس. يقول علم النفس أن التعلم هو التغير السلوكي الحاصل نتيجة اكتساب الخبرة (أدري، هو نفسه تعريف الفلسفي).

الفكر وطريقة التعلم هما نقطتين اتفق عليهما كل من علم النفس والفلسفة وهذا لان تعريف التعلم ظاهري نقدي وقابل قياسه جاعلاً منه نتيجة حتمية لدراسة السلوك وتغير الخبرة عند الأفراد.

من حسن حضنا أن أساس علم النفس في وقتنا هذا هو في تغير السلوك وتعريف الذكاء. ببساطة علم النفس مبني على فكرة استناد النتيجة على السبب، فما دام هناك استمرارية في العلاقة، اثبت علم النفس فعالية تلك العلاقة. وبما أن قياس التغير السلوكي ليس بصعوبة الخوض في قياس نسبة الكبريتات على المشتري، ترى التطور الحاصل في علم النفس أسرع بمراحل من تطور علم الفلك والكونيات (في الوقت الحالي على الأقل). سهولة البحث في تغير السلوكيات أدى الى كم طائل من البحوث المرموقة في مفهوم "الذكاء" و"العبقرية".
----------------------
الذكاء:

أول من باشر بتعريف الذكاء بشكل نظري ورسمي هو ابن خلدون. يقول ابن خلدون في نظرية الاجتماع أن الذكاء هو موروث التطور الحاصل وفق حاجة الشعوب. وهو الانعكاس لمعرفة هذه الشعوب وقابليتها على القيادة والاستمرار. رجح ابن خلدون على أن الذكاء خاصية موروثة وليست مكتسبة (وهو تصريح ثوري في زمن كانت المعرفة الصرف طريق الثبات في الصرح العلمي).

في علم النفس، اشتهرت نظرية Gardner لتصنيف الذكاء. حيث ترجح النظرية أن الذكاء مصطلح يرمز الى عدة أصول في السلوكيات والتصرف، لكل شخص نسبة من هذه الأصول، ولكن بمقادير متغيرة. تقسم هذه الأصول بناءً على ثمان قدرات أو خواص:

-الخواص الإيقاعية والموسيقية: وهي كل ما له علاقة بالحس الموسيقي والإعجاز الإيقاعي. بداية من سرعة التعلم، وحتى طريقة الطرح والأداء

-الخواص المكانية والبصرية: كل ما له علاقة بالاستقبال البصري، وخاصةً تذكر الصور والأشكال والأوجه

-الخواص اللغوية: التعامل مع الشأن اللغوي من كتابة وقراءة وقصص وشروحات...

- الخواص المنطقية والرياضية: وهو أساس التعامل مع فكر الاستنباط وخصوصاً في موضع السببية واللعب بالأرقام. هذه الخواص تعد أصل قيام الذكاء السائل والذكاء الشائع بشكل عام

- الخواص الجسدية: الرقص... (اسأل علماء النفس)

-خواص التحليل الشخصي: مبنية على قدرة المرء على تحليل صفاته من عيوب ومقومات واتخاذ التصرف الأمثل بناءً على ذلك التحليل

- خواص التحليل الجماعي: القدرة على تحليل مشاعر وشخصيات الأفراد المجاورين مما ينعكس على خبرة التعامل وما فيها من تصريف (هذه فيها الكثير من التشعب والمغالطات فلا تتعب نفسك إن لم تكن مهتماً)

-الخواص الطبيعية: قدرة مبنية على الأساس البشري من لمس وحركة تطورية، لأصلها الامتثال بالقانون الطبيعي (ببساطة، رجل الطبيعة ذاك في Dr. Stone)

وفي عام 1971, قام ريموند كاتل بتقسيم الذكاء لنوعين أساسيين:

الذكاء الجوهري السائل (وقد يسمى بالمنطق السائل): وهو القدرة على حل المشاكل ووضع المنطق عنواناً للطريقة المتخذة. الذكاء السائل مبني على القدرة الفذة لتوقع نتيجة أو حل في موضوع غير مسبوق ومن دون معرفة سابقة. فتجد الناس ذوي الذكاء السائل المرتفع يحبون البحث في المنطق ويتفادون الكثير من القيم الكلامية (المعنية بالكثير من الخبرة). ولهذا ترى الكثير منهم يختص في علم الفيزياء، الحاسوب، الرياضيات، الهندسة، الخ... هذا التصنيف يعتبر المقياس الأساسي في اختبارات القدرة التحليلية والذكاء (نتكلم عن هذه قليلاً في النهاية).

الذكاء اللاجوهري أو المتبلور: وهو القدرة على استخدام الخبرة كسبيل للتطور، ومع أنها تعني بتوفر القدرة الدماغية من ذاكرة وما الى ذلك، إلا أنها لليست مربوطة بالمنطق الفكري بشكل أصيل. هذا يعني انه من السهل إحداث تغير في الذكاء المتبلور (نسبياً). في الغالب تفضل النسب العالية من هذا التصنيف المنهج المعرفي من العلوم الطبيعية، وسياسة، واقتصاد. (نعم العلوم الطبيعية تضم الى القسم المعرفي وليس المنطقي في نظرية كاتل)

الجميل في الأمر ولحكمة عند حكيم، لن تجد الكثير ممن يملكون القيمة الجوهرية، ولن ترى الكثير ممن يملكون الذكاء المتبلور الصرف وحده. إنما هو مزيج بين الاثنين والغالب في النهاية يعطي صفاته الظاهرية. وهذا يعني انه من السهل أن تجد عبقري في علم الرياضيات يتخذ المجال الطبي، ومحب لسرد الكتب يتخذ هندسة مدنية كوظيفة له.


