Avicenna
φιλόσοφος
**************************************
نبدأ باسم الله العليم الحكيم والصلاة والسلام على نبيه ورسوله العربي محمد،
وبعدُ: في الآونة الأخيرة، زاد الإقبال على المواضيع العلمية والفلسفية في المنتدى. قرر الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا أن يتعلم العربية حتى يكتب في هذا الشأن، وهو لا يرجوا من ذلك إلا منفعة من أراد أن ينتفع.
-لعل الهدف مما نكتب هو أن ننشأ قاعدة بيانات متواضعة لمن يريد أن يبحث أو يكتب في أي موضوع علمي أو فلسفي في المنتدى. هذا لا يعني باي شكل من الأشكال بان الموضوع يستهدف قليلي المعرفة في هذه الأمور، بل قد يكون العكس. أتمنى أنك، بإنهائك للموضوع، ستمتلك القدرة على النظر للمعرفة بشكل سليم.
-محتوى الموضوع راح يتم تحديثه وتوسيعه من قبلك (نعم أنت القارئ) فكلما اهتممت بالعلم والفلسفة، كلما زادت كمية النقاش في هذه النواحي، والنتيجة هي كمية مواضيع ذات طابع احترافي في المنتدى. كل هذا في بيئة يتم فيها النقاش من دون تحيز فكري.
نذير بداية-ألموضوع طويل شوي، لهذا راح أحاول اقسمه لأجزاء حتى تتمكن من قراءته على عدة جلسات. بداية الموضوع فلسفية مما يعني بعض الأمور الجدلية في أفكار قد تكون حساسة لدى البعض، أتمنى تفهم المادة المعروضة. هذا ونرجو من القارئ أن يأخذ المفيد ويترك أو يعدل ما يرى فيه خلل، فحتى ابن سينا من بني ادم، وكُتب على بني ادم أن يكونوا من الخطائين. *سامحونا على أي تقصير*
**************************************
إن ما أؤمن به في هذا العالم هو أن المعرفة ارفع من أن يكون لها ثمن، فهو حق على هذى الجيل أن يعلم الذي بعده. هكذا هي سنتنا نحن البشر. لكن طابع الكسل فينا جعلنا نترك الكتب، لا بل نترك القراءة بحد ذاتها. نذهب الى مؤسسات تنشا جيلا من متخلفي الفكر الحر، حتى ينتهي بنا المطاف محصورين بين حيطان الفكر الذي بدأه السابقون. ندافع عن أفكار بشر وكأنها كلام مقدس منزه عن الخطأ.
دفع العلم المزيف هذا البشر إلا ما سموه لاحقا بالفلسفة. فلم تكن الفلسفة إلا نقد وتفنيدا لما جاء به الأولون، ثم بنينا لهذا النقد قواعد وأسس لتعميم الفكرة. أنشأت فكرة النقد والتفنيد جيلا من ذوي الإيمان المطلق بدراسة المنطق، حتى أن بعضهم ذهب لتفنيد السنن البشرية والقوانين الأخلاقية. وهنا بدأت الحروب الفكرية. قد يسألني القارئ عن سبب إقراني العلم بالفلسفة، والجواب في مجمله هو انهما يتشاركان في الفكرة الرئيسية، وهي تفنيد الأفكار والتعديل عليها. في الحقيقة، العلم والفلسفة كانا شيئا واحدا في يوم من الأيام.
دعنا أولاً نعرف بعض الألفاظ البسيطة قبل أن نكمل:
-ألمعرفة: هي مجمل ما بناه جنسنا على مر العصور من طرق، وحرف، وعلوم، وأساليب، ومجالات، ولغات، وأفكار.
-العلم: هو المعرفة المنظمة على أساس البحث والملاحظة وفق مبادئ الفكر والمنطق. ويجدر التنويه الى أن العلم كان معرفا من قبل الفلاسفة علا انه الاطلاع على المعرفة بمشتقاتها. وهو تعريف حرفي للغاية لو سألتني.
*لعل الفرق بين العلم والمعرفة هو أن الأولى اشمل من ناحية ما تحويه من مضمون، أما العلم فهو طابع البشرية في التعرف على الحقائق وإسنادها بالأدلة.
-الفلسفة: هي فن نقد المعرفة (بهذه البساطة). لكن لا يراد من هذا النقد أن يكون مهاوشة كلامية، بل يجب أن يكون وفق أسس متفق عليها من قبل الطرفين.
- الحكمة: كل سبيل سلكناه من اجل إيجاد الحقيقة، على أن يكون مسنوداً على أسس وقوانين.
فلنعد لتطور المعرفة ذاك، حيث وصلنا الى ما يسميه معض المؤرخين بحروب الفكر، وهي فترة تطور فيها النقد البشري حتى بدأ يشمل صراعات فكرية في الدين، والسياسة، وشتى نواحي الحياة. وعكس غالبية فترات التأريخ، نحن ننظر الى فترة تعاد بين الفينة والأخرى. بل أرى أنها دائما متواجدة ما دمنا نحن متواجدين، فهي طابع من طوابع البشر. (محبين للمشاكل...)
طبعاً، بعدها يطلعك كم واحد بارد دم مثل جون دالتون ولفوزييه ويشطبلك على الفلسفة (اسف، انفعلت شوي).
حاول أمثال هؤلاء العبث في التنظيم الأساسي للمعرفة، حتى أسسوا ما يسمى بالعلم وبالحركة العلمية الحديثة. راح تنفصل في هذي الحركة وشبيهاتها في الكتاب الرابع، لكن حاليا مالنا غير البكاء والعويل على أفكار القدماء، أو على الأقل هذا ما كان ليقوله أمثال Descartes (احم).
**************************************
الكتاب الثالث: في مبادئ الفلسفة
حسبنا ما كُتِب من شروح لمذاهب القدماء، فقد آن لنا أن نضع فلسفة خاصة بنا
ممكن الفكرة فيها شيء من "المستحيل" في البداية، لكنني واثق بقدرة مجتمعنا (محب الجدل) على تبنيها.
فعلى سبيل المثال: نظرية الأوتار الفائقة هي شرح للتركيب الحركي في عالم الجسيمات. لو عندك أي اهتمام في الفيزياء الحديثة فراح تكون عارف أهمية هذه النظرية عند بعض رواد هذا المجال. لكن في نفس الوقت راح تكون عارف كمية الكره تجاه النظرية من قبل بعض أهل الاختصاص والباحثين.
- ولما هذا؟
لان النظرية عبارة عن رياضيات وكلام فاضي ما له أي سند في الحالة الفيزيائية أو علم الجسيمات (أنا اعتبر أحد مؤسسي النظرية جاهل في علم الجسيمات)
- ولماذا لا نزال متمسكين بالنظرية؟
النظرية فيها رياضيات تخليك تعتزل الحياة. وببساطة ما في حد قادر يقف أمام النظرية حتى لو كانت غير منطقية.
- هل هذا يعني أن هذه العلوم صحيحة، فهي لا تفند (صحيح؟)؟
هذا لا يعني شيء سوا أن هذه العلوم ستظل واقفة حتى يأتي ما هو أحسن منها ومن جنسها. مع أن هذه العلوم بعيدة عن التغير الفكري في الوقت الحالي، إلا انه يمكن تفنيدها ببساطة شديدة، لكن راح ينتهي النقاش من حيث بدا. فلا أنت راح تقتنع، ولا خصمك راح يقتنع وهذا ما اسميه بالنقاش العقيم.
- وما هي فلسفتنا هذه؟
هي المنطق في أن تدعم الكلام أو تفنده حتى ينشرح القلب الى أحد الطرفين، فلو شككت في امر اذهب وابحث حتى يأتيك اليقين (وهو قادم ما دمت باحثا عنه). لكن لا تكف عن رأيك حتى تجد الخير في غيره، فلو كان المرء عاقلا، علم بان بعض الكلام في الدنيا حلو معسول، وهذا لا يرجح الخير فيه حصراً.
وأتمنى أن تعلم بأن "الباحث عن الحقيقة ليس هو من يدرس كتابات القدماء على حالتها ويضع ثقته فيها، بل هو من يُعلّق إيمانه بهم، ويتساءل ما الذي جناه منهم؟ هو الذي يبحث عن الحجة، ولا يعتمد على أقوال إنسان طبيعته يملؤها كل أنواع النقص والقصور؛ وبالتالي فإن من الواجب على من يحقق في كتابات العلماء- إذا كان البحث عن الحقيقة هدفه - أن يستنكر جميع ما يقرؤه، ويستخدم عقله حتى النخاع لبحث تلك الأفكار من كل جانب، وعليه أن يتشكك في نتائج دراسته أيضًا؛ حتى يتجنب الوقوع في أي تحيز أو تساهل."
*أوجب على نفسي أن أُبلغك بالمشكلة الأساسية في هذه فلسفة قبل أن نصل لموضوع العلم، وهذه المشكلة هي اللغة. فلغة بقدرات وقواعد رصينة كالعربية تسهل السرد والكلام عن غالبية الأمور ولو كانت غير متأصلة باللغة نفسها. ولكن يضل من الصعب أن أوصل الفكرة في اللغة بعد أن درست ما درست من الفلسفة والعلم بلغة أعجمية. فلو واجهت أي صعوبة في فهم أي موضوع، فهذا يدل في الغالب على طرحي السيء وليست المشكلة في استيعابك. فأرجوك أن تسال وتستفسر إن احتجت الى ذلك...
دعنا نباشر في اهم جزئيتين في هذا الكتاب وهما المنطق والعلة، حيث إن لهما حصة الأسد في حيازة الحكمة على تلك المرتبة "العلمية" في العصور الغابرة.
لن أضع اللوم عليك إن لم تسلم بالتعريف، فالمنطق صعب التصور، وما هو الى حجة لوضع أساس للفكر البشري. لكن لتسهيل الأمر عليك، أتيتك بمثال:
محمد يعيش وحيداً مع قطته "شاني", وفي يوم من الأيام عاد محمد متعبا من عمله وقرر أن يأكل قطعة البسكويت التي تركها على المائد قبل مغادرته لعمله صباحا. لكنه تفاجا من اختفاء قطعة البسكويت تلك. يا ترى من الفاعل؟
قد يكون سارقا دخل وأكلها مثلا؟ أم هل شاني هي الفاعلة؟ وهل تأكل القطط البسكويت أصلا؟ أم...
فبمجرد تفكيرك بالسؤال أنت تستخدم المنطق، وهذا المنطق هو الذي يحدد واقعية الاختيارات ويأتيك بنتيجة من بينها (في هذه الحالة البحث عن سبب لاختفاء قطعة البسكويت).
-والمنطق يكون أما استنباطي أو استقرائي. الاستنباطي هو كل استدلال ذا أساس تتابعي (أي يبنى على معطيات).
مثال:
مثال: قصائد المتنبي في المدح والهجاء بليغة. هذا يعني أن قصائد المتنبي في الغزل بليغة أيضا.
وهذا مثال لاستنتاج تحليلي، أما لو أردت أن تجعله حتمي فتقول بان قصائد المتنبي بليغة (أي تعمم). لكن يجب أن يكون التعميم من جنس العمل فلا تقول كل كلام المتنبي بليغ بل تحصر القول على القصائد.
لاحظ أن استنتاج المنطق الاستقرائي ليس من اللازم أن يكون صحيحاً. لكن هذا لا يعني بالضرورة انه لا ينفع. فللمنطق الاستقرائي استخدامات عديدة، والمثال أعلاه يعمل على إيصال الفكرة لا غير.
- هل هذا كل ما تحتاج أن نعرفه عن المنطق؟
نعم ولا. فاتن لست بحاجة للغوص في المنطق أكثر من هذا القدر إن أردت استخدامه في العلم. ولكن المنطق في دراسة الفلسفة طويلة قصته، ويصعب أنصافه في هذا الموضوع لعدة تعاريفه وتقسيماته.
والان لننهي مدخل الفلسفة بدراسة العلة... وهي القدرة على تطبيق المنطق والسيادة على كل الاستنتاجات بالربط بين المعلومات. (والمعلوم هنا هو ما حتم عليه أن يكون واقعا)
من الصعب التمييز بين العلة والمنطق عند البعض لهذا يقع الكثيرون في خطأ احتساب العلة والمنطق واحداً. وهما ابعد من أن يمثلا نفس الفكرة. فلو كان المنطق تقييم الحجج، فالعلة سبب ذلك التقييم وطريقته. ويجدر التنويه بان العلة في هذا السياق ليست بالعلة أي السبب، بل هي الفكر أو العقل. والعلة ممكن أن تكون منطقية أو استنتاجية. فالمنطقية هي بان تبني فكرك على المنطق وأساليبه. والاستنتاجية هي أن تبني حجتك على قواعد الحدس والملاحظات، وأحيانا قواعد المضاربة والنقد.
دعنا نأتي كل واحدة بمثال:
-العلة المنطقية: كل ما كتب الإنسان أكثر، كلما استخدم كم أكثر من وقته.
فهنا لو سألني أحدهم لماذا؟ أقول لان هنالك علاقة طردية بين القيام بعمل ما ونفاذ الوقت (وهذا منطق استقرائي). فهنا أنا بنيت فكرة على أساس المنطق حتى لو لم تكن صحيحة دائماً، وأتمنا بان هذا المثال أعطاك فكرة أفضل عن استخدامات المنطق وخصوصاً الاستقرائي.
-العلة الاستنتاجية: كان أكون جالساً في منزلي واشم رائحة شيء يحترق، أنا هنا أفكر في العديد من الاحتمالات والاستنتاجات الممكنة والعلة هنا استنتاجية ومستخلصة من الملاحظات.
مثال على علة واهية: كل كلام ابن سينا صحيح
*لا هذا ليس بمنطق استقرائي لأن في تلك الحالة ستكون قد بنيت المنطق على علة وهذا لا يجوز. تقول كيف؟
دعنا نأتي مصدر العلة المنطقي:
كلام ابن سينا في الفلسفة صحيح (لماذا؟ لان كلامه في المنطق والأخلاق صحيح!)
كل كلام ابن سينا صحيح
أما لو قلت بان كلام ابن سينا في الطب والفلسفة صحيح، فكلامه كله صحيح. فهاذا التعميم خرج عن جنس العمل وصار شمولياً بزيادة. طيب وكيف اعرف متى يصبح الاستنتاج شمولياً بزيادة؟ الجواب هو أن ترجع السند الى ما اسند اليه، فان كان في ذلك حرج (ولو القليل) كان الاستنتاج شمولياً. فهنا أسندت الفلسفة والطب الى الكلام وفي ذلك القليل من الحرج لان الطب والفلسفة ليسا من أنواع الكلام. بينما المدح والذم من أنواع القصائد. وكذلك غيره...
ممكن أعجزتك فكرة المنطق والعلة، وأحب أن أقول لك بانك لست الوحيد. فمانويل كانط أنكر العلة بحد ذاتها وكتب كتاباً سماه نقد العلة الخالصة أو نقد العقل المحض. لكننا ندرسها لأنها نجحت في اختبار الزمن وتعتبر مدخلاً مناسباً للعلم والطريقة العلمية.
**************************************
كل ما تكلمنا عنه حتى الآن هو مجرد مدخل لأرقى مراحل المعرفة الفكرية لدينا. فالعلم في تعريفه الصحيح ما هو إلا طريقة للتعبير عما نراه واقعا باستخدام الدلائل المنطقية والملاحظات. العلم في أصله مجرد طريقة للتعبير عن الحقيقة وليس ثابتا. هذا لا يحط من قيمته، بل على العكس. فهو طريقة تقابل منطقنا المتغير مع الواقع.
نستطيع القول بان بداية العلم الذي نعرفه كانت على يدي (أنا ابن سينا) وما أنا بمازح في قولي هذا. فالعلم بدأ على يد الأطباء، فهم أول من أقام حجته على فن التحليل والاستنباط. هذا بالإضافة الى تغيير الافتراض وفق المعطيات. ولكن لما ابن سينا بالتحديد؟
خلال عصر الظلمات الذي أحاط بالقارة الأوربية، كان المسلمون يقفون على أبواب الفكر محيطين بشتى معابره وسبله. وبعد أن بدأت القارة العجوز بصراعها السياسي الذي أدى في نهاية المطاف الى بداية عصر النهضة، كان المسلمون قد وصلوا الى المراتب العليا في كل أقسام العلم والمعرفة، حتى أن بغداد كانت أثينا ذاك الزمان.
وها نحن نتكلم عن شخصية هيمت بفكرها على كل علماء زمانها، حتى أنها كانت تحارب من جميع الأطراف. كان ابن سينا عبقريا بكل ما تعنيه العبارة، فكان ناقدا لمؤسسي الفلسفة الكلاسيكية ومجابها بفكره كبار الفلاسفة حتى بعد موته. كان مهتما ودارسا للرياضيات والفيزياء، بالإضافة الى اهتمامه بالحضارات واللغات. ولكنه لم يشتهر عند العرب والمسلمين لكل ذلك، بل ذاع صيته بالطب، ولا أنصفه أن قلت كان اهم طبيب في زمانه، بل لقبه بعض المؤرخين بابي الطب الحديث. اشتهر ابن سينا باتباعه للطريقة العلمية في استنتاجاته، ولم يعطه الغرب حقه في هذه. فهو من أوائل الذين طبقوا الطريقة العلمية، سابقا بذلك كل من جاء بعده بمئات السنين وتحديداً في القرن السابع عشر حيث كانت أوروبا تمر بما يسمونه الثورة العلمية. المشكلة في الثورة العلمية أنها هدمت الرابط بين العلم والفلسفة باسم العلم الخالص، منشئة بذلك أجيالا من حفظة العلوم وقليلي الخبرة في فلسفة المنطق. كان لهذا النوع من العلم الكثير من المعارضين، من أمثال ديكارت وروجر بيكن. فهم لم يحبوا الأساس الذي أنشأه العلماء في زمانهم وقالوا بأنهم يأخرون التقدم الفكري. ومع انهم كانوا على حق فيما يخص النقد الفكري إلا أن العلم استمر بالأثمار عموماً حتى وصلنا الى الثورة المعرفية الحديثة. وبعدها قام أمثال ديكارت وبيكن ببناء ما سموه في عصرهم بالطريقة العلمية.
-الاستنتاج الأول هو أن النظريتين يجب أن لا يرتبطا على الأطلاق، لكن هذا الرد غير مقنع كونه ينفي تأثير الجاذبية على المجال الكمي والعكس.
-بعض العلماء (ستيفن هوكنغ) رجح بانه من الصعب التعبير عن العالمين في علاقة رياضية منطقية لان تأثير الجاذبية ضئيل جداً في العالم المجهري الدقيق. لكن أكد هذا الفريق على تواجد علاقة بين الاثنين، نحن فقط نحتاج من يرى هذه العلاقة.
- رجح فريق آخر أن الجواب هو العلاقة الشبه عكسية بين مجال الجذب ومجال الحركة الدقيق للجسيمات، فلو افترضنا وجود موجات جاذبية ممكن يكون عندنا جسيمات جاذبية نسميها Gravitons, وهكذا تحل المشكلة.
كيف؟
لأن في هذي الحالة راح يكون عندنا جسيمات دقيقة تنقل قوة الجاذبية بين الأجسام الثقيلة
الجميل في هذا المثال الطويل نسبيا هو أننا تمكنا من قياس الموجات الجاذبية وتأكدنا من وجودها (من حوالي خمس سنين)، وهذا يعني انه من السليم أن نحصل على أل Gravitons. لكن هذا لا يحل المشكلة لأننا بنينا كل الفكرة على استنتاج وهذا لا يصلح لان التعريف يقول باننا نحتاج دلائل وملاحظات ولكن الاستنتاجات وحدها لا تفي بالغرض. تقول لي أين الاستنتاج من الأساس؟ الاستنتاج هو جسيمات أل Gravitons. فحتى لو حصلنا على موجات الجاذبية، ما الدليل على تواجد تمثيل جسيمي لهذه الموجات. ولو قلت لي أن علم الجسيمات ونظرية الكم يؤكدان على أل Particle-Wave Duality, اقل لك أننا لم نضع علاقة بعد بين عالم الكتل الثقيلة وعالم الجسيمات الدقيقة، فكيف لي أطبق قوانين هذه على تلك؟
هذا جعل شلة من البربرية يبادرون بما يسمونه بنظرية الأوتار، وهذه قصة ليوم آخر. لكن حتى الأخيرة لم تفلح لضعف مفهومها الفيزيائي. المشكلة التي تواجهنا الآن هي عدم وضوح التعريف، فالعلم لا يمكن أن يكون مجرد وجهة نظر مدعومة بالملاحظات والدلائل المنطقية. وما هي الدلائل المنطقية أصلاً؟
الدلائل المنطقية: هي استنتاجات تَدعم ولا تُدعم إلا بالمنطق. وهي نوعان، أما رياضية أو طريقة استنتاج في النقد الفلسفي. لكن دعنا من طرق الفلسفة هذه ولنركز على الرياضيات الآن. فالرياضيات تعتبر جزئا مهما من أي نظرية أو أي افتراض في كل شؤون العلم، بل وأستطيع أن أقول إنها هي الأهم في زماننا. هذا طبعا لفعالية الوسيلة في إرشادنا للحقيقة، فالرياضيات علم للتعبير عن العلم عن طريق المنطق والربط بين قوانينه. لكن الرياضيات لا تنفع في شيء من دون العلم لأنها في نهاية المطاف لا شيء سوا طريقة لتبسيط التصور البشري للظواهر.
لكن بشكل عام، يؤمن بعض "علماء" الرياضيات بان قوانينهم، وان لم تكن ذات معناً في الوقت الحالي، تمثل حقيقة علينا اكتشافها في المستقبل. فهم يرون أن الرياضيات هي أصل العلم وأساسه، وهي ليست أداة بل تعبيرا للحقيقة. ويؤسفني أن أقول بان هذا الكلام ليس بمعقول، فالرياضيات ليست حقيقة ولكنها دليل وتعبير عن الواقع الذي بنيناه بمنطقنا نحن البشر. وبما أن منطقنا يقبل التفنيد والتغيير فالرياضيات تقبله أيضا. قد تقول لي أن هناك علاقات رياضية لم تكن تعني شيئا في زمانها ولكنها كانت تمثيلا صحيحا للفيزياء بعدها بسنين. ولكن هذا لا يعد دليلا. لماذا؟ لأنك ببساطة تعكس استيعابك للطبيعة، وهذا يعني أن الطبيعة مرنة في التعبير ولا يعني أن استيعابك صحيح.
Ψ
تحليلي للفكرة:
دعني أسلم بان الرياضيات هي الحقيقة المطلقة ودعني أقم ببناء المنطق الاستقرائي..
تم استخدام الجبر الخطي ونظرية الاحتمالات من قبل ديراك لوصف الدالة الموجية في ميكانيكا الكم، هذا بالإضافة الى استخدام تحويلات لورينتز في النسبية بعد سنين من إيجاد العلاقة الرياضية. هذا يعني بان الجبر الخطي، ونظرية الاحتمالات، وتحويلات لورينتز كلهم كانوا هم الحقيقة. وانا هنا استنتج بان الرياضيات كلها هي الحقيقة المنطلقة.