تعلمت مبكراً الفرق بين معرفة اسم الشيء، وبين معرفة الشيء ذاته

-من قد يوصف بالذكي؟

هنا نأتي الى المشكلة في سياق اصطلاح الذكاء، وهو استخدام الجميع له (بمن فيهم أنا عند قولي عبقري). فما الذي ترمي اليه عند قولك عبقري أو ذكي؟ ما علاقة الذكاء باي شيء؟ وكيف قد نستدل على الذكاء والعبقرية؟

بالنسبة لكلمة عبقري فالأستاذ سنيب تكلم عن هذه النقطة في موضوع العباقرة، ولعلي أقول شيئا فيما عنيت من استخدامي لكلمة عبقري (حيث إنها ليست بنفس المعنى الأصيل للكلمة):

العبقري هو كل من أحرز إنجازا في مجال معترف به (علم، روحانيات، قيادة الحروب، الخ...)، حيث يكون ذلك الإنجاز من اهم 5% من منتوج ذلك المجال. هنا، من غير المهم النظر الى نسبة الذكاء المفروض من علم النفس، بل الى الإنتاج الفكري لذلك الشخص بدلاً عن ذلك. ولكن هذا لا يعني بالضرورة عدم أهمية الذكاء في مصطلح العبقرية، فالعلاقة بين الإنجاز والذكاء علاقة طردية على المستوى العام وهذا لا يختلف عليه اثنين. ومن الضروري أن تتفهم أنى لم أكن اقصد المعنى العام للعبقرية وانقل عن الأستاذ سنيب: "كل ما يتعجب من كماله وقوته وحذقه", حيث إن الإنجاز قد لا يكون شيئاً معترفاً به ومهم للعامة (على سبيل المثال، جاليليو لم يكن عبقرياً للعامة في زمانه، بل كان مهرطقاً لا يدري ماذا يقول). وهنا لا أدافع عن عدم امتثالي المعنى لنسبية الاصطلاح، وهذا لأني ارتكبت خطأ استخدام الاصطلاح من دون التمعن في معناه أساسا وهو خطأ شائع عند الكتاب والمتكلمين.

بالنسبة لذكي، فهنا ندخل متاهة من دون مخرج. ببساطة، كلمة ذكاء ليست واضحة السياق فيما يعني الاستخدام. فهي ككلمة "حرية", من المستحيل أن تعرف أصلها من دون الوصول لكمالها، ومن المستحيل الوصول لكمالها في قيم الفلسفة (هذا لان الحرية لا تمنح بشكل كامل في الواقع، وكذلك الأمر للذكاء). وهنا يكون لدينا عدة مدارس ذات أفكار متشابكة وغير ثابتة، والنتيجة هي لا شيء...

ولكن حتى أسهلها عليك، قول "ذكي" في علم النفس يعني بالنسبة المرتفعة لمقدار الذكاء السائل في اغلب الأحيان وهذا لدقة قياسه وقوة العلاقة الإحصائية على مر الزمن. هنا تكون لدينا عقبة متمركزة بمقدرة من يتجاوز ذكائهم المعدل الطبيعي بمراحل. ولو أتينا لإحصاء هؤلاء، لوجدناهم القلة المختارة بين الأفراد.

وهنا نأتي الى العلاقة بين الذكاء وغيره من التصرفات في علم النفس. وبما أننا تكلمنا عن أهمية الإنجاز في استخدامي لكلمة "عبقري", فما هي العلاقة بين الذكاء والإنجاز يا ترى؟

اقر علماء النفس أن العلاقة طردية بشكل مباشر بين إنجاز الأفراد ومعدل ذكائهم وهذا شيء متوقع، لكن النتيجة يتم عكسها فور تجاوز المرحلة الطبيعية للذكاء. وحتى تفهم عن أي مرحلة أتكلم في هذه الحال، فهم الأفراد ذوي القدرات غير الطبيعية (من ذاكرة فوتوغرافية وحتى دراسة الطوبولوجيا في الروضة). هذا النوع من الأفراد ذوي معدل الذكاء المرتفع معرضون لاحتمالية عالية من الاكتئاب وتعاطي المخدرات، أضف الى هذا أن التطور المعرفي مقتصر في اغلب الأحيان على النشاط الأكاديمي، ولن تجد الكثير من هؤلاء يجلس على قمة البحث العلمية والتطور البشري. تجد الأسباب وراء تواري تلك العملات النادرة في مئات البحوث والكتب الاجتماعية والنفسية، ولكن القيمة هي العلاقة وليس السبب في هذه الحال (من وجهة نظر علم النفس على الأقل).

هنا لا نقول إن ذوي الذكاء المرتفع هم شلة من عديمي الذوق وقليلي القيمة، بل العكس. القدرة غير الطبيعية لدى هؤلاء الأفراد تحتاج الرعاية والعناية الدقيقة حتى يتم استخدامها بالشكل الصحيح. لكن نقدي هو لاستخدام كلمة ذكاء في وصف الجميع ومقارنة "عبقري" كريتشارد فاينمان بشخص يحفظ كتاب كانط في ثلاث دقائق… وهنا قررت استخدام اصطلاح العبقري بدل الذكي، حتى لا يرى الناس أني أركز على ذوي المهارات الخارقة للطبيعة. فيضيع الشغف بين جدران معدل الذكاء.


الحمد لله العليم الحكيم, والصلاة والسلام على النبي العربي محمد
 
التعديل الأخير:
أعلى