هذا استنتاج منطقي لكنه يحتمل الإصابة والخطأ، وحتى تجد النتيجة الفعلية علينا إخضاع الاستنتاج للاختبار. وهنا لدينا عدة اختبارات:
- التفنيد بالمغالطة (إيجاد مثال قابل لدحض الاستنتاج بشكل كامل وواضح)
- التفنيد في استنتاج بديل (وضع استنتاج مغاير للاستنتاج الأول وقابل للتفنيد)
- التفنيد بالتعاريف
كل من درس الفلسفة يحب استخدام الطريقة الثالثة إن أمكن، ولو استخدمناها لانتهى النقاش من قبل أن يبدا حتى ولكنها طريقة كسولة لتجنب التفكير. فهنا أستطيع أن أقول بان الراضيات تسند الى المنطق، والمنطق لا يعد حقيقة ولكنه تعريفنا للحقيقة وهكذا انهي النقاش. فما من دارس يجرؤ إن يقول بان الفكر البشري هو الحقيقة بشكلها الصحيح لان المنطق البشري غير معرف أصلا.
لكنني أحب استخدام الاستنتاج البديل في مثل هذه الظروف فأقول مثلاً بان نيوتن بحث في نظرية التفاضل الرياضي لكي يعكس الحقيقة التي تتجسد في الحركة الميكانيكية للأجسام. وهذا يعني بان الافتراض الرياضي لا يجسد الحقيقة بل يعبر عنها. (وهذا الاستنتاج يمثل علة مبنية على الملاحظة لان نيوتن قام بدراسة الحركة قبل إيجاد تعبير عنها). ولو كانت الرياضيات هي الحقيقة، فكيف لنيوتن أن يعلمنا بالحقيقة قبل أن "يكتشفها" أصلا؟ المشكلة في استنتاجي هو بان تعريف الرياضيات ومدارسها مختلف ولعله من الأفضل أن نخصص لها موضوعها.
والان بعد أن تكلمنا عن والوجوب المنطقي لزوال العلم المتكامل وانعدام الحقيقة الرياضية، قد يبدأ البعض بالتقليل من قيمة العلم أو "قدرة" الرياضيات. لكن هذا التقليل غير جائز، فكمية الحقائق التي عبرنا عنها بمنطقنا الرياضي مهولة، والعلم هو السبب الأساسي في الثورة المعرفية التي نمر بها. وانا عندما دحضت فكرة الحقيقة الرياضية، لم أُرد إلا القول لك بان الرياضيات ليست أساسا فعلياً للعلم، بل لغة للتعبير عنه.
دعنا نجرب ما تكلمنا عنه حتى الآن ونحاول تفنيد شيء من المسلمات:
القول: "الهواء" فيه نسبة كبيرة من غاز النيتروجين
النقد: لا يشكل النيتروجين أي نسبة من "الهواء"
في أمور كهذه، لا يوجد أي استخدام للمنطق، وكل من القول والنقد يمثلان كلام غير مسنود (من دون دليل). ولكن على الناقد في هذه الحالة أن يبحث حتى يجد الصواب (والصواب هنا هو كل ما يدعم بالمنطق أو الدلائل). ولماذا الناقد؟ لأنه هو من أتى بالتغيير. فحتى لو كان القول غير مسنود، فلا حرج على من جاء به. ولكن يجدر التنويه الى أن القول في هذه الحالة مسنود ومستحيل دحضه لأنه يستند على الملاحظة والتجربة.
-ولكن ماذا لو لم يكن مدعوماً بدليل، هل يجوز أن يكون علماً؟
الحقيقة هو أن القول لا يحتاج الى دليل قاطع ليدخل إطار العلم
-وكيف لا يؤثر هذا على مصداقية العلم؟
لو قدر كل من هب ودب على القول، فللغير كامل الحرية في نقد رايه وتذكر القانون الكلامي السادس. فلو جاء أحدهم بكلام من دون إسناد، لك كامل الحرية في أن تأتي بكلام غيره من دون إسناد وهذا يعتبر التغيير (فهو من جنس القول) ...
أتمنى أن تتفهم سبب إقراني لفلسفة العلة والمنطق بالعلم، ففلسفة المنطق (وإن كانت عسيرة الفهم) أساس مهم للنقد والتفنيد في العلم... وتذكر أن "الباحث عن الحقيقة ليس هو من يدرس كتابات القدماء على حالتها ويضع ثقته فيها، بل هو من يُعلّق إيمانه بهم، ويتساءل ما الذي جناه منهم؟ هو الذي يبحث عن الحجة، ولا يعتمد على أقوال إنسان طبيعته يملؤها كل أنواع النقص والقصور؛ وبالتالي فإن من الواجب على من يحقق في كتابات العلماء- إذا كان البحث عن الحقيقة هدفه - وأن يستنكر جميع ما يقرؤه، ويستخدم عقله حتى النخاع لبحث تلك الأفكار من كل جانب، وعليه أن يتشكك في نتائج دراسته أيضًا؛ حتى يتجنب الوقوع في أي تحيز أو تساهل."
ألان دعني أُناولك التعريف المكتمل للعلم من نظرة الفلسفة:
العلم هو الاختبار البشري المستمر للمعرفة المتراكمة، ويعني بفهم الكون بشتى ظواهره وصفاته. ومن الممكن اعتباره المعرفة الفكرية الأنقى.
**************************************
ألطريقة العلمية هي ما قل وزنه وغلى ثمنه في هذا الموضوع. فعلى بساطة القول فيها، فهي تعتبر أساس لفهم العلم والتفرقة بين العلم الضعيف غير المسنود والعلم الراسخ. وقد ترى اختلافات بسيطة في شرح خطوات الطريقة على حسب المصدر، ولكني سأستخدم الفكرة العامة في هذا الموضوع فهي أكثر من كافية لإتقان فن النقد والحوار العلمي.
ولكن ما هي الطريقة العلمية؟
هي سبيل للتحقق من العلم والعمل على تحديث الفكر ونقده بالطريقة السليمة... والطريقة العلمية تمثل أفكار القرن السابع عشر عند الغرب. ولكنني سبق ووضحت أن الأطباء في عصر الإسلام كانوا أول من اتبع المنهجية هذه، سابقين غيرهم بمئات السنين.
لنبدأ بشرح خطوات الطريقة العلمية:
-ألملاحظة أو تعيين المشكلة: مثلاً لماذا تتحرك الأجسام؟ لماذا تسقط الأشياء؟ رؤية جسم مضيء في سماء الليل...كل هذه أسئلة وملاحظات بناءة. وهذه الأسئلة والملاحظات هي بداية العلم.
-البحث الأولي والسطحي: وهو أن تجرب سؤال مصادر تدعي القدرة على حل المشكلة (هذه خطوة تهمل في اغلب الكتب، ولكني أرى أن البحث الأولي واجب حتى لو لم تكن تريد أن تحصل على جواب لسؤالك من طرف آخر)
-وضع فرضية: وهي حل ممكن للمشكلة (شيء تفسر فيه الملاحظة أو تجيب به عن السؤال)، ولا يشترط أن يكون الافتراض صحيحاً أو مسنوداً على دليل.
-الاختبار والتجربة: وهنا تمتحن الفرضية بعدة اختبارات عملية ونظرية منطقية (هدفك دعم الفرضية، وهدف غيرك دحضها). في هذه الخطوة تحتاج الى إيجاد أكبر كم من الأدلة الفعالة وان تحاول قدر الإمكان ألا تناقض امسلمات عصرك (وهذا غير مشروط لكنه محبب لمن يضع الفرضية).
-تحليل النتائج: محاولة الربط بين نتيجة التجارب والفرضية. وهنا نصل الى قرار قبول الفرضية أو دحضها.
*كانت الفرضية صحيحة كليا (أي مطابقة للتجربة والاختبار) فهنا تقبل وننتقل الى الخطوة التالية. أما لو كانت الفرضية غير سليمة أو صحيحة جزئياً فيتم رفضها أو التعديل عليها حتى تقبل.
-ألنظرية والقانون: بعد قبول الافتراض، يتحول في الغالب الى نظرية أو قانون. القانون هو قول يصف أو يتنبأ بالظواهر الطبيعية من دون ذكر سببها. والنظرية هي قول يعني في سبب الظواهر وطريقة عملها.
*وهنا لا يجوز أن نقارن بين قوة القانون أو النظرية، فكلاهما مدعومان بأدلة وكلاهما قابلان للتغيير بالمستقبل.
-البحث المستمر: وهنا نستمر في اختبار النظريات والقوانين والتغيير عليها. ومن المحتمل أن تدحض النظريات والقوانين بشكل كامل أن ثبت عدم صحتها.
*اغلب بحوثات عصرنا تعني في الخطوة الأخيرة من الطريقة العلمية، وهناك القليل مِمن يضعون الافتراضات أو يختبرونها.
Ψ
بعد أن أنهينا قوانين الكلام العشرة والطريقة العلمية، سيكون بالإمكان أن نحلل أي قول أو نقد في المحتوى العلمي. ولكن قبل أن تبدأ بالكلام عن "الي في بالي"، علينا أن نفهم أن للعلم مسلمات. وهذه المسلمات هي الملاحظات غير القابلة للنقد بطبيعته البدائية. كان تقول بان لون البرتقال ازرق، ففي هذه الحالة أنت لا تضع فرضية بل أنت تنسف الملاحظة. وهذا هو أحد اهم أسباب النقاش العقيم في بعض مواضيع هذه الأيام.
-ولكن ماذا لو كانت هذه الملاحظات نسبية (لا يستطيع الجميع أن يرى لون البرتقال)؟
هذا قد يعطيك الحق في الشك، لكن لا يمكنك التغيير حتى تأتي بملاحظة تختلف عن المسلم به (ولا تنفع الافتراضات في هذه الحالة). الخيار الثاني هو نقد الحجة بدليل فلسفي أو رياضي مباشر. ولكن الفلسفي لا يمكن أن يكون منطقاً استقرائية أو علة مبنية عليه. فلا يجوز استخدام ما يمكن تفنيده للنقد. لو استعصى عليك نقد الحجة المباشر ذاك، فالموضوع يستحيل تفنيده من دون برهان من جنس القول (عليك أن تأتي ببرتقالة طبيعية لونها ازرق ثم عليك أن تستخدم المنطق الاستقرائي "للتعميم"، ويصبح قولك صحيح مادام منطقك لم يفند). ولاحظ أن استخدام المنطق الاستقرائي بعد الملاحظة جائز...
*في الحقيقة، اغلب المسلمات العلمية قابلة للإثبات من دون أن تلاحظ حتى. فمع أن الجاذبية تكاد تصبح من المسلمات في زماننا، إلا أنها من الممكن أن "تثبت" كقانون أو حتى كنظرية. والجميل في العلم هو أن كل الأمور المسلم بها مرتبطة ببعضها وبينها بين القوانين والنظريات علاقات رياضية ومنطقية. وهذا يجعل العلم راسخ البنيان لا يسهل ثنيه.
نتكلم أكثر عن الأمثلة والاستخدامات ما تعلمناه عن النقد في الكتاب الثامن...
**************************************
دليل الإدانة هو مصطلح اخترته للتعبير عن الدليل المستخدم لإيجاد الخطب في القول أو النقد. وهذا الدليل يستخدم من طرف ثالث (الحكم الكلامي) لتقرير المنتصر في حالة النقاش غير المحتم (وهذا فلسفة في اغلب الأحيان وليس علماً). هذا يختلف عن دليل الإدانة المعروف، فدليل الإدانة في القانون قد يتضمن الدلائل الملموسة من ملاحظات وتجارب.
-ولما نحتاج أن نفرق بين هذا الدليل واي من أدلة الطريقة العلمية التي سبق لنا التكلم عنها
لان الدليل هذا يستخدم لإيجاد الخير بين قولين أو أكثر وليس العمل على دعم شيء ما. فالتجارب على سبيل المثال لا تقرر الخير في أحد القولين بل تدعم واحداً وتنكر الآخر. ولكن أدلة الإدانة تنهي قول أحد الطرفين استناداً على المنطق والاستنتاج وحده.
-ولما تنفي قول أحد الطرفين من دون الآخر؟
لعدم صلاحية المحاور أو لاختلال المنطق في أحد القولين (ببساطة هذه
-نحتاج أمثلة!
قال ابن سالم أن جليل سرق دراهمه وكان رد جليل أن ابن سالم يفتري عليه الكذب. المشكلة هي انعدام أي دليل مادي يدعم أي من القولين. هنا يمكن أن توقع أحد الاثنين بخطأ في ادعائه حتى تضع دليل للإدانة أو من الممكن الاحتكام لأكثر الاستنتاجات منطقيةً (نعم الموضوع يستخدم في قضايا واقعية ويعتبر طريقة من طرق استخراج الحقائق في محاكم اغلب الدول) ...
دليل الإدانة هذا هو السبب الأساسي من وجود الحكمة، فمع تعدد الاستنتاجات والأفكار تكثر الأخطاء والترهات. وهنا تأتي الحكمة لتأخذ أفضل ما قد قيل في كل شيء حتى ينتهي الأمر بمعرفة انقى بقليل. والحكمة تختلف عن الطريقة العلمية في الوسيلة ولكن لكلاهما نفس الهدف (دحر المعارف غير الصحيحة).
-ما هي الحكمة؟
الحكمة هي كم من المبادئ الفكرية التي وضعها البشر ليعكسوا خبرتهم وحكمهم في قرارهم وقرار غيرهم. أو كما عرفناها في كتاب الفلسفة "هي سبيل البحث عن الحقيقة".
والكل يستطيع أن يكون "حكيماً" لكن لا تكون الحكمة إلا لمن أثبت صلاحية خبرته وحكمه في الاستنتاج واتخاذ القرار.
الحكمة تعمل على وضع أدلة الإدانة لكي يدحض الفكر البشري أي معتقد غير مسنود أو غير مفيد. ولكنه من الصعب أن تنتهي العملية من دون مقاومة من قبل المدافعين عن ذلك المعتقد. وهذا هو السبب وراء بقاء بعض الأفكار في عقول أصحابها حتى بعد صور دليل إدانتها. واغلب هذه الأفكار أو المعارف هي مزيج بين الحقيقة والكذب وهذا في الغالب سبب استمراريتها عند البعض (التنجيم مثال ممتاز لمثل هذه الأفكار).
أنواع هذه الأدلة:
-دليل تاريخي: وهو أن تثبت (تاريخياً) أن المتكلم غير مؤهل لوضع قوله ا وان للناقد مصلحة فيما يقول. وهذا أضعف دليل في الحكمة ولكنه ينفع إن استخدم بالطريقة الصحيحة.
مثال: لا يحبذ الأخذ بكلام شخص عرف عنه الكذب وتشويه الحقائق. فلو أتاك شيء لم يثبت خطئه من هذا الشخص فالأفضل أن تتركه. وهذا الدليل يستخدم ضد أرسطو في زمننا. لان أرسطو كتب في اغلب "علوم" زمانه ولكنه كان مخطئا في الكثير منها. فلو قلت لك أن أرسطو قال ذلك، فلك أن تشكك فيما قاله لأنك تعرف انه من الطبيعي أن يكون مخطئاً.
-دليل الخبرة: وهو ألا يؤخذ بكلام شخص لا خبرة له في موضوع الكلام. أو على الأقل يشكك الناقدون بكلامه لانعدام خبرته.
مثال: لا يجب الأخذ بكلام شخص لا خبرة له بالفيزياء فيما يخص حساب الطول الموجي لاحتمالية تواجد بوزترون في نظام نسبي ذي قصور في حتمية الموقع (مع انعدام تأثير الجاذبية وثبات حالة الزخم الزاوي للجسيم).
-دليل الإسناد: وهو أن يكون القول غير مسنوداً أصلاً فلا يصح الأخذ به وان كان صحيحاً.
مثال: يوجد كائنات فضائية في مكان ما في هذا الكون. (أو العكس)
-دليل الإثبات: وهو أن يكون كلامك مسنودا ولكن ليس من السهل تطبيقه ودعمه بالحقيقة. أو قد يكون يناقض الحقيقة في بعض أقسامها. (والحقيقة هي كل ما سلم به)
مثال: نظرية الأوتار في الفيزياء
----------------
دعني أناولك الآن بعض الأخطاء الشائعة عند النقاش والمناظرة:
-أول الأخطاء شيوعا هو الخوض في الرأي والتناقض من دون دليل وبرهان, وهذا يحرف الموضوع عن السياق.
**مثال** (وهذا يحصل في تسع وتسعين بالمئة من المواضيع ذات الأساس التاريخي)
-عدم فهم السؤال والكلام من دون البحث في مطروح ذلك السؤال
-الخروج عن الموضوع
-مغالطة المعارف (وخصوصاً استخدام المعرفة الإلهية لنقض المعرفة الفكرية أو العكس)
-عدم تعريف المفاهيم (هذي أكبر مشكلة في نظري)
-عدم الخوض في التاريخ والبيئة المحيطة بالنقش
مثال: الكلام في مكافحة الاحتكار الاقتصادي بين طلاب مرحلة ابتدائية ليس اختياراً صائباً (في اغلب الحال على الأقل)، أو الكلام عن لعبة الهوكي مع سكان كندا (احفظ ماء وجهك واترك الموضوع)
-التحيز وعدم التصديق بالحجج لأنها تناقض فكرك (كل ابن ادم خطاء، وأنت من أبنائه)
----------------
بعض الكلام في النقد:
عند استخدام الحكمة والدلائل للنقد والتفنيد، فعلى الناقد أن يتحرر من كل أفكاره وتقاليده وعاداته حتى يترك التحيز، وهذه أفضل طريقة لاستخدام الدليل للنقد الخالص. في فلسفتنا لا يجوز التحرر من الأخلاق لأنها تعبر عن المعرفة الإلهية عندنا. وركز على أن الهدف من الخوض في النقاش هو أن تجد الحقيقة وليس أن تثبت صحة قولك أو نقدك. ولكن لا تستسلم بسهولة واجتثي على كلامك قدر المستطاع...
لعلك الآن تريد أن تعرف كيف تطبق كل هذه الأمور. ولكون أوراق أمثلتي باثق ذبولها، أتيتك بمناظرة بسيطة وسلسة بين ايلون ماسك وجاك ما...
سبب استخدامي لهذه المناظرة هي لان "جاك ما" بعيد كل البعد عن الطريقة العلمية. و"ايلون" مثال بحت على التحيز الفكري. هذا بالإضافة الى أن المناظرة تتمحور حول الذكاء الاصطناعي.
-لاحظ في بداية النقاش، ايلون يتكلم عن كيفية تفوق الذكاء الاصطناعي على القدرات البشرية (استخدم كلمة ذكاء في هذا المحل). وأول مشكلة هي أن كل من الطرفين لم يقم بتعريف الذكاء وهو تعبير نسبي في الفلسفة.
-المقارنة بين علاقة البشر بالشمبانزي وعلاقتهم بالذكاء الاصطناعي غير فعالة البتة، وهذا لان الذكاء الاصطناعي تطبيق للمنطق البشري على عكس البشر (فهم ليسوا تطبيقاً للمنطق الشمبانزي).
-بعدها يتكلم ايلون عن اقتران البشر بالتكنولوجيا وهنا يقع في أكثر من خطأ. أول شيء، كلامه عن تعلق البشر بهواتفهم فيه منطق استقرائي وهذا لأنه يحاول أن يقول: البشر يقتربون من هواتفهم أكثر فأكثر لذا فهم يقتربون من الاعتماد الكلي على الذكاء الاصطناعي. وهذا الكلام سليم منطقياً، لكن ايلون يبدأ الكلام عن انخفاض الإنتاج المعرفي لان الشخص أصبح يستخدم أصبعين بدل عشرة؟! (حسناً، يبدوا انه لا يعترف بان هناك أنواع مختلفة للإنتاج المعرفي غير الكتابة). ويقطع كلام ايلون عندما يقارن سرعة الحاسوب بالبشر. ولعله هنا يعرف الذكاء من وجهة نظره على انه سرعة الاستقبال، والتحليل، والإجابة. ولكن هل سرعات الحاسوب الفائقة تعوض عن الإنتاج البشري البطيء؟
*حاول تكمل المناظرة وراح تشوف مشاكل من قبل الطرفين. حلل كل عبارة، أو قول، أو نقد في المناظرة. حاول تعكس الطريقة العلمية، التحليل المنطقي، والأدلة (بمختلف أنواعها) في كلام الاثنين. ومن الطبيعي أن تميل الى كلام ايلون لان "جاك ما" يتفوه بترهات... (تذكر أن تكون ناقداً للاثنين ولا تكن متحيزاً لفكرك)
____________________
خاتمة
لك الثناء أن اجتزت كلامي الممل ووصلت حتى النهاية. أتمنى أنك استفدت من كلام ابن سينا، واستميحك عذراً إن أخطأت في طريقة طرحي هذه. وأسلمك أن ذهبت بكلامي إلى أمور لم يكن لي أن أبحر فيها، فمن الصعب اختيار الكم المعرفي المناسب للعرض حتى تصل الفكرة. حاولت قدر الإمكان أن أكتب الموضوع في أسرع وقت ممكن ومن دون أي زيادة غير ضرورية، وهذا جعلني أتجاوز أو أقلل من الشرح في بعض الأمور. لكن لعلي أتكلم لاحقاً في بعض هذه الأمور التي لم تعط ما تستحق في هذا الموضوع (الرياضيات). وارجوا أن لا تشدوا على أخيكم في أي خطأ لغوي، فكلامي ممل لدرجة أنى لم اعد قراءته حتى أصحح أي من الأخطاء (أتمنى التصحيح التلقائي ما يخذلني) ... هذا واسأل القارئ ألا يكسر قوانين الكلام إن أراد التعليق عن الأمثلة والأمور المذكورة في الموضوع. وتذكر أن المعرفة الفكرية فيها الحسن والشين، وكل ما كتب في أخبار القدماء يحتمل الخطأ وأن هدفك كانسان هو أن تفكر وتتخذ المنطق سبيلاً. أؤمن أن كلامي لن يغير حال من أنكر الوجود الفكري، ولكن أوجبت على نفسي نقله حتى لا اندم بعدها.
الحمد للواحد وسؤلي منه أن يتقبل ويغفر، وصلواته وسلامه على النبي محمد وآله وصحبه
نبدأ باسم الله العليم الحكيم والصلاة والسلام على نبيه ورسوله العربي محمد،
وبعدُ: في الآونة الأخيرة، زاد الإقبال على المواضيع العلمية والفلسفية في المنتدى. قرر الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا أن يتعلم العربية حتى يكتب في هذا الشأن، وهو لا يرجوا من ذلك إلا منفعة من أراد أن ينتفع.
-لعل الهدف مما نكتب هو أن ننشأ قاعدة بيانات متواضعة لمن يريد أن يبحث أو يكتب في أي موضوع علمي أو فلسفي في المنتدى. هذا لا يعني باي شكل من الأشكال بان الموضوع يستهدف قليلي المعرفة في هذه الأمور، بل قد يكون العكس. أتمنى أنك، بإنهائك للموضوع، ستمتلك القدرة على النظر للمعرفة بشكل سليم.
-محتوى الموضوع راح يتم تحديثه وتوسيعه من قبلك (نعم أنت القارئ) فكلما اهتممت بالعلم والفلسفة، كلما زادت كمية النقاش في هذه النواحي، والنتيجة هي كمية مواضيع ذات طابع احترافي في المنتدى. كل هذا في بيئة يتم فيها النقاش من دون تحيز فكري.
نذير بداية-ألموضوع طويل شوي، لهذا راح أحاول اقسمه لأجزاء حتى تتمكن من قراءته على عدة جلسات. بداية الموضوع فلسفية مما يعني بعض الأمور الجدلية في أفكار قد تكون حساسة لدى البعض، أتمنى تفهم المادة المعروضة. هذا ونرجو من القارئ أن يأخذ المفيد ويترك أو يعدل ما يرى فيه خلل، فحتى ابن سينا من بني ادم، وكُتب على بني ادم أن يكونوا من الخطائين. *سامحونا على أي تقصير*
**************************************
الكتاب الأول: مقدمة
إن ما أؤمن به في هذا العالم هو أن المعرفة ارفع من أن يكون لها ثمن، فهو حق على هذى الجيل أن يعلم الذي بعده. هكذا هي سنتنا نحن البشر. لكن طابع الكسل فينا جعلنا نترك الكتب، لا بل نترك القراءة بحد ذاتها. نذهب الى مؤسسات تنشا جيلا من متخلفي الفكر الحر، حتى ينتهي بنا المطاف محصورين بين حيطان الفكر الذي بدأه السابقون. ندافع عن أفكار بشر وكأنها كلام مقدس منزه عن الخطأ.
دفع العلم المزيف هذا البشر إلا ما سموه لاحقا بالفلسفة. فلم تكن الفلسفة إلا نقد وتفنيدا لما جاء به الأولون، ثم بنينا لهذا النقد قواعد وأسس لتعميم الفكرة. أنشأت فكرة النقد والتفنيد جيلا من ذوي الإيمان المطلق بدراسة المنطق، حتى أن بعضهم ذهب لتفنيد السنن البشرية والقوانين الأخلاقية. وهنا بدأت الحروب الفكرية. قد يسألني القارئ عن سبب إقراني العلم بالفلسفة، والجواب في مجمله هو انهما يتشاركان في الفكرة الرئيسية، وهي تفنيد الأفكار والتعديل عليها. في الحقيقة، العلم والفلسفة كانا شيئا واحدا في يوم من الأيام.
الحُكْم نتيجة الحِكمة، والعلم نتيجة المعرفة، فمن لا حكمة له لا حُكْمَ له، ومن لا معرفة له لا علم له
دعنا أولاً نعرف بعض الألفاظ البسيطة قبل أن نكمل:
-ألمعرفة: هي مجمل ما بناه جنسنا على مر العصور من طرق، وحرف، وعلوم، وأساليب، ومجالات، ولغات، وأفكار.
-العلم: هو المعرفة المنظمة على أساس البحث والملاحظة وفق مبادئ الفكر والمنطق. ويجدر التنويه الى أن العلم كان معرفا من قبل الفلاسفة علا انه الاطلاع على المعرفة بمشتقاتها. وهو تعريف حرفي للغاية لو سألتني.
*لعل الفرق بين العلم والمعرفة هو أن الأولى اشمل من ناحية ما تحويه من مضمون، أما العلم فهو طابع البشرية في التعرف على الحقائق وإسنادها بالأدلة.
-الفلسفة: هي فن نقد المعرفة (بهذه البساطة). لكن لا يراد من هذا النقد أن يكون مهاوشة كلامية، بل يجب أن يكون وفق أسس متفق عليها من قبل الطرفين.
- الحكمة: كل سبيل سلكناه من اجل إيجاد الحقيقة، على أن يكون مسنوداً على أسس وقوانين.
فلنعد لتطور المعرفة ذاك، حيث وصلنا الى ما يسميه معض المؤرخين بحروب الفكر، وهي فترة تطور فيها النقد البشري حتى بدأ يشمل صراعات فكرية في الدين، والسياسة، وشتى نواحي الحياة. وعكس غالبية فترات التأريخ، نحن ننظر الى فترة تعاد بين الفينة والأخرى. بل أرى أنها دائما متواجدة ما دمنا نحن متواجدين، فهي طابع من طوابع البشر. (محبين للمشاكل...)
طبعاً، بعدها يطلعك كم واحد بارد دم مثل جون دالتون ولفوزييه ويشطبلك على الفلسفة (اسف، انفعلت شوي).
حاول أمثال هؤلاء العبث في التنظيم الأساسي للمعرفة، حتى أسسوا ما يسمى بالعلم وبالحركة العلمية الحديثة. راح تنفصل في هذي الحركة وشبيهاتها في الكتاب الرابع، لكن حاليا مالنا غير البكاء والعويل على أفكار القدماء، أو على الأقل هذا ما كان ليقوله أمثال Descartes (احم).
**************************************
الكتاب الثالث: في مبادئ الفلسفة
حسبنا ما كُتِب من شروح لمذاهب القدماء، فقد آن لنا أن نضع فلسفة خاصة بنا
ممكن الفكرة فيها شيء من "المستحيل" في البداية، لكنني واثق بقدرة مجتمعنا (محب الجدل) على تبنيها.
فعلى سبيل المثال: نظرية الأوتار الفائقة هي شرح للتركيب الحركي في عالم الجسيمات. لو عندك أي اهتمام في الفيزياء الحديثة فراح تكون عارف أهمية هذه النظرية عند بعض رواد هذا المجال. لكن في نفس الوقت راح تكون عارف كمية الكره تجاه النظرية من قبل بعض أهل الاختصاص والباحثين.
- ولما هذا؟
لان النظرية عبارة عن رياضيات وكلام فاضي ما له أي سند في الحالة الفيزيائية أو علم الجسيمات (أنا اعتبر أحد مؤسسي النظرية جاهل في علم الجسيمات)
- ولماذا لا نزال متمسكين بالنظرية؟
النظرية فيها رياضيات تخليك تعتزل الحياة. وببساطة ما في حد قادر يقف أمام النظرية حتى لو كانت غير منطقية.
- هل هذا يعني أن هذه العلوم صحيحة، فهي لا تفند (صحيح؟)؟
هذا لا يعني شيء سوا أن هذه العلوم ستظل واقفة حتى يأتي ما هو أحسن منها ومن جنسها. مع أن هذه العلوم بعيدة عن التغير الفكري في الوقت الحالي، إلا انه يمكن تفنيدها ببساطة شديدة، لكن راح ينتهي النقاش من حيث بدا. فلا أنت راح تقتنع، ولا خصمك راح يقتنع وهذا ما اسميه بالنقاش العقيم.
- وما هي فلسفتنا هذه؟
هي المنطق في أن تدعم الكلام أو تفنده حتى ينشرح القلب الى أحد الطرفين، فلو شككت في امر اذهب وابحث حتى يأتيك اليقين (وهو قادم ما دمت باحثا عنه). لكن لا تكف عن رأيك حتى تجد الخير في غيره، فلو كان المرء عاقلا، علم بان بعض الكلام في الدنيا حلو معسول، وهذا لا يرجح الخير فيه حصراً.
وأتمنى أن تعلم بأن "الباحث عن الحقيقة ليس هو من يدرس كتابات القدماء على حالتها ويضع ثقته فيها، بل هو من يُعلّق إيمانه بهم، ويتساءل ما الذي جناه منهم؟ هو الذي يبحث عن الحجة، ولا يعتمد على أقوال إنسان طبيعته يملؤها كل أنواع النقص والقصور؛ وبالتالي فإن من الواجب على من يحقق في كتابات العلماء- إذا كان البحث عن الحقيقة هدفه - أن يستنكر جميع ما يقرؤه، ويستخدم عقله حتى النخاع لبحث تلك الأفكار من كل جانب، وعليه أن يتشكك في نتائج دراسته أيضًا؛ حتى يتجنب الوقوع في أي تحيز أو تساهل."
*أوجب على نفسي أن أُبلغك بالمشكلة الأساسية في هذه فلسفة قبل أن نصل لموضوع العلم، وهذه المشكلة هي اللغة. فلغة بقدرات وقواعد رصينة كالعربية تسهل السرد والكلام عن غالبية الأمور ولو كانت غير متأصلة باللغة نفسها. ولكن يضل من الصعب أن أوصل الفكرة في اللغة بعد أن درست ما درست من الفلسفة والعلم بلغة أعجمية. فلو واجهت أي صعوبة في فهم أي موضوع، فهذا يدل في الغالب على طرحي السيء وليست المشكلة في استيعابك. فأرجوك أن تسال وتستفسر إن احتجت الى ذلك...
دعنا نباشر في اهم جزئيتين في هذا الكتاب وهما المنطق والعلة، حيث إن لهما حصة الأسد في حيازة الحكمة على تلك المرتبة "العلمية" في العصور الغابرة.
المنطق هو الحس البشري في تقديره للواقف والتمييز بين تراكيبها (أو الاستدلال البشري الخالص). وهذا هو تعريف كانط المبهم بالنسبة لي. ابن سينا عرف المنطق على انه فن تقييم الحجج والربط بين الحقائق. فهو الحس الذي يؤدي بالبشر الى الاستنتاج والاختيار من عدة افتراضات.لن أضع اللوم عليك إن لم تسلم بالتعريف، فالمنطق صعب التصور، وما هو الى حجة لوضع أساس للفكر البشري. لكن لتسهيل الأمر عليك، أتيتك بمثال:
محمد يعيش وحيداً مع قطته "شاني", وفي يوم من الأيام عاد محمد متعبا من عمله وقرر أن يأكل قطعة البسكويت التي تركها على المائد قبل مغادرته لعمله صباحا. لكنه تفاجا من اختفاء قطعة البسكويت تلك. يا ترى من الفاعل؟
قد يكون سارقا دخل وأكلها مثلا؟ أم هل شاني هي الفاعلة؟ وهل تأكل القطط البسكويت أصلا؟ أم...
فبمجرد تفكيرك بالسؤال أنت تستخدم المنطق، وهذا المنطق هو الذي يحدد واقعية الاختيارات ويأتيك بنتيجة من بينها (في هذه الحالة البحث عن سبب لاختفاء قطعة البسكويت).
-والمنطق يكون أما استنباطي أو استقرائي. الاستنباطي هو كل استدلال ذا أساس تتابعي (أي يبنى على معطيات).
مثال:
- كل الطيور لها أجنحة
- الدجاج من الطيور
- الدجاج لديه أجنحة
مثال: قصائد المتنبي في المدح والهجاء بليغة. هذا يعني أن قصائد المتنبي في الغزل بليغة أيضا.
وهذا مثال لاستنتاج تحليلي، أما لو أردت أن تجعله حتمي فتقول بان قصائد المتنبي بليغة (أي تعمم). لكن يجب أن يكون التعميم من جنس العمل فلا تقول كل كلام المتنبي بليغ بل تحصر القول على القصائد.
لاحظ أن استنتاج المنطق الاستقرائي ليس من اللازم أن يكون صحيحاً. لكن هذا لا يعني بالضرورة انه لا ينفع. فللمنطق الاستقرائي استخدامات عديدة، والمثال أعلاه يعمل على إيصال الفكرة لا غير.
- هل هذا كل ما تحتاج أن نعرفه عن المنطق؟
نعم ولا. فاتن لست بحاجة للغوص في المنطق أكثر من هذا القدر إن أردت استخدامه في العلم. ولكن المنطق في دراسة الفلسفة طويلة قصته، ويصعب أنصافه في هذا الموضوع لعدة تعاريفه وتقسيماته.
والان لننهي مدخل الفلسفة بدراسة العلة... وهي القدرة على تطبيق المنطق والسيادة على كل الاستنتاجات بالربط بين المعلومات. (والمعلوم هنا هو ما حتم عليه أن يكون واقعا)
من الصعب التمييز بين العلة والمنطق عند البعض لهذا يقع الكثيرون في خطأ احتساب العلة والمنطق واحداً. وهما ابعد من أن يمثلا نفس الفكرة. فلو كان المنطق تقييم الحجج، فالعلة سبب ذلك التقييم وطريقته. ويجدر التنويه بان العلة في هذا السياق ليست بالعلة أي السبب، بل هي الفكر أو العقل. والعلة ممكن أن تكون منطقية أو استنتاجية. فالمنطقية هي بان تبني فكرك على المنطق وأساليبه. والاستنتاجية هي أن تبني حجتك على قواعد الحدس والملاحظات، وأحيانا قواعد المضاربة والنقد.
دعنا نأتي كل واحدة بمثال:
-العلة المنطقية: كل ما كتب الإنسان أكثر، كلما استخدم كم أكثر من وقته.
فهنا لو سألني أحدهم لماذا؟ أقول لان هنالك علاقة طردية بين القيام بعمل ما ونفاذ الوقت (وهذا منطق استقرائي). فهنا أنا بنيت فكرة على أساس المنطق حتى لو لم تكن صحيحة دائماً، وأتمنا بان هذا المثال أعطاك فكرة أفضل عن استخدامات المنطق وخصوصاً الاستقرائي.
-العلة الاستنتاجية: كان أكون جالساً في منزلي واشم رائحة شيء يحترق، أنا هنا أفكر في العديد من الاحتمالات والاستنتاجات الممكنة والعلة هنا استنتاجية ومستخلصة من الملاحظات.
مثال على علة واهية: كل كلام ابن سينا صحيح
*لا هذا ليس بمنطق استقرائي لأن في تلك الحالة ستكون قد بنيت المنطق على علة وهذا لا يجوز. تقول كيف؟
دعنا نأتي مصدر العلة المنطقي:
كلام ابن سينا في الفلسفة صحيح (لماذا؟ لان كلامه في المنطق والأخلاق صحيح!)
كل كلام ابن سينا صحيح
أما لو قلت بان كلام ابن سينا في الطب والفلسفة صحيح، فكلامه كله صحيح. فهاذا التعميم خرج عن جنس العمل وصار شمولياً بزيادة. طيب وكيف اعرف متى يصبح الاستنتاج شمولياً بزيادة؟ الجواب هو أن ترجع السند الى ما اسند اليه، فان كان في ذلك حرج (ولو القليل) كان الاستنتاج شمولياً. فهنا أسندت الفلسفة والطب الى الكلام وفي ذلك القليل من الحرج لان الطب والفلسفة ليسا من أنواع الكلام. بينما المدح والذم من أنواع القصائد. وكذلك غيره...
ممكن أعجزتك فكرة المنطق والعلة، وأحب أن أقول لك بانك لست الوحيد. فمانويل كانط أنكر العلة بحد ذاتها وكتب كتاباً سماه نقد العلة الخالصة أو نقد العقل المحض. لكننا ندرسها لأنها نجحت في اختبار الزمن وتعتبر مدخلاً مناسباً للعلم والطريقة العلمية.
**************************************
الكتاب الرابع: في أصول العلم
كل ما تكلمنا عنه حتى الآن هو مجرد مدخل لأرقى مراحل المعرفة الفكرية لدينا. فالعلم في تعريفه الصحيح ما هو إلا طريقة للتعبير عما نراه واقعا باستخدام الدلائل المنطقية والملاحظات. العلم في أصله مجرد طريقة للتعبير عن الحقيقة وليس ثابتا. هذا لا يحط من قيمته، بل على العكس. فهو طريقة تقابل منطقنا المتغير مع الواقع.
نستطيع القول بان بداية العلم الذي نعرفه كانت على يدي (أنا ابن سينا) وما أنا بمازح في قولي هذا. فالعلم بدأ على يد الأطباء، فهم أول من أقام حجته على فن التحليل والاستنباط. هذا بالإضافة الى تغيير الافتراض وفق المعطيات. ولكن لما ابن سينا بالتحديد؟
خلال عصر الظلمات الذي أحاط بالقارة الأوربية، كان المسلمون يقفون على أبواب الفكر محيطين بشتى معابره وسبله. وبعد أن بدأت القارة العجوز بصراعها السياسي الذي أدى في نهاية المطاف الى بداية عصر النهضة، كان المسلمون قد وصلوا الى المراتب العليا في كل أقسام العلم والمعرفة، حتى أن بغداد كانت أثينا ذاك الزمان.
وها نحن نتكلم عن شخصية هيمت بفكرها على كل علماء زمانها، حتى أنها كانت تحارب من جميع الأطراف. كان ابن سينا عبقريا بكل ما تعنيه العبارة، فكان ناقدا لمؤسسي الفلسفة الكلاسيكية ومجابها بفكره كبار الفلاسفة حتى بعد موته. كان مهتما ودارسا للرياضيات والفيزياء، بالإضافة الى اهتمامه بالحضارات واللغات. ولكنه لم يشتهر عند العرب والمسلمين لكل ذلك، بل ذاع صيته بالطب، ولا أنصفه أن قلت كان اهم طبيب في زمانه، بل لقبه بعض المؤرخين بابي الطب الحديث. اشتهر ابن سينا باتباعه للطريقة العلمية في استنتاجاته، ولم يعطه الغرب حقه في هذه. فهو من أوائل الذين طبقوا الطريقة العلمية، سابقا بذلك كل من جاء بعده بمئات السنين وتحديداً في القرن السابع عشر حيث كانت أوروبا تمر بما يسمونه الثورة العلمية. المشكلة في الثورة العلمية أنها هدمت الرابط بين العلم والفلسفة باسم العلم الخالص، منشئة بذلك أجيالا من حفظة العلوم وقليلي الخبرة في فلسفة المنطق. كان لهذا النوع من العلم الكثير من المعارضين، من أمثال ديكارت وروجر بيكن. فهم لم يحبوا الأساس الذي أنشأه العلماء في زمانهم وقالوا بأنهم يأخرون التقدم الفكري. ومع انهم كانوا على حق فيما يخص النقد الفكري إلا أن العلم استمر بالأثمار عموماً حتى وصلنا الى الثورة المعرفية الحديثة. وبعدها قام أمثال ديكارت وبيكن ببناء ما سموه في عصرهم بالطريقة العلمية.
دعنا نتعمق في معنى العلم ونتكلم عن علاقة الجاذبية بالمستوى الكمومي للأجسام. فهنا نحن نقارن قوانين الجاذبية التي تحكم مستوى الكتل الضخمة بنظرية المجال الكمي التي تتحكم في عالم الجسيمات الدقيق. في عالم ذي ثوابت كعالمنا، يجب أن تتواجد صيغة منطقية لربط المجالين ببعض. لكن في الحقيقة، العلم يعجز عن إيجاد رابط مقنع بين النظريتين. هذا يعني أن فهمنا لاحد العالمين أو كلاهما معلول. لكن قبل أن تتحمس، النظريتين أثبتتا صلاحيتهما في التعبير عن اغلب القيم الفيزيائية كالكتلة، والزخم، والشحنة، والطاقة. مما يعني... ما من عارف بمعنى هذه النتيجة، لكن هناك أكثر من استنتاج:-الاستنتاج الأول هو أن النظريتين يجب أن لا يرتبطا على الأطلاق، لكن هذا الرد غير مقنع كونه ينفي تأثير الجاذبية على المجال الكمي والعكس.
-بعض العلماء (ستيفن هوكنغ) رجح بانه من الصعب التعبير عن العالمين في علاقة رياضية منطقية لان تأثير الجاذبية ضئيل جداً في العالم المجهري الدقيق. لكن أكد هذا الفريق على تواجد علاقة بين الاثنين، نحن فقط نحتاج من يرى هذه العلاقة.
- رجح فريق آخر أن الجواب هو العلاقة الشبه عكسية بين مجال الجذب ومجال الحركة الدقيق للجسيمات، فلو افترضنا وجود موجات جاذبية ممكن يكون عندنا جسيمات جاذبية نسميها Gravitons, وهكذا تحل المشكلة.
كيف؟
لأن في هذي الحالة راح يكون عندنا جسيمات دقيقة تنقل قوة الجاذبية بين الأجسام الثقيلة
الجميل في هذا المثال الطويل نسبيا هو أننا تمكنا من قياس الموجات الجاذبية وتأكدنا من وجودها (من حوالي خمس سنين)، وهذا يعني انه من السليم أن نحصل على أل Gravitons. لكن هذا لا يحل المشكلة لأننا بنينا كل الفكرة على استنتاج وهذا لا يصلح لان التعريف يقول باننا نحتاج دلائل وملاحظات ولكن الاستنتاجات وحدها لا تفي بالغرض. تقول لي أين الاستنتاج من الأساس؟ الاستنتاج هو جسيمات أل Gravitons. فحتى لو حصلنا على موجات الجاذبية، ما الدليل على تواجد تمثيل جسيمي لهذه الموجات. ولو قلت لي أن علم الجسيمات ونظرية الكم يؤكدان على أل Particle-Wave Duality, اقل لك أننا لم نضع علاقة بعد بين عالم الكتل الثقيلة وعالم الجسيمات الدقيقة، فكيف لي أطبق قوانين هذه على تلك؟
هذا جعل شلة من البربرية يبادرون بما يسمونه بنظرية الأوتار، وهذه قصة ليوم آخر. لكن حتى الأخيرة لم تفلح لضعف مفهومها الفيزيائي. المشكلة التي تواجهنا الآن هي عدم وضوح التعريف، فالعلم لا يمكن أن يكون مجرد وجهة نظر مدعومة بالملاحظات والدلائل المنطقية. وما هي الدلائل المنطقية أصلاً؟
الدلائل المنطقية: هي استنتاجات تَدعم ولا تُدعم إلا بالمنطق. وهي نوعان، أما رياضية أو طريقة استنتاج في النقد الفلسفي. لكن دعنا من طرق الفلسفة هذه ولنركز على الرياضيات الآن. فالرياضيات تعتبر جزئا مهما من أي نظرية أو أي افتراض في كل شؤون العلم، بل وأستطيع أن أقول إنها هي الأهم في زماننا. هذا طبعا لفعالية الوسيلة في إرشادنا للحقيقة، فالرياضيات علم للتعبير عن العلم عن طريق المنطق والربط بين قوانينه. لكن الرياضيات لا تنفع في شيء من دون العلم لأنها في نهاية المطاف لا شيء سوا طريقة لتبسيط التصور البشري للظواهر.
لكن بشكل عام، يؤمن بعض "علماء" الرياضيات بان قوانينهم، وان لم تكن ذات معناً في الوقت الحالي، تمثل حقيقة علينا اكتشافها في المستقبل. فهم يرون أن الرياضيات هي أصل العلم وأساسه، وهي ليست أداة بل تعبيرا للحقيقة. ويؤسفني أن أقول بان هذا الكلام ليس بمعقول، فالرياضيات ليست حقيقة ولكنها دليل وتعبير عن الواقع الذي بنيناه بمنطقنا نحن البشر. وبما أن منطقنا يقبل التفنيد والتغيير فالرياضيات تقبله أيضا. قد تقول لي أن هناك علاقات رياضية لم تكن تعني شيئا في زمانها ولكنها كانت تمثيلا صحيحا للفيزياء بعدها بسنين. ولكن هذا لا يعد دليلا. لماذا؟ لأنك ببساطة تعكس استيعابك للطبيعة، وهذا يعني أن الطبيعة مرنة في التعبير ولا يعني أن استيعابك صحيح.
Ψ
تحليلي للفكرة:
دعني أسلم بان الرياضيات هي الحقيقة المطلقة ودعني أقم ببناء المنطق الاستقرائي..
تم استخدام الجبر الخطي ونظرية الاحتمالات من قبل ديراك لوصف الدالة الموجية في ميكانيكا الكم، هذا بالإضافة الى استخدام تحويلات لورينتز في النسبية بعد سنين من إيجاد العلاقة الرياضية. هذا يعني بان الجبر الخطي، ونظرية الاحتمالات، وتحويلات لورينتز كلهم كانوا هم الحقيقة. وانا هنا استنتج بان الرياضيات كلها هي الحقيقة المنطلقة.
هذا استنتاج منطقي لكنه يحتمل الإصابة والخطأ، وحتى تجد النتيجة الفعلية علينا إخضاع الاستنتاج للاختبار. وهنا لدينا عدة اختبارات:
- التفنيد بالمغالطة (إيجاد مثال قابل لدحض الاستنتاج بشكل كامل وواضح)
- التفنيد في استنتاج بديل (وضع استنتاج مغاير للاستنتاج الأول وقابل للتفنيد)
- التفنيد بالتعاريف
كل من درس الفلسفة يحب استخدام الطريقة الثالثة إن أمكن، ولو استخدمناها لانتهى النقاش من قبل أن يبدا حتى ولكنها طريقة كسولة لتجنب التفكير. فهنا أستطيع أن أقول بان الراضيات تسند الى المنطق، والمنطق لا يعد حقيقة ولكنه تعريفنا للحقيقة وهكذا انهي النقاش. فما من دارس يجرؤ إن يقول بان الفكر البشري هو الحقيقة بشكلها الصحيح لان المنطق البشري غير معرف أصلا.
لكنني أحب استخدام الاستنتاج البديل في مثل هذه الظروف فأقول مثلاً بان نيوتن بحث في نظرية التفاضل الرياضي لكي يعكس الحقيقة التي تتجسد في الحركة الميكانيكية للأجسام. وهذا يعني بان الافتراض الرياضي لا يجسد الحقيقة بل يعبر عنها. (وهذا الاستنتاج يمثل علة مبنية على الملاحظة لان نيوتن قام بدراسة الحركة قبل إيجاد تعبير عنها). ولو كانت الرياضيات هي الحقيقة، فكيف لنيوتن أن يعلمنا بالحقيقة قبل أن "يكتشفها" أصلا؟ المشكلة في استنتاجي هو بان تعريف الرياضيات ومدارسها مختلف ولعله من الأفضل أن نخصص لها موضوعها.
والان بعد أن تكلمنا عن والوجوب المنطقي لزوال العلم المتكامل وانعدام الحقيقة الرياضية، قد يبدأ البعض بالتقليل من قيمة العلم أو "قدرة" الرياضيات. لكن هذا التقليل غير جائز، فكمية الحقائق التي عبرنا عنها بمنطقنا الرياضي مهولة، والعلم هو السبب الأساسي في الثورة المعرفية التي نمر بها. وانا عندما دحضت فكرة الحقيقة الرياضية، لم أُرد إلا القول لك بان الرياضيات ليست أساسا فعلياً للعلم، بل لغة للتعبير عنه.
دعنا نجرب ما تكلمنا عنه حتى الآن ونحاول تفنيد شيء من المسلمات:
القول: "الهواء" فيه نسبة كبيرة من غاز النيتروجين
النقد: لا يشكل النيتروجين أي نسبة من "الهواء"
في أمور كهذه، لا يوجد أي استخدام للمنطق، وكل من القول والنقد يمثلان كلام غير مسنود (من دون دليل). ولكن على الناقد في هذه الحالة أن يبحث حتى يجد الصواب (والصواب هنا هو كل ما يدعم بالمنطق أو الدلائل). ولماذا الناقد؟ لأنه هو من أتى بالتغيير. فحتى لو كان القول غير مسنود، فلا حرج على من جاء به. ولكن يجدر التنويه الى أن القول في هذه الحالة مسنود ومستحيل دحضه لأنه يستند على الملاحظة والتجربة.
-ولكن ماذا لو لم يكن مدعوماً بدليل، هل يجوز أن يكون علماً؟
الحقيقة هو أن القول لا يحتاج الى دليل قاطع ليدخل إطار العلم
-وكيف لا يؤثر هذا على مصداقية العلم؟
لو قدر كل من هب ودب على القول، فللغير كامل الحرية في نقد رايه وتذكر القانون الكلامي السادس. فلو جاء أحدهم بكلام من دون إسناد، لك كامل الحرية في أن تأتي بكلام غيره من دون إسناد وهذا يعتبر التغيير (فهو من جنس القول) ...
أتمنى أن تتفهم سبب إقراني لفلسفة العلة والمنطق بالعلم، ففلسفة المنطق (وإن كانت عسيرة الفهم) أساس مهم للنقد والتفنيد في العلم... وتذكر أن "الباحث عن الحقيقة ليس هو من يدرس كتابات القدماء على حالتها ويضع ثقته فيها، بل هو من يُعلّق إيمانه بهم، ويتساءل ما الذي جناه منهم؟ هو الذي يبحث عن الحجة، ولا يعتمد على أقوال إنسان طبيعته يملؤها كل أنواع النقص والقصور؛ وبالتالي فإن من الواجب على من يحقق في كتابات العلماء- إذا كان البحث عن الحقيقة هدفه - وأن يستنكر جميع ما يقرؤه، ويستخدم عقله حتى النخاع لبحث تلك الأفكار من كل جانب، وعليه أن يتشكك في نتائج دراسته أيضًا؛ حتى يتجنب الوقوع في أي تحيز أو تساهل."
ألان دعني أُناولك التعريف المكتمل للعلم من نظرة الفلسفة:
العلم هو الاختبار البشري المستمر للمعرفة المتراكمة، ويعني بفهم الكون بشتى ظواهره وصفاته. ومن الممكن اعتباره المعرفة الفكرية الأنقى.
**************************************
الكتاب الخامس: في الطريقة العلمية والبحث المنهجي
ألطريقة العلمية هي ما قل وزنه وغلى ثمنه في هذا الموضوع. فعلى بساطة القول فيها، فهي تعتبر أساس لفهم العلم والتفرقة بين العلم الضعيف غير المسنود والعلم الراسخ. وقد ترى اختلافات بسيطة في شرح خطوات الطريقة على حسب المصدر، ولكني سأستخدم الفكرة العامة في هذا الموضوع فهي أكثر من كافية لإتقان فن النقد والحوار العلمي.
ولكن ما هي الطريقة العلمية؟
هي سبيل للتحقق من العلم والعمل على تحديث الفكر ونقده بالطريقة السليمة... والطريقة العلمية تمثل أفكار القرن السابع عشر عند الغرب. ولكنني سبق ووضحت أن الأطباء في عصر الإسلام كانوا أول من اتبع المنهجية هذه، سابقين غيرهم بمئات السنين.
لنبدأ بشرح خطوات الطريقة العلمية:
-ألملاحظة أو تعيين المشكلة: مثلاً لماذا تتحرك الأجسام؟ لماذا تسقط الأشياء؟ رؤية جسم مضيء في سماء الليل...كل هذه أسئلة وملاحظات بناءة. وهذه الأسئلة والملاحظات هي بداية العلم.
-البحث الأولي والسطحي: وهو أن تجرب سؤال مصادر تدعي القدرة على حل المشكلة (هذه خطوة تهمل في اغلب الكتب، ولكني أرى أن البحث الأولي واجب حتى لو لم تكن تريد أن تحصل على جواب لسؤالك من طرف آخر)
-وضع فرضية: وهي حل ممكن للمشكلة (شيء تفسر فيه الملاحظة أو تجيب به عن السؤال)، ولا يشترط أن يكون الافتراض صحيحاً أو مسنوداً على دليل.
-الاختبار والتجربة: وهنا تمتحن الفرضية بعدة اختبارات عملية ونظرية منطقية (هدفك دعم الفرضية، وهدف غيرك دحضها). في هذه الخطوة تحتاج الى إيجاد أكبر كم من الأدلة الفعالة وان تحاول قدر الإمكان ألا تناقض امسلمات عصرك (وهذا غير مشروط لكنه محبب لمن يضع الفرضية).
-تحليل النتائج: محاولة الربط بين نتيجة التجارب والفرضية. وهنا نصل الى قرار قبول الفرضية أو دحضها.
*كانت الفرضية صحيحة كليا (أي مطابقة للتجربة والاختبار) فهنا تقبل وننتقل الى الخطوة التالية. أما لو كانت الفرضية غير سليمة أو صحيحة جزئياً فيتم رفضها أو التعديل عليها حتى تقبل.
-ألنظرية والقانون: بعد قبول الافتراض، يتحول في الغالب الى نظرية أو قانون. القانون هو قول يصف أو يتنبأ بالظواهر الطبيعية من دون ذكر سببها. والنظرية هي قول يعني في سبب الظواهر وطريقة عملها.
*وهنا لا يجوز أن نقارن بين قوة القانون أو النظرية، فكلاهما مدعومان بأدلة وكلاهما قابلان للتغيير بالمستقبل.
-البحث المستمر: وهنا نستمر في اختبار النظريات والقوانين والتغيير عليها. ومن المحتمل أن تدحض النظريات والقوانين بشكل كامل أن ثبت عدم صحتها.
*اغلب بحوثات عصرنا تعني في الخطوة الأخيرة من الطريقة العلمية، وهناك القليل مِمن يضعون الافتراضات أو يختبرونها.
Ψ
بعد أن أنهينا قوانين الكلام العشرة والطريقة العلمية، سيكون بالإمكان أن نحلل أي قول أو نقد في المحتوى العلمي. ولكن قبل أن تبدأ بالكلام عن "الي في بالي"، علينا أن نفهم أن للعلم مسلمات. وهذه المسلمات هي الملاحظات غير القابلة للنقد بطبيعته البدائية. كان تقول بان لون البرتقال ازرق، ففي هذه الحالة أنت لا تضع فرضية بل أنت تنسف الملاحظة. وهذا هو أحد اهم أسباب النقاش العقيم في بعض مواضيع هذه الأيام.
-ولكن ماذا لو كانت هذه الملاحظات نسبية (لا يستطيع الجميع أن يرى لون البرتقال)؟
هذا قد يعطيك الحق في الشك، لكن لا يمكنك التغيير حتى تأتي بملاحظة تختلف عن المسلم به (ولا تنفع الافتراضات في هذه الحالة). الخيار الثاني هو نقد الحجة بدليل فلسفي أو رياضي مباشر. ولكن الفلسفي لا يمكن أن يكون منطقاً استقرائية أو علة مبنية عليه. فلا يجوز استخدام ما يمكن تفنيده للنقد. لو استعصى عليك نقد الحجة المباشر ذاك، فالموضوع يستحيل تفنيده من دون برهان من جنس القول (عليك أن تأتي ببرتقالة طبيعية لونها ازرق ثم عليك أن تستخدم المنطق الاستقرائي "للتعميم"، ويصبح قولك صحيح مادام منطقك لم يفند). ولاحظ أن استخدام المنطق الاستقرائي بعد الملاحظة جائز...
*في الحقيقة، اغلب المسلمات العلمية قابلة للإثبات من دون أن تلاحظ حتى. فمع أن الجاذبية تكاد تصبح من المسلمات في زماننا، إلا أنها من الممكن أن "تثبت" كقانون أو حتى كنظرية. والجميل في العلم هو أن كل الأمور المسلم بها مرتبطة ببعضها وبينها بين القوانين والنظريات علاقات رياضية ومنطقية. وهذا يجعل العلم راسخ البنيان لا يسهل ثنيه.
نتكلم أكثر عن الأمثلة والاستخدامات ما تعلمناه عن النقد في الكتاب الثامن...
**************************************
الكتاب الثامن: الحكمة ودليل الإدانة
دليل الإدانة هو مصطلح اخترته للتعبير عن الدليل المستخدم لإيجاد الخطب في القول أو النقد. وهذا الدليل يستخدم من طرف ثالث (الحكم الكلامي) لتقرير المنتصر في حالة النقاش غير المحتم (وهذا فلسفة في اغلب الأحيان وليس علماً). هذا يختلف عن دليل الإدانة المعروف، فدليل الإدانة في القانون قد يتضمن الدلائل الملموسة من ملاحظات وتجارب.
-ولما نحتاج أن نفرق بين هذا الدليل واي من أدلة الطريقة العلمية التي سبق لنا التكلم عنها
لان الدليل هذا يستخدم لإيجاد الخير بين قولين أو أكثر وليس العمل على دعم شيء ما. فالتجارب على سبيل المثال لا تقرر الخير في أحد القولين بل تدعم واحداً وتنكر الآخر. ولكن أدلة الإدانة تنهي قول أحد الطرفين استناداً على المنطق والاستنتاج وحده.
-ولما تنفي قول أحد الطرفين من دون الآخر؟
لعدم صلاحية المحاور أو لاختلال المنطق في أحد القولين (ببساطة هذه
-نحتاج أمثلة!
قال ابن سالم أن جليل سرق دراهمه وكان رد جليل أن ابن سالم يفتري عليه الكذب. المشكلة هي انعدام أي دليل مادي يدعم أي من القولين. هنا يمكن أن توقع أحد الاثنين بخطأ في ادعائه حتى تضع دليل للإدانة أو من الممكن الاحتكام لأكثر الاستنتاجات منطقيةً (نعم الموضوع يستخدم في قضايا واقعية ويعتبر طريقة من طرق استخراج الحقائق في محاكم اغلب الدول) ...
دليل الإدانة هذا هو السبب الأساسي من وجود الحكمة، فمع تعدد الاستنتاجات والأفكار تكثر الأخطاء والترهات. وهنا تأتي الحكمة لتأخذ أفضل ما قد قيل في كل شيء حتى ينتهي الأمر بمعرفة انقى بقليل. والحكمة تختلف عن الطريقة العلمية في الوسيلة ولكن لكلاهما نفس الهدف (دحر المعارف غير الصحيحة).
-ما هي الحكمة؟
الحكمة هي كم من المبادئ الفكرية التي وضعها البشر ليعكسوا خبرتهم وحكمهم في قرارهم وقرار غيرهم. أو كما عرفناها في كتاب الفلسفة "هي سبيل البحث عن الحقيقة".
والكل يستطيع أن يكون "حكيماً" لكن لا تكون الحكمة إلا لمن أثبت صلاحية خبرته وحكمه في الاستنتاج واتخاذ القرار.
الحكمة تعمل على وضع أدلة الإدانة لكي يدحض الفكر البشري أي معتقد غير مسنود أو غير مفيد. ولكنه من الصعب أن تنتهي العملية من دون مقاومة من قبل المدافعين عن ذلك المعتقد. وهذا هو السبب وراء بقاء بعض الأفكار في عقول أصحابها حتى بعد صور دليل إدانتها. واغلب هذه الأفكار أو المعارف هي مزيج بين الحقيقة والكذب وهذا في الغالب سبب استمراريتها عند البعض (التنجيم مثال ممتاز لمثل هذه الأفكار).
أنواع هذه الأدلة:
-دليل تاريخي: وهو أن تثبت (تاريخياً) أن المتكلم غير مؤهل لوضع قوله ا وان للناقد مصلحة فيما يقول. وهذا أضعف دليل في الحكمة ولكنه ينفع إن استخدم بالطريقة الصحيحة.
مثال: لا يحبذ الأخذ بكلام شخص عرف عنه الكذب وتشويه الحقائق. فلو أتاك شيء لم يثبت خطئه من هذا الشخص فالأفضل أن تتركه. وهذا الدليل يستخدم ضد أرسطو في زمننا. لان أرسطو كتب في اغلب "علوم" زمانه ولكنه كان مخطئا في الكثير منها. فلو قلت لك أن أرسطو قال ذلك، فلك أن تشكك فيما قاله لأنك تعرف انه من الطبيعي أن يكون مخطئاً.
-دليل الخبرة: وهو ألا يؤخذ بكلام شخص لا خبرة له في موضوع الكلام. أو على الأقل يشكك الناقدون بكلامه لانعدام خبرته.
مثال: لا يجب الأخذ بكلام شخص لا خبرة له بالفيزياء فيما يخص حساب الطول الموجي لاحتمالية تواجد بوزترون في نظام نسبي ذي قصور في حتمية الموقع (مع انعدام تأثير الجاذبية وثبات حالة الزخم الزاوي للجسيم).
-دليل الإسناد: وهو أن يكون القول غير مسنوداً أصلاً فلا يصح الأخذ به وان كان صحيحاً.
مثال: يوجد كائنات فضائية في مكان ما في هذا الكون. (أو العكس)
-دليل الإثبات: وهو أن يكون كلامك مسنودا ولكن ليس من السهل تطبيقه ودعمه بالحقيقة. أو قد يكون يناقض الحقيقة في بعض أقسامها. (والحقيقة هي كل ما سلم به)
مثال: نظرية الأوتار في الفيزياء
----------------
دعني أناولك الآن بعض الأخطاء الشائعة عند النقاش والمناظرة:
-أول الأخطاء شيوعا هو الخوض في الرأي والتناقض من دون دليل وبرهان, وهذا يحرف الموضوع عن السياق.
**مثال** (وهذا يحصل في تسع وتسعين بالمئة من المواضيع ذات الأساس التاريخي)
-عدم فهم السؤال والكلام من دون البحث في مطروح ذلك السؤال
-الخروج عن الموضوع
-مغالطة المعارف (وخصوصاً استخدام المعرفة الإلهية لنقض المعرفة الفكرية أو العكس)
-عدم تعريف المفاهيم (هذي أكبر مشكلة في نظري)
-عدم الخوض في التاريخ والبيئة المحيطة بالنقش
مثال: الكلام في مكافحة الاحتكار الاقتصادي بين طلاب مرحلة ابتدائية ليس اختياراً صائباً (في اغلب الحال على الأقل)، أو الكلام عن لعبة الهوكي مع سكان كندا (احفظ ماء وجهك واترك الموضوع)
-التحيز وعدم التصديق بالحجج لأنها تناقض فكرك (كل ابن ادم خطاء، وأنت من أبنائه)
----------------
بعض الكلام في النقد:
عند استخدام الحكمة والدلائل للنقد والتفنيد، فعلى الناقد أن يتحرر من كل أفكاره وتقاليده وعاداته حتى يترك التحيز، وهذه أفضل طريقة لاستخدام الدليل للنقد الخالص. في فلسفتنا لا يجوز التحرر من الأخلاق لأنها تعبر عن المعرفة الإلهية عندنا. وركز على أن الهدف من الخوض في النقاش هو أن تجد الحقيقة وليس أن تثبت صحة قولك أو نقدك. ولكن لا تستسلم بسهولة واجتثي على كلامك قدر المستطاع...
لعلك الآن تريد أن تعرف كيف تطبق كل هذه الأمور. ولكون أوراق أمثلتي باثق ذبولها، أتيتك بمناظرة بسيطة وسلسة بين ايلون ماسك وجاك ما...
سبب استخدامي لهذه المناظرة هي لان "جاك ما" بعيد كل البعد عن الطريقة العلمية. و"ايلون" مثال بحت على التحيز الفكري. هذا بالإضافة الى أن المناظرة تتمحور حول الذكاء الاصطناعي.
-لاحظ في بداية النقاش، ايلون يتكلم عن كيفية تفوق الذكاء الاصطناعي على القدرات البشرية (استخدم كلمة ذكاء في هذا المحل). وأول مشكلة هي أن كل من الطرفين لم يقم بتعريف الذكاء وهو تعبير نسبي في الفلسفة.
-المقارنة بين علاقة البشر بالشمبانزي وعلاقتهم بالذكاء الاصطناعي غير فعالة البتة، وهذا لان الذكاء الاصطناعي تطبيق للمنطق البشري على عكس البشر (فهم ليسوا تطبيقاً للمنطق الشمبانزي).
-بعدها يتكلم ايلون عن اقتران البشر بالتكنولوجيا وهنا يقع في أكثر من خطأ. أول شيء، كلامه عن تعلق البشر بهواتفهم فيه منطق استقرائي وهذا لأنه يحاول أن يقول: البشر يقتربون من هواتفهم أكثر فأكثر لذا فهم يقتربون من الاعتماد الكلي على الذكاء الاصطناعي. وهذا الكلام سليم منطقياً، لكن ايلون يبدأ الكلام عن انخفاض الإنتاج المعرفي لان الشخص أصبح يستخدم أصبعين بدل عشرة؟! (حسناً، يبدوا انه لا يعترف بان هناك أنواع مختلفة للإنتاج المعرفي غير الكتابة). ويقطع كلام ايلون عندما يقارن سرعة الحاسوب بالبشر. ولعله هنا يعرف الذكاء من وجهة نظره على انه سرعة الاستقبال، والتحليل، والإجابة. ولكن هل سرعات الحاسوب الفائقة تعوض عن الإنتاج البشري البطيء؟
*حاول تكمل المناظرة وراح تشوف مشاكل من قبل الطرفين. حلل كل عبارة، أو قول، أو نقد في المناظرة. حاول تعكس الطريقة العلمية، التحليل المنطقي، والأدلة (بمختلف أنواعها) في كلام الاثنين. ومن الطبيعي أن تميل الى كلام ايلون لان "جاك ما" يتفوه بترهات... (تذكر أن تكون ناقداً للاثنين ولا تكن متحيزاً لفكرك)
____________________
خاتمة
لك الثناء أن اجتزت كلامي الممل ووصلت حتى النهاية. أتمنى أنك استفدت من كلام ابن سينا، واستميحك عذراً إن أخطأت في طريقة طرحي هذه. وأسلمك أن ذهبت بكلامي إلى أمور لم يكن لي أن أبحر فيها، فمن الصعب اختيار الكم المعرفي المناسب للعرض حتى تصل الفكرة. حاولت قدر الإمكان أن أكتب الموضوع في أسرع وقت ممكن ومن دون أي زيادة غير ضرورية، وهذا جعلني أتجاوز أو أقلل من الشرح في بعض الأمور. لكن لعلي أتكلم لاحقاً في بعض هذه الأمور التي لم تعط ما تستحق في هذا الموضوع (الرياضيات). وارجوا أن لا تشدوا على أخيكم في أي خطأ لغوي، فكلامي ممل لدرجة أنى لم اعد قراءته حتى أصحح أي من الأخطاء (أتمنى التصحيح التلقائي ما يخذلني) ... هذا واسأل القارئ ألا يكسر قوانين الكلام إن أراد التعليق عن الأمثلة والأمور المذكورة في الموضوع. وتذكر أن المعرفة الفكرية فيها الحسن والشين، وكل ما كتب في أخبار القدماء يحتمل الخطأ وأن هدفك كانسان هو أن تفكر وتتخذ المنطق سبيلاً. أؤمن أن كلامي لن يغير حال من أنكر الوجود الفكري، ولكن أوجبت على نفسي نقله حتى لا اندم بعدها.
رُبّ التُراب ذاكَ الذي جَمعَ مِن نَفسهِ فكراً سَخرهُ مِرآةً حَتى يَرى نَفسَهُ
الحمد للواحد وسؤلي منه أن يتقبل ويغفر، وصلواته وسلامه على النبي محمد وآله وصحبه
التعديل الأخير: