hits counter

لو أكتب قصة قصيرة ..

Sam.

fire walk with me





عندما انتهى العالم






في ليلة كئيبة التقى رجل غير عادي بعجوز عادية ...
قيل قد همس لها بثلاث كلمات وقيل بل خمسة ...
للحظات مر ببيتها على اطراف قريتها النائية قبل ان يتلاشى كأن لم يكن ..
قيل ان ما همس به قد غير العالم وقيل بل دمره ...




9ZMtuVE.jpg





لا افهم .. قالتها بيأس وهي تستعد لتدوين تقريرها الاخير عن الحالة , كانت مختصة في الاضطرابات النفسية للاطفال ومع خبرتها الطويلة تمر بأولى لحظات عجزها كطبيبة فحين عرضوا عليها مسألة الطفلة ريم ظنتها في البداية مجرد حالة عادية لرهاب الاطفال لكن الطفلة وكما بدا لها وبمخيلة جامحة تصنع لنفسها الخوف .. تبتكره بإبداع عجيب ليتناسب مع كل لحظات يومها , لم يكن خوفها كبقية الاطفال من الظلام او الحشرات او الحيوانات الاليفة كان ببساطة من كل الاشياء حولها جمادات او مخلوقات كلها كانت بنظرها قابلة للتحول الى الشيء الذي تسميه دب كبير ليأكلها حتى ابوها كان المتحول الافتراضي الاشد ارعابا لها فبنظرها كانت قدرته على التحول الى الدب اسرع حتى من دولاب غرفتها الذي كانت تخشاه بجنون الى ان ابعدوه عن حجرتها .....
امسكت الطبيبة بقلم وبكلمات بسيطة ختمت تقريرها : والخلاصة ان ريم تعتبر كل ماعدا امها دب متخفي قد يتحول في اي لحظة ليأكلها ...

وبعد اشهر سيصلها خبر وفاة الام بتوقف مفاجئ في القلب وستجد نفسها في موقف عجيب تحاول فيه اقناع الاب بالتخلي عن ابنته فترة الصيف في مكان مختلف قد يحسن من حالتها وما كان من الاب ومع ارهاقه من نوبات صراخها التي تضاعفت مع موت زوجته إلا ان تحمس للفكرة ليرسلها الى عمته في قريته الام ....
وكانت العمة ارملة عجوز تعيش بمفردها في بيت على اطراف القرية وبالقرب منه بيت ابنتها الوحيدة التي تزوجت وقبلت الحياة في قريتها البسيطة وهي على قلة سكانها كانت بيوتها متناثرة تمتد على مساحات مترامية وتتوسط القرية مدرسة للأولاد واخرى للبنات وينتهي طريقها بمسجد ومركز صحي بسيط ...
وبلا اسئلة قبلت عمته برعاية ريم وان خمنت ان ابن اخيها ربما يخطط لزواج جديد وفي الصباح زارت الطبيبة القرية وهي تفكر كواجب اخير تجاه مريضتها لو ترى بنفسها مدى التحسن او السوء مع حياتها الجديدة غير ان الوجه المشرق للطفلة وابتسامتها التي لم تفارقها طوال فترة زيارتها قد اراحت قلبها واطمئنت ان تغيير المكان كان كالسحر لحالتها العجيبة




.




مرت الايام الاولى بهدوء ادهش الجدة فريم ورغم التحذيرات من اضطراباتها النفسية ونوبات الصراخ ونصائح الطبيبة كانت على العكس طبيعية اكثر من اي طفل عرفته في كل حياتها لو استثنت فقط قلقها من عدم اشتياق الطفلة ذات الست سنوات لأمها او ابيها او حتى السؤال عنهم ....
وبمرور الزمن بدأت الجدة تلحظ بعض الامور البسيطة التي لم تعرها اهتماما فحين حاولت الجدة اشغالها ببعض التمارين الدراسية وبطريقة بدائية كتبت لها الأحرف الابجدية وطلبت منها تكراراها في كل صفحة وفي اليوم التالي وبينما تقلب الصفحات شهقت وهي تتأملها فلو افترضنا ان الصفحة كانت بالنسبة لاي طفل تتسع لتكرار الحرف أ لثلاثين مرة فريم وبخط صغير ودقيق كررت الحرف في الصفحة لألاف المرات بحيث بدت الصفحة كلوحة تمت زغرفتها بنقوش دقيقة جعلتها كقطعة اثرية مهيبة المنظر , وفسرت الجدة ما حدث ان الطفلة تعبر عن حزنها المكبوت لا اكثر وقد اراحها التفسير , كما ولاحظت الجدة ان ريم تجيد القراءة وتقرأ بنفس سرعتها هي نفسها تقريبا وان ذاكرتها مرعبة فلا تنسى بسهولة اي شيء تقرأه بل فاجأتها ذات مرة وهي تتابع احد الافلام الغربية وحين انقطع التيار ان الطفلة قد قرأت كل حوارات الفيلم واعادت سردها بكل دقة الى ان عاد التيار لكن الامر تطور ان عبارات الافلام التي تتكرر مع كل فيلم اصبحت تتكرر على لسانها هي ايضا فلو كرهت شيئا كانت تقول اللعنة عليه ... اللعنة اكرهه وقد حاولت الجدة عبثا بكل طريقة تعليمها ان كلمات اللعنة بكل مشتقاتها لا تجوز , اما ما جعل الجدة تتجنب الافلام تماما و تنتقي بحرص شديد ما يعرض على الشاشة انه وذات صباح كانت الجدة قد نسيت كره ريم للبيض ووضعت في طبقها بيضة مقلية فصرخت الطفلة كأن هناك من ينتزع اظافرها ثم قالت صارخة اكره البيض ايتها الخلاسية العاهرة .... صُدمت الجدة وقبل ان تتخذ اي رد فعل اتصلت بابنتها وطلبت منها ان تبحث في هذا الشيء قولق عن معنى خلاسية ثم استرجعت ذكرى نسيتها بينما كانتا تشاهدان حلقة عن الطيور وحين عُرض مشهد عن لحظة خروج الطائر من البيضة وبينما البيضة تتشقق صرخت ريم واستمرت تصرخ بلا توقف الى ان اغلقت الجدة الشاشة وقد فسرت ما حدث وقتها ان الطفلة خافت من الحيوانات الا انها وبعد موقف الخلاسية العاهرة اتصلت بالطبيبة وطلبت منها ان ترتب لزيارة توضح لها فيها بعض الامور الغريبة التي تقلقها بشأن ريم ...





.


اخرجت الطبيبة من حقيبتها دمية صغيرة لدب ووضعتها امام عيني ريم التي نظرت لها بلا مبالاة سألتها لو كان الدب يعجبها فردت ان لا , قلبت الصفحات التي كتبتها ريم فشعرت بالرهبة من منظر الورقة وثقلها سألتها ان كانت تحب الكتابة فردت ان لا , اغلقت الصفحات وقد مر بها خاطر غريب اذ شعرت ان المسافات المنتظمة بين الحرف المتكرر تصنع رموزا ذكرتها بخطوط نازكا , سألتها لو كانت تذكرها حين كانت تزورها مع امها فردت ان لا , سألتها اتحب الافلام فردت ان لا , سألتها ماذا تحب فكانت اجابتها حليب الفراولة ثم سألتها ماذا تكره فكانت اجابتها الغريبة : اكره دوم ... دوم دوم .. دوم ....






.



بنهاية الصيف كانت الطبيبة قد اوصت بأن تبقى ريم مع جدتها لفترة اطول لحتى تتأكد من استقرار حالتها ولم يمانع والدها الذي كان قد انهى ترتيبات زواجه الجديد , اما ريم فقد الحقتها الجدة بمدرسة القرية وبدأت بنفسها تتابع تدريسها وتحاول قدر استطاعتها تغيير عاداتها الغريبة في الكتابة او الكلام بلا تفكير وكان الجهد الذي تبذله معها كبيرا لدرجة ان طلبت ابنها ليرسل لها خادمة تهتم بالبيت وأعطت لريم كل اهتمامها والتي بدأت مع الوقت تستجيب لكل ما ترشدها اليه جدتها بلا عناد صحيح ان مواقفها العجيبة في المدرسة كادت اكثر من مرة ان تفضحها كطفلة غير طبيعية خصوصا مع ذاكرتها التي لا حد لها لكنها تعلمت من جدتها ان تتظاهر اغلب الوقت بالنسيان وانها لا تعرف واحتفظت دائما بنصيحتها الغريبة في كل امتحان ان لو كانت تعرف اجابات كل الأسئلة فلتترك سؤالا بلا جواب , وكان يومها اغلب ايام الاسبوع مقسما بين المدرسة واللعب خارج البيت مع بنات عمتها والدراسة قليلا برفقة جدتها قبل النوم , وبين بيت الجدة والعمة كانت اماكن لهو الاطفال وبشكل خاص ارض قديمة محاطة باسوار شبه مهدمة امتلأت باشجار النخيل وبين اطلال ما يبدو كبيت مهدم بُنيت حجرة صغيرة يقيم فيها عجوز يعيش بشبه عزله ويتجنبه اغلب سكان القرية وقد اطلق الاطفال على الارض اسم الغابة والعجوز حكيم الغابة ولم يكن يمانع زيارة الاطفال ولا اللعب بالقرب منه غير انه كان دائما ما يبدو منهمكا بشيء ما , وذات يوم كانت ريم في طريق عودتها من المدرسة محبطة لتعرضها للتوبيخ من معلمة الرسم التي وصفت تلوينها بأنه مقرف ومزقته بعصبية وكانت ريم يومها قد شردت بذهنها اثناء انهماكها بالتلوين فنسيت نصائح جدتها وأخذت بتلوين الرسمة عبر خطوط دقيقة متراصة بجوار بعضها ومع استعمالها لالوان مختلفة ولدقة خطوطها المتراصة بدت الحيوانات الملونة كوحوش من عالم كئيب وحين طالعتها المعلمة شعرت بغثيان فلم تتمالك نفسها واندفعت بمشاعرها توبخ الطفلة ...
وقفت ريم امام الغابة وعبرت السور المهدم بلا تفكير واستمرت تتجول بين اطلال البيت الى ان وصلت لاطلال غرفة احتفظت باغلب حوائطها ووسطها كان العجوز منهمكا بتمرير جسم معدني عبر حفرة ظنتها في البداية بئر ولم تفهم الطفلة ما يفعله ولم تهتم بسؤاله غير انها شعرت بصداع عنيف فكادت تصرخ لولا ان تذكرت تعليمات جدتها بعدم الصراخ امام الغرباء فتمالكت نفسها بصعوبة وابتعدت عن اطلال الغرفة ...
جلست على احد الاعمدة المنهارة منتظرة تلاشي الالم من رأسها وللغرابة صب لها العجوز بعض القهوة وكانت مرتها الاولى واندهشت في البداية من مرارتها لكنه ومع رشفتها الثانية احبت الشعور المر خصوصا مع نسيانها لألام رأسها وقبل ان تذهب سمعت العجوز يثرثر بينه وبين نفسه بشيء ما عن نافورة الدم : سأمنحها كلها .. حياتي بلا تردد لبعث نافورة الدم ...




PE6Omav.jpg





.



في العطل الاسبوعية كانت ريم تمضي صباح كل جمعة برفقة جدتها في المطبخ وكانت الجدة منذ زواجها تأبى ان تأكل غير ما تصنعه بنفسها ولم تقبل ابدا بأي مساعدة طيلة حياتها لكنها وبشكل غريب وافقت على تلقي المساعدة من ريم ايام الجمعة وكان ان بدأت باكتشاف المزيد من مواهبها فالطفلة كانت تملك القدرة للحكم على جودة الطعام بدقة عجيبة بمجرد النظر اما حالة الطبخ فيكفيها ان تعرف من الرائحة درجة النضج او تشرب الماء او النكهة ورغم موهبتها كانت وبشكل محبط عاجزة عن تعلم الطبخ نفسه بشكل صحيح حتى تقطيع الخضروات كانت تصاب بشرود وينصب تركيزها على التقطيع والتقطيع حتى تتحول الخضروات لذرات من النمل يستحيل ان تصلح بعدها لأي طبخة وذات مرة راقبتها الجدة وهي تقطع قطعة جزر وتستمر بشقها لنصفين المرة بعد الاخرى حتى لم تعد ترى الجدة ما الذي تقطعه تحديدا فبدأت تناديها لكن ريم التي صبت تركيزها على التقطيع لم تنتبه واستمرت لحتى جرحت يدها فاخذت منها الجدة السكين وحاولت ان تفهم منها ما تفعل لكن الطفلة كانت تردد اريد ان اعرف الى متى ستستمر بالانقسام لو استمر بتقطيعها , لم تعرف الجدة كيف تجيب لكنها قررت ان تختص ريم بمساعدتها عبر النظر والرائحة ودون لمس اي من ادوات الطبخ ...
وبنهاية العام كانت الجدة قد حددت بعض الامور التي تميز ريم عن غيرها في اربعة خصائص حواسها الحادة وذاكرتها اللامتناهية ودقتها المدهشة استعمال يدها وفراستها العجيبة التي لا يصلح معها اي تظاهر او أكاذيب وكانت موهبتها الاخيرة بالذات هي سبب بقائها مع جدتها اذ كانت تؤكد لعمتها ان ابوها يكرهها وترجوها ان تبقيها معها وكانت الجدة بمرور العام الاول قد تعلقت بريم وبدا لها ان ابتعاد ريم عنها كانتزاع قلبها فماطلت في العام الثاني وتعللت بالدراسة لتبقي ريم معها عاما اخر , وفي العالم الثالث وباستقرار حالة ريم كما اقرت الطبيبة حضر ابوها ليعيدها غير ان نظرتها المعادية له قد اعادت له ذكريات طفولتها الجحيمية وصراخها الذي لا ينقطع ورعبها منه ووصفه بالدب الذي سيأكلها فشعر بزهد كبير فيها واستسلم لرجاء عمته ان يتركها بل ومع الراحة التي شعر بها خصوصا حين تذكر زوجته الجديدة احتاج لان يتظاهر باضطراره لتركها ريثما يتأكد من شفائها التام ولم يكن يحمل من هم غير اضطراره بعد عام ان يعود ليتظاهر باشتياقه لها ...





.



كانت الجدة تعد الافطار وصوت المعلق في نشرة الاخبار يردد بنبرته الكئيبة : .... اما ما يعرف بحزام الزلازل فقد تضاعفت فيه حدة الزلازل عشرة اضعاف خلال السنوات العشر الاخيرة وقد شهد العام الجاري سبقا لم تعرفه البشرية من قبل اذ لم تترك الزلازل بقعة على الارض الا وضربتها وعلى صعيد اخر تشتد معاناة المدن الواقعة على خط الزلازل بل ان بعضها باتت غير قابلة للحياة فيما وتشهد تلك المدن موجات نزوح ...............




.




في مراهقتها كانت ولسبب لم تفهمه منجذبة لكل النظريات عن نهاية العالم وتقرأها بنهم كأنها تبحث عن سر وجودها الى ان وصلها ذات يوم خطاب مجهول يتكلم عن مشروع بئر كولا وذكر صاحبه تفاصيل مملة قرأتها بلا اهتمام الى ان هزت اعماقها كلماته حين ذكر ان الاسم السري للمشروع كان نافورة الدم ....




nRIahKd.jpg





.



في التاسعة عشر من عمرها تمت خطبة ريم باحد اقرباء عمتها ومن لقاء تعارفهما الاول في بيت جدتها شعرت ريم بأنه الرجل الذي تتمنى لو تكمل معه ما تبقى من عمرها غير انها في تلك الفترة من حياتها كانت تعاني من كوابيس تتكرر كل ليلة ارهقت اعصابها اذ كانت تستيقظ والرعب يملئ قلبها وكل ما تتذكره هو الصوت : دوم ... دوم دوم ... دوم ...
ثم بدأت مشاكل خطبتها فخطيبها يرفض ان يعيش معها في بيت الجدة بل ويرفض حتى ان تبقى الجدة في بيتهم الجديد وكانت هي تنفر من امه وترى في عينيها كيف تكرهها وتتمنى افشال الخطبة وفوق كل هذا مرضت الجدة وازداد توتر ريم وارهاقها فحدث ان صرخت في وجه حماتها بعد ان وصفتها بالطفلة المنبوذة من ابيها فقررت الاخيرة ان تفتعل من الواقعة مشكلة بلا حل , في تلك الاثناء زارت الطبيبة ريم كصديقة قديمة اعتادت زيارتها مرة من كل عام فحدثتها ريم عن كوابيسها التي تفزعها ولا تتذكر منها غير : دوم .. دوم دوم ... دوم ... بلا اي ذكرى عن الشيء الذي يفزعها بجنون لحتى اصبحت تخشى النوم ..
عندها صُدمت الطبيبة وعاودتها ذكرى قديمة : اكره دوم ... دوم دوم .. دوم ....




.




في العشرين من عمرها انفصلت عن خطيبها وبعد اشهر اشتد مرض جدتها وماتت ومع تركها للدراسة من بعد الثانوية وابتعاد كل من تعرفهم لم يبقى لها في الحياة غير الزيارات النادرة لطبيبتها واستمرت وحيدة متشبثة بمنزل جدتها تأبى الرحيل عنه رغم اتصالات والدها الباردة ومحاولات عمتها اقناعها بالزواج وبمرور الزمن لم يعد احد ليهتم بغريبة الاطوار التي تحيا بعزلة في بيتها على اطراف قريتها النائية .....


قيل انها كانت قد بلغت عقدها السادس حين شوهدت لاخر مرة وقيل في ذلك اليوم بالذات جاء غريب من لا مكان وهمس لها : انت لست منهم .. انت منا ...
قيل انها كانت تعلم بذلك في اعماقها لكنها كانت تأبى مواجهة نفسها واستمرت متعلقة بحب جدتها إلا ان عزلتها وابتعاد الناس عنها جعلاها تتقبل الحقيقة بكل ما تعنيه ...




.​




كانت تتحرك بهدوء واصرار وقد اختفى بريق عينيها لتبدوا كجثة متحركة .. عبرت السور المهدم لما كانت تسميه في طفولتها الغابة ... كان العجوز او ربما احد ابناؤه وقد قرر اكمال طريق ابيه وجلس منهمكا يحرك الشيء المعدني في الحفرة الشبيهة بالبئر بلا قاع ... وبلا تردد دفعت العجوز ليسقط في الحفرة مع صرخة تلاشت قبل ان تبدأ ...




GWkHnXy.png






.





كانت كوابيسها المتكررة عن الشيء الرهيب الذي كانت الارض بيضته وحين نبض قلبه توارثت مجموعة من البشر مهمة ثقب القلب لتنتهي المهمة بأمل اخير للبشرية كان معلقا بعجوز في قرية نائية يتجنبه الناس ...

كان الشيء رعبها وكانت ملاذه ... في كوابيسها تحطمت البيضة وسقطت البشرية في ظلامِ أبدي .....
 
التعديل الأخير:

Sam.

fire walk with me


تمضي وأمضي مع العابرين





وإذ أيقنت بقرب يومها فلكم خافته قدر ما نزعت اليه نفسها ...
تترقب وقع الاقدام ... دوي الطرقات على الباب .. صوت من يناديها .. همس الجدران بصدى اسمها ..
أي يد هزتها ...
أي عين أبصرتها ..
أي عهد اجتباها إليه ......






5YIrtLz.jpg





اقتربت القطة الصغيرة من النافذة .. ترقبها بيأس من أسفل وقد انهكها الجوع , دارت حول نفسها وفي لحظة تساقطت بقايا الطعام من الأعلى .. ارتاع قلبها من هذا الذي ارتطم بالارض قبل ان تتمالك نفسها فأخذت تتشمم الارضية , أحاطت بقطعة دجاج فانطلقت نحوها قطة اكبر صرخت بوجهها لتتراجع الصغيرة في رعب .......
اغلقت أثير النافذة بعد اذ يئست من اطعام الصغيرة وقد فرضت الكبيرة هيمنتها على كل ما قد ترميه من بقايا , عادت لفراشها ولم يكن من بد إذ ليس في الغرفة غير السرير .. تأملت سقف الغرفة كان يشع بياضا ثم هو بلا نقوش ولم تكن واثقة من مصدر الضوء , جلست .. نظرت للجدران ولم تكن مغايرةً للسقف .. جدران بيضاء لامعة ملساء بلا تفاصيل , دفنت وجهها في الوسادة .. تقلبت في الفراش واستقر بصرها على الباب , مجرد نقش على الجدار بلا مقبض لكنها لم تشك انه الباب لسيما وهو الجدار ذاته الذي تبرز منه عتبة الطعام وهي مجرد بروز يخرج من الجدار على فترات متباعدة حاملا الطعام والماء , لم تعرف لماذا هي في الغرفة ولا كيف وصلتها أو متى , مرت الأيام والاسابيع ولم يكلمها أحد او يحاول اخراجها , حاولت لمرات لا تحصى ان تنادي فصرخت من خلف النافذة والباب بلا جدوى , حزمت أمرها ذات يوم لتقفز من النافذة لكن شيئا ما لا تبصره كان يمنعها أقرب لجدار زجاجي يبعد عن النافذة مسافة صغيرة لا تسمح لجسدها بالعبور , أما خلف النافذة فليس هناك الكثير لتصفه عن اليمين واليسار ممر لاترى اخره ثم السور الأبيض المقابل لنافذتها والذي يحجب عنها الرؤية بارتفاعه وبالكاد يمكنها ان تلمح جانبا صغيرا من السماء لكنها سماء رمادية غريبة لا يتغير لونها الا لتقترب من السواد في بعض الأحايين ثم سرعان ما تعود لسابق عهدها ...
في البدء وحين وعت وجودها داخل الحجرة لم تكن تذكر شيئا عدا اسمها وبمرور الوقت تبدت لها صور ماضيها وإن خلت من التفاصيل كأن تتذكر بيتها وعائلتها لكنها لا تكاد تسترجع ذكرى كاملة معهم .. سافروا في رحلة فتتذكر الطائرة والفندق أما كيف شعرت عائلتها ما كان حديثهم وأين ذهبوا وماذا أكلوا كلها كانت ضبابية وبالمثل مدرستها لا تفاصيل عدا مكان مقعدها وزاوية نظرها للوح الكتابة وبعض الوجوه ثم هي لا تذكر محتوى أي درس أو حادث وقع بين اصداقائها أو المعلمة ولو شاءت أن تضع تصورا لما مضى من حياتها فهي من عائلة عادية لديها اخت تكبرها بعام واخ يصغرها بعامين تذكر القليل عن المدرسة وعطلات الصيف ثم ختمت دراستها بأن ابتعثت للخارج واخر ما تذكره انها ولسبب ما قطعت بعثتها وعادت ....




aYgdlcy.png



.




لا تدري أستمرت محاولاتها لاسابيع او سنوات وهي تحاول كشف سر وجودها بحجرة بيضاء بلا أبواب , وانتهى تفكيرها في كل مرة الى انها ماتت أو أصيبت بحادث وتعاني غيبوبة أو حية لكنها أسيرة ثم كانت تستبعد الموت فهي تشعر بالجوع وتأكل وتطعم القطط المتواجدة في الممر من بقايا طعامها , وأما الغيبوبة فكانت تتمناها فتفكر ان الحجرة والطعام الذي يخرج من الجدار مجرد انعكاس لغرفة العناية حيث تستلقي فاقدة لوعيها ولا ينقصها الا بعض الوقت لتستيقظ وتدرك ما ألفته من حياتها إلا أن احساسها وتفاعلها مع ما حولها كان يكذبها فتعود للتفكير إن كانت مخطوفة أو معزولة أو هو كان شيئا اختارته ثم أصيبت بصدمة محت ذاكرتها فلم تعد تدري ما فعلته بنفسها , أو هي تطوعت لتجربة وهناك من يراقبها ... وربما رحلت داخل سفينة فضاء في جولة استكشافية ... أو لعل فضائيًا كان يستطلع الارض وانتقاها كعينة أرضية في طريق عودته ... ثم تتخيل نفسها أدمنت في مرحلة ما حتى بدأت بتجربة مخدر جديد ... أو أصابتها عدوى مجهولة وتم عزلها عن العالم ... ثم لم يبقى إلا أن تفترض نفسها مجرد آلية منحوها ذاكرة بشرية ويتم اختبارها داخل الحجرة ... أو .....



.


وكانت الغرفة قد حوت ممرًا ضيقًا ينتهي بقاعة دائرية صغيرة أقرب لحمام مع خزانة احتوت عدة نسخ من ذات الجلباب الأبيض الذي كانت ترتديه وكانت يوميا قبل النوم تغسل جلبابا وترتدي غيره لمجرد ان تجد ما يشغلها , وذات يوم بعدما خرجت من الحمام وجلست على السرير تجفف شعرها انتبهت لكم هو قصير واستعادت بعض الذكريات عن انسداله على كتفيها فشعرت بخاطر كئيب وهي تفكر بالسبب الذي قد يجبرها على تقصيره او من قد قصه لها بغير ارادتها .....




.




من خلف نافذتها وقفت تتأمل القطط وكانت الصغيرة قد اختفت منذ أيام وظهرت قطة بنية ضئيلة برفقة أخرى رمادية تشاركها في البؤس والحجم كانتا تفتشان عن الطعام بيأس وما كان باستطاعتها أن تلقي لهما بالمزيد اذ كان ما تحصل عليه من طعام بالكاد يكفيها ثم عثرت الرمادية على بعض الفتات المنسية فتبعتها البنية وأخذتا تأكلان وتلعقان الأرضية .. استرخت الرمادية بينما البنية شعرت بالنشاط فاقتربت منها تدور حولها وتدفعها لتلعب ثم بدأتا تجريان .... خُيل لأثير ترى نفسها في الروضة تركض ... تسقط فتضحك وتسمع من تناديها لان المعلمة توزع أكياس الحلوى ... ثم تجد نفسها قد ضيعتها وجلست حزينة تنتظر اختها قبل أن تعودا للبيت .. تتذكر كيف كانت مكتئبة اذ هي الوحيدة التي خسرت كيسها وكان الاحساس بأنها مختلفة عن الاخرين يفزعها ويملئ قلبها كآبة حتى ظهر طفل لم تعرف أكان يكلم نفسه أو يحدثها لكن حين اصبح قريبا منها قال فيما تذكره ان لا حاجة له بكيس حلوى قبيح ورماه في سلة المهملات .. كان تصرفه الغريب قد أنساها في لحظة مخاوفها كأنما لم تعد وحيدة فيما أصابها ... نادتها أختها وكانت تحمل عدة اكياس لم تسألها كيف حصلت عليها وكانت قد فقدت رغبتها في ان تأخذ البعض منها , ولسنوات وبعد أن نضجت كانت تسترجع تلك الذكرى وتتساءل لو كان ما فعله الطفل مجرد حماقه او انه قد حاول ان يواسيها ....



.



لم يكن من يوم إلا وحاولت فيه العودة بذاكرتها لما كان قبل الحجرة ولِما دخلتها , ثم اذا استثنت ما اختلط عليها من ذكريات كان أقدم ما تذكره عن الحجرة لحظة أن فتحت عينيها لتجد نفسها مستلقية على السرير تحيط بها الجدران البيضاء , حسبت نفسها تحلم لكن الامر طال فهمّت بالنهوض فلم يطاوعها جسدها .. كان احساسها بأطرافها معدومًا ثم غابت عن الوعي ... لم تكن واثقة رغم ما أحست به ان استمرت لايام تفقد وعيها وتستعيده تحاول الحركة فتسقط في غيبوبة ثم تفيق لتحاول مجددا , أكانت أيامًا أو أشهرًا ؟ لن تعرف أبدًا الا انها في ساعة ما استطاعت الحركة , شعرت بشيء ما يغطي عينها اليسرى .. تحسسته بيدها ورفعته فكانت رقعة زرقاء .. بتردد فتحت عينيها فأحست ببعض الألم ولثوان كان الضوء الاخضر يغزو رؤيتها واصطبغت الحوائط حولها بالأخضر ومع ما شعرت به من قلق أعادت الرقعة الى عينها فتلاشى الاخضرار وعادت الحوائط للّونها الأبيض , تساءلت عما أصاب عينيها وهي تحاول النهوض ... بصعوبة جلست .. رأسها تدور والظلام يبدد الغرفة عن بصرها , تمالكت نفسها وأصرت على فتح عينها .. سقطت لحظة أن وقفت .. زحفت على الارض تشعر بالضياع أين هي وأين الآخرين ثم انتبهت انها لا تدري من هي ولا من الآخرين الذين افتقدتهم , عاجزة عن الصراخ لا يكاد يصدر منها صوت حتى تشعر بصفير عنيف أوشك أن يصم أذنيها .. استمرت تزحف على غير هدى حتى لاح من الجدار بروز افقي زحفت نحوه بفضول كان بداخله طعام وشراب , أحست فجأة بحاجة غير عادية للطعام وبتثاقل رفعت يدها وتناولت قطعة دجاج .. انتفضت لحظة ان اكلت منها كأنما قطعة جمر عبرت حلقها .. استمرت تسعل رغم الألم الرهيب الذي أحست به في صدرها تقلبت على الارض يتصبب منها العرق ترتجف يداها وبالكاد تتنفس , ولأيام ارغمت نفسها على الأكل ما استطاعت حتى بدأت بالتحسن وأمكنها الوقوف على قدميها لتسأل نفسها بعد يأسها من الخروج .. أين هي ؟



.



من خلف الممر ظهر قط أبيض متوسط الحجم سريع الحركة ينهب الارض مفتشا عما قد يخفف من جوعه واذ أبصر القطتان البنية والرمادية تأكلان عطف إليهما مبديًا أنيابه ففرتا واستحوذ على ما تبقى من فتات ولم يكد يأكل حتى عاجلته قطة بيضاء تفوقه حجمًا بضربة من يدها على رأسه فكرّ راجعًا .... تراءى لأثير طفل يقفز يضرب صديقا له على رأسه بعصا كرتونية ثم يتدحرج على الأرض ليقف ويصرخ : هجوم .... فيجري خمسه من رفاقه تجاه بالونات معلقة ويضربونها لينفجر منها الهواء , ثم بدأوا لعبة جديدة كانوا فيها يجرون ويحاولون الانزلاق وعرقلة بعضهم البعض ومن يسقط يخرج من اللعبة والفريق الذي يسقط كل افراده يخسر .... تْذكر أنها في السابعة وكان أخوها يحتفل بيوم ميلاده في حديقة البيت وكانت أمها جالسة مع بقية الأمهات يبتسمن ويتظاهرن بالفخر من مدى رقي الألعاب التي يلعبها أولادهن , كانت تفتقد للرغبة في مشاركتهم واكتفت بالجلوس في الشرفة وكلما نادتها أمها قالت كاذبة انها ستنزل بعد قليل إلا أن رؤيتها لأخيها وأصحابه يلعبون من الأعلى بطريقتهم العنيفة قد جذبت انتباهها , لاحظت ان خالدا هو من يبتكر تلك الالعاب وكان هو نفسه غريب الاطوار الذي صادفته يرمي الحلوى في الروضه وكثيرا ما كان يصحب أمه التي كانت صديقة طفولة لأمها في زيارتها لبيتهم ثم ان اخاها سعد تعلق به وأينما لاقاه لازمه كظله وقلده في كل ما يفعل ...... صرخ أحد الاطفال ألمًا وكان قد فقد توازنه وارتطمت رأسه بجذع شجرة كان يُستعمل كمصطبة , قال احد الاطفال : دفعه خالد وهو يسابقه ... ارتاعت الامهات بينما أم خالد تشتمه وانهالت عليه ضربا بالعصا الكرتونية التي كان يحملها والامهات يحاولن تهدئتها , تلقى خالد الضرب ووجهة في الارض خجلا بينما تصفه بالكارثة التي تمشي على قدمين ... وكانت المرة الأولى لأثير ترى احدهم فيها يتصرف بتهذيب مع أمه وهي تضربه ولا يتجنب الضرب ....



.





Yd6Q3dn.jpg




قلما كانت السماء الرمادية تتلون بالسواد وكلما أبصرتها من خلف النافذة اجتاحها حزن ثقيل لا تدري له سببًا , وكثيرًا ما امضت يومها كله باكية إلا أن قتامة السماء كانت تبعث في نفسها كآبة شديدة لا تجاريها أي من مشاعر اليأس والقهر التي لازمتها منذ استيقظت داخل الحجرة .... انسابت دموع حاره على وجنتيها كأن سواد السماء أعاد اليها ذكرى ليلة تمنت لو دُفنت دفنًا في صدرها ..... في تلك الليلة جلست بفناء البيت تتأمل خيطًا من الدخان يتصاعد من بعيد حين نادتها أمها وطلبت منها أخذ بعض الطعام لبيت جارتهم العجوز فاصطحبت اخيها وخرجا معا .. كانت في السنة الاخيرة من المتوسطة وتكلمت طوال الطريق عن تطلعها للثانوية .. لم يكترث سعد لحماستها إلا ان قال باحباط كم سيفتقد خالدا بعد تخرجه .. استنكرت كعادتها تعلقه به وقالت لم تعد طفلا ... وصلا للبيت الذي قصداه فطرقا الباب ووضعا عندها الطعام ثم شكراها وخرجا , .... وببنما يسيران قص عليها بفخر اخر ما فعله خالد , وكان ان حدث شجار بين مدرستهم ومدرسة مجاورة وانتهى بضرب بعض طلاب مدرستهم وقت مغادرتهم فعرض خالد ان يقتص لهم ممن ضربهم وينتقم منهم داخل مدرستهم .... امرته ان يكف عن تلك الحكايات ولا مناص فحماسته كانت قد بلغت ذروتها وهو يصف لها كيف خطط خالد مع بعض رفاقه لضربهم واحراجهم وهم في صفهم ثم كيف استأجروا من بعض طلاب تلك المدرسة معاطفهم الزرقاء وكيف اقتحموا الفصل ثم عزلوه بفتح علب ممتلئة بالحشرات على بابه فحدثت جلبة وتراجع المعلم عن الدخول حتى ياتي العمال للتنظيف في الوقت الذي كان خالد ومن معه يشتبكون مع من استهدفوهم .... عادا للبيت وكان لايزال مستمرا في تباهيه ... دفعته وهي تقول اسكت وابتسمت على الرغم منها متعجبة كيف لخالد وهو نحيل أقرب للقصر ويتصرف دائما بتهذيب أن يعشق الشجارات ولا يكف عن توريط نفسه وغيره بتدخله فيما لا يعنيه حتى اذا لم يجد مشكلة يحشر نفسه فيها ابتدع واحدة بنفسه ...
نادتهما امهما ان يغسلا ايدهما ويساعدها في تحضير العشاء .. كانت اختها جالسة في الشرفة تقرأ ولا احد يزعجها بأمرٍ أو طلب .. نظرت لها من الاسفل فهمّت ان تصعد لتضايقها .. كادت تخطو الا ان ضوءا ما توهج وارتجت الارض من تحتها .. لم تتمالك نفسها وفقدت توازنها مع صوت الصفير الذي اجتاح الفضاء .. ما ادركته لاحقا ان بيتهم قد أصيب عشوائيا برمية مدفع مجهولة وكانت الحرب الأهلية قد وصلت مدينتهم ... انهار احد جوانب البيت وماتت أختها لتتغير حياتهم من بعدها ويقرر أبوها الرحيل فابتاع بيتًا في اكثر المدن أمنًا واستقروا بها , فكانت ليلة فقدت فيها اختها وهجرت بيتها الأول وما ألفته في صباها .....


.


مع طول مكثها حاولت بكل وسيلة ان تجد ما يدفع عنها جهلها بالحال الذي صارت إليه ولم يكن من سبيل فالغرفة خالية من كل ماعدا السرير فلم تجد حتى ما يساعدها على خدش الحائط وعد الايام وليس في الغرفة او القاعة الملحقة بها مرآة تكشف لها عن مدى تغيرها ولم تكن المياه تسمح لها باكثر من صورة ضبابية , أما الشيء الذي لاحظته بعد مدة ليست بالقليلة ان وقت بروز عتبة الطعام كانت الغرفة تمتلئ بدخان أبيض تصعب ملاحظته وأعجب منه كان حاجتها الشديدة للطعام رغم قلة حركتها ويأسها الذي كان في العادة سيمنعها عن الطعام الا انها ما ان ترى طعامًا حتى لا تتمالك نفسها فكان ما تمنحه للقطط اشبه بانتزاع حياتها من بين جنبيها ....
انهت القطة البنية ما القته لها ولعقت الأرض ثم جلست برضى تحدق في نافذتها تمني نفسها لو سقط المزيد من الطعام , وبعين الخيال رأت اثير ميلان الشمس وقت الغروب من خلف القطة التي امتد ظلها مهيبا كجلستها , كان يوما باردًا ولم تستطع منع نفسها من أن تأمر السائق بالتوقف ونزلت من السيارة تلتقط للقط صورة والشمس تغرب من خلفه , في تلك الفترة كانت على وشك انهاء دراستها بمدرسة الفنون السينمائية .. أما السنوات التي تلت موت أختها فكانت كئيبة تغير معها كل شيء اذ كان انتقالهم قد افقدها الصلة بكل من عرفتهم وكان الحزن الذي احاط بوالديها قد عزلهما عن الناس وبانضمام سعد للجيش وعطلاته القليلة فقدت كل ما قد يبهجها فأبوها يخرج في الصباح ويرجع في المساء ليأكل ثم يجلس يدخن ويتصفح الاخبار قبل ان يختفي في حجرته اما أمها فلم ترضَ ولم تصبر ولم يكن من يوم الا وندبت حظها وحسدت من تعرفهم ممن لم يبتلوا بمثل ما أصابها او تمضي يومها تسترجع ذكريات ابنتها باكية ... ثم حدث ان حظيت أثير بمنحة لتستكمل دراستها في الخارج فكأنما أُعتِقَت , وكان سعد من تولى اقناع أبيها حتى منحها موافقته ....



.



وقفت القطة البيضاء جوار السور تحدق في النافذة من أسفل أما اثير فلم تُلقي لها بالا ووقفت تتأمل نظرتها الصبورة , والواقع انها لم تكن يومًا محبة للحيوانات بل طالما نفرت منهم وكرهت سذاجة من يتوهمون الحيوانات صديقة لها وكم قرأت عمن نشأوا مع حيوانات اعتبروها كإخوتهم ثم افترستهم في لحظة جوع او عن حيوانات أليفة اكلت أجساد أصحابها بعد موتهم , وعلى كرهها لعجمة الحيوانات أحبت مراقبة سعيهم في الحياة فكان لها نظرة خاصة اذ ترى في مسلك كل حيوان انعكاسا لفئة من البشر واقتنعت على غير تمحيص ان منزلة كل فئة من البشر بين غيرها هي نفسها منزلة كل حيوان شابهت مسلكه في الحياة بين غيره من الحيوانات ففئة تتعفف ولا تعتدي لا يمكن لمنزلتها بين البشر ان تقارن بمنزلة المفترس بين غيره من الحيوانات , وأما نظرتها لهم كأشبه ما يكونوا بالآلات فكانت ويا للمفارقة الشيء الوحيد الذي بات يشعرها بالحياة حتى ظنت انْ لولاهم لفقدت عقلها ....



uX3HZhP.png



تحركت القطة البيضاء ولسبب ما تبعها قط ابيض كبير عن يمينها وعن يسارها قط اسود اكبر منهما مشيا الى جوارها فكانا يضيقان عليها الطريق وكانت تمر بينهما كمن يحاول تفادي الزحام .. أعادت لها أيام بعثتها الاولى وزحام الطلبة الذي لم تعتده والصخب يكاد يفقدها وعيها .. استحضرت في ذهنها يوم ان دفعها الزحام للجهة الخلفية من الجامعة بحثا عن بعض الهدوء اذ كانت أنفاسها تضيق من كثرة الناس , استندت لجذع شجرة ليفاجئها شاب يعبر من جانبها بملامح مألوفة ولوهلة وقع في نفسها أنه خالد مع ما تذكره من بعض الصور القديمة التي حفظها سعد , وكادت تظن نفسها واهمة الى ان تأكدت من الاسم , ثم مرت اسابيع ولم يكن لديها من الجرأة ما يدفعها لتكلمه وكانت تأمل ان يذكرها من اسمها , وذات يوم جلس قريبا منها وسمعته يسألها عن سعد للحظة فكرت لو تنكره وتبدي بعض التعجب الا ان اجابت ببساطة هو بخير , ولم يقل بعدها شيئًا , وفي الاسبوع التالي فعل نفس الشيء وسألها عن سعد فلم تجب بل نظرت له ساعة وقالت : انت خالد ولا تبدو كخالد , سألها وهو لا يفهم : كيف , فأجابت : لاتبدو كما اعتاد أخي ان يصفك .. انت تعرف .. الفريق الذي يبرح غيره ضربًا حتى الموت هو الفائز .... يا لثارات مدرستنا .... الموت لذوي السترات الزرقاء .... الحرب الأخيرة ل ..... ثم انتبهت انها في القاعة فسكتت وادارت وجهها بينما فكر للحظة كأنما يسترجع حادثة ما وضحك مصدرا صوتًا فتم طرده من القاعة ....



.



وفي يوم كغيره من الأيام استسلمت لغفوة طويلة قبل ان تفتح عينها الناعسة .. يمنعها وهج الجدران البيضاء من العودة لغلق عينيها وكانت قد أسندت رأسها الى معصمها فرفعت يدها تريحها ... تأملت معصمها فلم ترى أثرًا لاحمرار وأقلقها أنْ لم تكن المرة الأولى فحيثما نظرت لجزء من جسدها كان أبيضَ شاحبًا كأنما خلا من الدماء , وإذ افزعها الخاطر ولما كانت الغرفة خالية من كل ما قد تستخدمه أداة اخذت تعض على معصمها بأسنانها وقد عزمت أن تجرحه فتُسيلَ منه دمًا غير أن محاولاتها استمرت طويلاً بلا جدوى ... كانت بشرتها الشاحبة لا تتغير فلا اثر لأسنانها ولا حمرة الدماء تظهر مع كل ما فعلته , ثم وككل الامور الغريبة نسيت الأمر كمئات الامور الغريبة الاخرى ... رفعت يدها تحجب بكفها نور الغرفة الذي لا تجد له مصدرًا كما حجبت ذات يوم ضوء الشمس عن عينيها وهي جالسة على درج المسرح المكشوف وكانت برفقة ثلاثة من زميلاتها يتناقشون حول موضوع فيلمهم القصير الذي سيقدم كمشروع لنهاية العام , انزلت يدها وهي تتعجب كيف مضت سنتها الاولى من البعثة بلمح البصر ومر بها خاطر أقلقها لو كانت ذات يوم ستكره عودتها , افترق الاربعة ولم يتفقوا على رأي ... جلست قليلا تتأمل حجارة المسرح والشمس تغرب من خلفها تترقب فكرة لا تأتيها .... ومن الطابق الاخير للمبنى المجاور للمسرح وقف خالد قريبا من ركن الممر وقد اسند آلة التصوير على الحامل ووجهها للمسرح آملا في لقطة تظهره كمسرح معلق من السماء عاد الى حجرة فريقه وطبع الصورة يتفحصها فكانت كما أراد لولا ان الصورة قد التقطت فتاة جالسة على درجاته قد افسدت اللقطة الخالية للمسرح , همّ بصورة جديدة ولسبب ما عاد الى الصورة وعرضها على الشاشة الكبيرة ... تلاعب بلون السماء لتظهر رمادية فبدت له كأرض النهاية كما تخيلها وكأنما يرى المستقبل تراءت له الفتاة كواحدة من آخر البشر وعلى ما أسماه المسرح المعلق للأرض الأخيرة جلست تترقب النهاية ......



Znj025U.png



فيما بعد وحين رأت أثير فيلمه القصير لم يشغلها ان عرفت نفسها في الصورة قدر ما أثار اهتمامها الاسم الذي اطلقه على فيلمه أرض النهاية اذ كانت لحظة التقاط الصورة تتطلع لنقش على احد احجار المسرح كتب بخط صغير اجهدت نفسها لتقرأه وكان مما تذكره : فإذا انهدم البابان , وشاع البهتان , وظهر العصيان , وطغى الشران , وفشت الأضغان , والتقى الجمعان , وتفانى الضدان , انشق الجبلان وانحسر البحران عن أرض نهاية الأزمان ......



.




ثم كانت الحرب وشاعت نبوءات وتكهن من تكهن أنها التي دار معها الزمان وانتكست البشرية وارتدت حضارتهم من حيث بدأت ... واختلفوا أهي البداية الثالثة أو الخاتمة ....





.




تذكر ان عامها الثاني في البعثة كان عصيبًا فالحرب الاهلية اشتدت في بلدها ولم تبق بها مدينة آمنة وكانت كلما همت بالعودة طمأنها سعد ورجاها ان تبقى حيث هي , اما خالد فقد تبدل حاله تلك السنة وانقطع لفترات طويلة عن الحضور وكانت اذا رأته ونادرا ما تراه مر بها شاردا ثم هو يمضي اغلب وقته يقرأ متجاهلا ما حوله , فيما بعد علمت ان والده كان قد قتل في تلك الفترة وكان من كبار قادة الجيش الا انه اغتيل على يد احد حراسه ثم قُتل الحارس لحظة هروبه وانتهت التحقيقات سريعًا فلم يُكشف عن سبب قتله , وعاد خالد وقتها إلا ان اخاه الاكبر قد اقسم عليه ان يرجع ويستكمل دراسته غير أن الصدمة التي أصابته دفعته دفعًا ان يأخذ الحياة على محمل الجد فعكف على فهم اسباب الصراعات التي اجتاحت العالم في سنواته الاخيرة وكيف انغمس نصفه في حروب أهلية بينما النصف الآخر ينجر جرا لمستنقعها حتى اوشك العالم بكامله على الانهيار , وامتدت دراسته لفجر التاريخ فسبر اغوار كل صراع واحاط علما بمنتهى كل نزاع , فارتحل شرقا وغربا ملتمسا اثر فتيل كل فتنة ولم يترك جمعية ولا حزبًا مشبوهًا الا وتقرب من أصحابه مفتشًا عن فعله ان كان له فعل او عن مكائده ان كانت له مكيدة , وانقضت اعوام عاد بعدها لوطنه الممزق وقد اكتملت له صورة أفزعته , أما أثير فما كادت تنهي عامها الثاني حتى أتاها خبر موت والديها بحادث سير اذ انهار أحد الجسور اثناء عبورهما نتيجة لاشتباك عنيف حدث بالقرب منه , فما كان منها الا ان قطعت بعثتها وعادت لأخيها ......



.




ذات يوم ولدت فكرة .. تبنتها جمعية .. قالت الفكرة لازال البشر في تدني وسفول وما كان من دعوة اصلاح فعلو الا واعقبها انحطاط اشد مما كان .. شاعت الفكرة .. استحسنها الناس .. دعوا للابادة العمياء ....

ذات يوم ولدت فكرة .. تبنتها جمعية .. قالت الفكرة .. ينتهي الفقر بموازنة البشر ومواردهم .. شاعت الفكرة .. استحسنها الناس فكانت شعارات لا مذيد من البشر .. لا مزيد لاغنياء يحرمونا .. لا مزيد لفقراء يزاحمونا .....

ذات يوم ولدت فكرة.. تبنتها جمعية .. قالت الفكرة .. صراع كل تباين هو طريق الجنس الاسمى .. شاعت الفكرة .. استحسنها الناس فكانت شعارات الموت لكل من ليس نحن ...

ذات يوم ولدت فكرة .. تبنتها جمعية .. قالت الفكرة كان البشر هابيل وقابيل رضى ونهم كد وكسل ثم اختلط البشر فكانت الاختلافات فالمنازاعات فالحروب .. شاعت الفكرة .. استحسنها الناس .. دعوا للتمايز , فكانت حرب الشرق والغرب ...






.




فتحت عينيها على ضوء الغرفة وقد اصفر لونه وصوت الهزيز يدوي في أذنيها , كانت معتادة على تبدل الضوء الأبيض بين فترة وأخرى إلا أن الصوت كان اعلى مما اعتادته .. نهضت وفتحت النافذة .. نظرت للممر الخالي من القطط ولاحظت بخارا يغطي الافق .. لمعت الأرضية البيضاء للممر كأنما ابتلت بالماء .... تتذكر صدى قطرات المطر على ارضية الممر وقد انهارت باكية يوم عادت لبلدها , وكانت قد اختارت العودة الى بيتهم القديم ولم تتمالك نفسها لحظة ان دخلته .. بكت والديها واشتد نحيبها وهي تسترجع حزنهما وعزلتهما بعد موت اختها .. ندمت ان سافرت وتركتهما .. اختارت الهرب من جو الكآبة الذي لازم البيت وابتعدت وهي تعلم كم كانا بحاجة اليها , وفي الليل اخذت تصلي وتستغفر لأمها وقد رأت من سخطها بعد موت ابنتها أنْ كانت تضيع الصلاة وتبدي عدم رضاها ....
مرت الأيام من بعد عودتها شديدة القسوة فالفوضى كانت قد عمت البلد بكامله ولم يبقى من شكل الدولة غير العاصمة وبعض القرى الصغيرة المحيطة بها , واضطرت اثير لبيع كل مالديها من حلي فقد كان ما يتقاضاه سعد من عمله بالجيش لا يكفي حاجتهما اذ نقصت السلع وغلت الاسعار وكان يخشى عليها ويأبى ان تخرج بحثا عن عمل .....

وعاد خالد من جولته حائرا تملؤه الهموم فخلال سنوات قليلة عاصر عالمًا مستقرًا لا تحركه فتنة او تزعزعه ثورة حتى اهتز وانهار في وحل من الصراعات ولم تعد من تجارة رائجة غير الحرب فانتشرت مصانع الفتن وراجت كل فكرة دفعت الى التنافر وشاعت كل دعوة حثت على الخلاف وقد كان الظن قبلها ان العالم قد وصل لمرحلة من النضج بحيث تبقى صراعاته محصورة حيث اشتعلت حتى تخمد , فكانت الدول في سعيها للاستقرار بمكانتها لا تندفع الى صراع الا بفضل فضل قوتها صونا لما تختزنه من عدة تحفظ موقعها بين غيرها وقد وعت من التاريخ ما يمنعها من الاستهتار بخطر مهما بدا ضعفه وتحالفت لاخماد كل حرب من شأنها قلب الموازين , ثم حدث ان اشتعلت بمناطق متفرقة من العالم عدة حركات تمرد وان كان تزامنها مريبا رغم ان لا ترابط يجمعها فالاعجب كانت سيطرتها على اجزاء كبيرة من دولها خلال ايام قصيرة وما اثار القلق وقتها كان الدقة التي نفذت بها تمردها فمن اختيار التوقيت الى نوعية الأسلحة التي استعملوها وعددها ومن بعد هبة العالم لردع تلك الحركات خرجت تقارير ذكرت انها على غير العادة لم تكن هجمات حماسية تعتمد على مجرد الاندفاع انما هجمات ضمنت نجاحها بأسلحة رادعة حسمت تحركها من البداية ولم تكن من معلومات عن مصادر تمويلهم او الطريقة التي خرجت بها تلك الاسلحة ووصلت إليهم ورغم حالة التأهب التي خيمت على العالم اخذت الاضطرابات تنتشر في كل مكان وعجزت تحالفات الدول عن ردعها جميعا وانشغلت بتأمين طرق التجارة وكل منطقة غنية بالموارد , وما كانت تنتهي حرب في منطقة مهمة من العالم الا واعقبها عشرات الحروب بمناطق أخرى نائية , واشتعلت الصراعات في كل بلد حوى بداخله اختلافا في الاعراق او تناقضا في الثروات او تباينا في المعتقدات وتعقدت الامور حتى اخذت بعض الدول بزج نفسها في صراعات خارجية هربا من فتنها الداخلية فانتشرت الحروب بين حدود الدول فدولة تطمع بضم منطقة تدعي ملكيتها واخرى تبتغي حمايتها وكلاهما يرجو حربًا بلا نهاية تضمن له استقرارا مرا داخل اراضيه .....


R7U7PyQ.png


وكان خالد يمضي غالب وقته بالقرب من البحر يقلب الأمور وقد رأى من جولته علامات بعث اتحادات الشرق والغرب الغابرة وكيف انتشرت قناعة لدى بلدان الشرق والغرب عن الحرب التي ستنهي كل الصراعات والعرق الأسمى الذي سيرث البشرية من بعد فناء غيره بل تمادت بعض الافكار ورأت دفع كل اختلاف حتى بين العرق الواحد الى صراع ينتهي بأنقى بداية للبشرية الجديدة .... فكر بالانهيار الوشيك لبلاده وكيف ان موقعها المتوسط من العالم وهيمنتها الماضية على اغلب اراضي الشرق والغرب هي ما ادى الى السلام الذي اصبح يوصف بالجمود الذي منع البشرية من حسم صراعها الابدي بين الشرق والغرب .... هبت نسمة باردة من البحر وسقطت العصا من يده .. تدحرجت قليلا حتى استقرت على الرمال واستقر رأيه وقر عزمه على أمر ما وقد علم يقينًا ان حربا طويلة بين الشرق والغرب لن تُبقي الا شر الناس أما اصحاب الشجاعة والايثار فأول من تحصده الحروب وبالمثل فلا طالت حرب بين فئتين الا وكان النصر حليف شرهما اذ طالما كان الزمن معينًا لأهل الغدر والخداع ......



.



كان صوت الهزيز قد استمر لأيام وصعُبَ عليها النوم , نهضت اثير من الفراش فشعرت بضعف في ساقيها .. جلست لتحاول النهوض مجددا ولم تقوَ .. جسدها واهن وتتنفس بصعوبة .. زحفت للحائط واستمرت تطرقه بقبضتها تتمنى لو يخرج طعامًا على غير موعده بلا جدوى .. استندت للفراش وغفت قليلا .. وقفت وقدماها ترتجفان .. دنت من النافذة لتفتحها ولسبب ما لم تقدر وقبل أن تتساءل عن السبب شهقت وهي تنظر للسور المقابل للنافذة وقد تهدم ... بدا كبيضة تهشمت ومن خلفه رأت جبالا بيضاء تملئ الافق من خلفها كتل عملاقة شقت عنان السماء ومن خلفها ما بدا لها كأوتداد سوداء تمتد بلا نهاية ....


vrXWqRt.png



في تلك اللحظة كانت على ركبتيها تبكي وتنتحب بينما تسترجع اخر ما بقي لها من ذكريات ..... عودة خالد .. انضمامه للجيش .. حروبه المتهورة وعلو نجمه .. سيطرته على البلاد وزج الجيش في الحرب شرقا وغربا .. انهيار الجيش ومقتل اخوته .. انسحابه للحدود الساحلية في الشمال .. الحرب العالمية بين الشرق والغرب وظهور القارة المتجمدة .. احياء الجيش وقراره بالسيطرة على كل السواحل المحيطة بالقارة الجديدة .. استكشاف القارة التي لم تكن الا جبالا جليدية .. زواجها منه .. قراره غزو العالم .. هوسه بجمع خيار الناس وحكمائهم على القارة المتجمدة بعيدا عن الحرب .. التأسيس لمشروع سري تحت عنوان اخر البشر او ما اطلق عليه .. الأُخَّرون ....
 
التعديل الأخير:

Sam.

fire walk with me
أن تداوي بالجنون من الجنون



ج١ : عبر كل طريق كان الجحيم هو ما ينتظرني





Pslzkzg.jpg





اغلق عينيه .. أرخى أطرافه لتغمره المياه الباردة .. توهج القمر الشبحي ..
أحس بجسده يغوص والأصوات تتلاشى ..
من مكان ما تشكلت فقاعة .. عكرت السكون وارتقت سطح الماء ومع صدى تلاشيها تبعتها أخرى .. وأخرى ..
تردد الصدى وكان كمن يرى الزمان .. أمام عينيه تتابعت القرون ..
وكانت تأملاته للنهاية قد أذهلته عن واقعه ..
ثم جاء يوم وسأل نفسه أين اختفت علاماتها ؟ ..
كيف ضاعت البشرية عن الطريق ؟ ....
انقضت عقود وكان مسعاه رد البشرية الى حيث العلامة الاخيرة ..
فكانت الحرب وكان العزوم على تلاتلها ...







.​









أسندت رأسها الى النافذة .. منعها الألم من اغلاق عينيها ... كانت الجبال تمتد أمام ناظريها بلا نهاية .. اهتزت السيارة فكادت تصرخ من الألم .. قالت المرأة التي حملتها لسيارتها ان ساقها قد كُسرت .. فكرت بخطتها العشرية للانتحار وقد انتهت بمجرد كسر .. تأملت الجبيرة على ساقها ورأسها يتصبب عرقا .. تمهلت المرأة خلف عجلة القيادة في سيرها وهي تلقي عليها بعض الاسئلة إلا أنها أصرت على الصمت .. حتى لو فشلت لم تكن لتتحمل فكرة العودة مجددًا .. ألحت المرأة تسألها فلم تجبها وحولت بصرها للطريق المظلم .. بالكاد تبصر ما حولها وبين فترة واخرى تلمح ظلا أسود يتحرك بين الجبال وعلى مرمى البصر تولد أضواء وتتلاشى .. بقايا سيارات محترقة تناثرت على امتداد الطريق ... في السابعة خططت للانتحار وبعد عشر سنوات اقتربت من الموت للحد الذي جعلها تخشاه قدر يأسها من الحياة .. الموت والحياة .. الزهد والرغبة .. أخيرا وبعد كل تلك السنوات تسأل نفسها لماذا ؟ .......


H4hVcco.jpg




في السادسة تتذكر عودتها ذات يوم من المدرسة لتتفاجئ بجدتها تعانقها .. بدلت ملابسها وسألت عن أمها فتلقت عناقا .. سألت عن الطعام فقبلتها جدتها وعانقتها ... مسحت لعاب جدتها باشمئزاز وسألت عن أمها فلم تخفي الجدة نظرة المقت التي بدت في عينيها .. قالت ماما .. صرخت الجدة : فلوه ... شعرت بالخوف فلم تتكلم ..

فيما بعد قيل عن أمها مريضة رحلت للعلاج .. مطلقة تخلت عنها .. اختفت بلا سبب .. ماتت .. وبعد أشهر ظهرت في البيت امرأة جديدة برفقة طفلة في مثل عمرها وتوأم رضيع ... قيل لها تلك ماما وهذه اختك وهؤلاء اخوتك الصغار .. بالفعل ما أجمل الحياة أم لطيفة وأخت تشاركها الدراسة وأطفال تلعب بهم ومعهم فكيف لفكرة الانتحار التشكل بعقل طفلة في السابعة ؟

انحرفت السيارة لطريق غير ممهد فارتجت وتأوهت فلوه من الألم .. أوقفت المرأة السيارة ثم فتحت الباب وطلبت منها تبديل جلستها ..
أمرتها : استلقي .. ثم أسندت ساقها المكسورة برفق الى وسادة وعادت لمقعدها الأمامي تكمل سيرها .. أحست ببعض الراحة ثم انتبهت لمشهد القمر الآخاذ حين تبدى لها من خلف النافذة مشعًا يتوسط السماء من فوقها ..

كانت يومها في السابعة .. ربما هو العيد وأمها الجديدة بصحبتهم عبرت مع أختها نافذة لبيع الحلوى .. صرخت أختها متلهفة للمزيد فوبختها أمها .. بكت لكن الأم رفضت بحسم وقالت : لقد أكثرت اليوم .. أسنانك ومعدتك س .... لسبب ما قلدت فلوه أختها فنهتها أمها .. بكت فقالت الأم بيأس أن لا بأس .. ركضت فلوه للنافذة ثم توقفت فجأة .. تجمد العالم من حولها وشعور بالوحدة يزحف ليغرقها في بحر من اليأس , لا تبالي بأسناني .. تكرهني .. لست ابنتها .. كلي كل الحلوى وموتي , بصعوبة حبست دموع عينيها .. في داخلها كان هناك ما تحطم .. شعرت بنفسها غريبة ضائعة لا تدري لأين تهرب .. لا تجد من تبكي بين يديه .. مبكرًا عرفت معنى الوحدة .. ألا تملك غير نفسها , وبشيء من التلقائية والرغبة في الاختلاف أخذت بتمييز نفسها عن عائلتها الجديدة فلو أكلوا اللحم أكلت الدجاج ولو ارتدوا الأبيض ارتدت الأسود ولو خرجوا في رحلة تظاهرت بالمرض ولو استيقظوا قبلها للمدرسة غرقت في نوم طويل , ورغم تماديها الا أن أمها الجديدة تعاملت معها بصبر وحكمة تثير الدهشة فلم تسمع منها قط كلمة تؤذيها بل تمادت بدورها في تلبية رغباتها حتى أصبحت أغلب الأيام تطبخ لها بشكل خاص .. ثم هي دائما تدللها فوفو ولو اشترت لها شيء حرصت على ان يكون مختلفا عما اشترته لابنتها وأحيانا افضل لترضيها , أما أبوها فكان كثيرًا ما يصفها بالغريبة فكانت تردد في نفسها نعم انا غريبة انا ابنة أمي فقط ثم تمضي وقتها في المستودع تتأمل حاجيات أمها القديمة .. ملابسها .. حقائبها .. أحذيتها .. اثاث بيتهم القديم .. بدت لها كل تلك الاشياء القديمة اكثر رقيا .. تتخيل أمها في صورة ساحرة ثم تردد لنفسها بالتأكيد هذا الأب الفاسد قد خانها مع تلك السوقية لهذا تصرفت بنبل فرحلت بصمت ...

أوقفت المرأة سياراتها برفق .. أشعلت لفافة تبغ ثم نظرت لفلوه عبر مرآة السيارة .. قالت : إن عبرنا فعودتك لن تكون بتلك السهولة .. تفهمين ما يحدث , لم تجب واستمرت على صمتها .. ألقت المرأة باللفافة عبر النافذة ... قالت : فليكن .. أنت غريبة , وعاودت سيرها ...

أكانت تتعمد الغرابة أو هي بالفعل غريبة , اعتادت انها مثيرة للاهتمام لمن لا يعرفها مملة لمن يعرفها , بين زميلاتها كانت محط الاهتمام الى أن يتعرفنها ثم يصفنها بالغرور أو الجنون او الإزعاج غير المحتمل .. طريقتها في التفكير .. نظرتها للأمور .. رأيها في الناس .. تعبيراتها المتكلفة .. سخريتها الفظة ممن هم أقل منها .. كرهها لكل ما هو محبوب .. تهربها من أي دعوة وتفضيلها قضاء العطل وحيدة بغرفتها كلها صنعت منها غريبة أطوار مزعجة , في الخامسة عشر لم تعد تخفي كرهها لزوجة أبيها .. توقفت عن قول ماما .. انعزلت عن اخوتها واغلب الوقت تتصرف وكأن لا وجود لهم , حاول والدها أن يفهمها بلا جدوى ... قال : أين لك بأم حنونة مثلها .. قالت تغيظه : نعم حنونة ولو رأتني في نار مسعرة ثم استطاعت لزادت فوقها حطبا ... كان يكره تعبيراتها المتكلفة .. حاول أن يتمالك نفسه لولا أن ضربها على كتفها .... صرخت .. هرعت زوجة أبيها للغرفة .. وجدتها تبكي فضمتها الا أن فلوه ابعتدتها عنها وخرجت .. قال أبوها : اتركيها .. مجنونة ابنة مجنونة ...

ثم وكعادتها بعد كل شجار تفتعله عزلت نفسها في المستودع .. بكت قليلا ورثت نفسها ... تقلبت على الأريكة وكانت قد نثرت عليها ملابس والدتها .. سقطت على الارضية .. جلست وبين يديها معطف أبيض .. ارتدته فوق ملابسها .. دارت حول نفسها وهي تتخيل أمها جراحة شهيرة درست في اشهر جامعات العالم ثم اوقعها حظها الغبي مع هذا البدوي ضيق الافق .. تعبت من الدوران فألقت جسدها على الاريكة ونامت ....


NOKY8wQ.png


فتحت عينيها .. كانت المرأة الغريبة مستمرة بالقيادة .. شحب الافق بضوء الفجر وسمعت المرأة تقول : اقتربنا ... , أحست بالخوف .. تمنت أن تبقى ضائعة بعيدة عن كل مكان .. لو ينتهى العالم لأجلها في تلك اللحظة .. تساقطت دموعها وهي تتخيل حياتها لو لم ترحل أمها , لم تفهم أبدًا لماذا اختفت , ذات يوم سمعت الجدة البغيضة تثرثر واصفة أمها بالفاجرة .. تخلت عن زوجها وابنتها بعد أن حنت لحب قديم , قالت الجدة : أصرت على الطلاق وحين يئست اختفت , ... لم تصدق ولو مرة تلك العجوز الحقودة وإن لم يمنعها هذا من تخيل أمها في صورة أبية لم تسمح حتى لابنتها ان تكون سببًا في سلب حريتها , فلو صدقت الجدة فهي بلا تردد فخورة بأمها .....

في السادسة عشر تخلت زوجة أبيها عن قناع الأم الحنون وما عاد يشغلها غير تحريض زوجها : امنعها .. احرمها .. عاقبها .. احبسها .. ادبها .. اعزلها ..
وبعد عام قررت أن الوقت قد حان للهرب فالانتحار .. أرادت قبل موتها ان تحظى بلحظة ساحرة .. تخيلت نفسها على قمة جبل تتأمل العالم للمرة الاخيرة قبل أن ترمي بنفسها ... استغرقت اسابيع تخطط لسرقة سيارة أبيها وتتأمل خط سيرها للسلسلة الجبلية أقصى الجنوب , ومع الفجر الموعود فتحت عينيها التي لم تنعس قط تلك الليلة وبلا تفكير نهضت لتجلس على مكتبها ..

أشعلت الضوء الأصفر وقلبت دفترها الأسود لصفحته الأخيرة ... كتبت تستفز من يقرأ بعدها : أقول وقد سقاني بكأس النعسة السهر .. إلى الشيطان الذي أوهمني بأبوته ... إلى العاهرة التي أدت دورها كأمي .. إلى السحالي التي تناديني أختاه .. إلى الغد الكئيب الذي لن أراه .. إلى عالمي البائس وداعًا .. وما الناس إلا آلف ومودع .. لا تبحثوا عني فأنا قد .. سبقتكم الى الجحيم ...
ثم انتقلت للسطر والاخير وختمت رسالتها : وكنت أرى كالموت بقائي بينكم فطابت نفسي بموت فرقنا وأبعدكم




Loibryu.jpg
 
التعديل الأخير:

Sam.

fire walk with me
أن تداوي بالجنون من الجنون


ج٢ : فجر النهاية




KbvhbCs.png



تسجيل مسرب عن محفوظات هيئة الابدال التابعة للمركز - دليل السجلات السرية للفترة بين ١٤ و ١٥ أ.م - لا يحتوي معلومات وصفية - هامش تم اتلاف المصدر الاصلي - نسخة مبنية على خطأ ٦٦ - أصوات مجهولة الهوية






" ..... أ .. أل .. أ أ .. تسسسسسز ...الموت .. تقصد الموت ... "

" الى حد ما .. في الخامسة خسر والده في ذلك الحادث , وببلوغه الخامسة عشر اشتد المرض بوالدته وماتت ... نعم كان للموت أثره .. لاشك عندي أن تلك الفترة كانت البداية لأفكاره , صحيح ان سنواته الثلاثة في الكلية الحربية كانت عادية إلا أن .... "

" تززززززززسسس .. . فما السر خلف لقب القائد بين أقرانه .... ألا .....تسسسسسزز .... "

" لا لا كان مجرد لقب اشتُهِرَ به .. حتى قيادته من الضباط الأعلى رتبه كانوا يلقبونه في مجالسهم مزاحًا بالقائد .. يمكنك أن ترى خلف اللقب شخصيته الملهمة .. تأثيرها الكاسح على من حولها .. بالفعل لو عدنا لتلك الفترة نجده كان مُكرمًا أينما حل , متصدرًا كل مجلس , مقدمًا عند الصلاة , مقربًا من قيادته , سريعًا في تدرجه للرتب ... "

" بدايتتتتهتسسسسسسززززز "

" من قبل اجتياح الجبل ذاع صيته عندما قدمه الجيش متحدثا باسمه خلال الاضطرابات الشرقية وبانتهاء الازمة تم انتدابه الى اللواء السادسسسسسسسززززز .... "

" ذلك الجيب .... "

" كان الاسم الشائع في طفولتنا جيب جهنم .. لا يمكنك أن تُحصي أبدًا عدد من فقدناهم ... كان متنفسنا الوحيد الى العالم .. مساحة شاسعة اقصى الشمال الغربي تمتد عميقا في أراضي معادية , شمالا دول تدعي ملكيتها للجيب , الشمال الغربي نزاع البحيرات المستمر .. الغرب قرى الجبل مأوى العصابات وقطاع الطرق وخطرهم على طرق التجارة البرية فضلا عن قراصنة الشرق وقطعهم المستمر لطرق الملاحة عبر المضايق الشرقية .. الجيب نفسه خليط من الاعراق تفتقد للانتماء بعضها ينادي بالانفصال وبعضها ينتمي لمن يدفع ... بكل الاحوال كانت خسارتنا للجيب تعني خسارتنا لطرق التجارة والمياه ومناجم الذهب .. وبشكل أو بآخر نهايتنا كدولة ... "

" ززززززسسسسسسززز .. ال.ززززززز ... من ززززسسس ..... "

" سسسسسسسشززز .. أ.. أو بتعبير آخر مَن خان مَن .. لو تسألني كيف بدأت الخيانة .. تلك المأساة .... بل تلك الفترة شكلت شبابي .. أفنيته سعيًا خلف حقيقتها ..اززززززسسسس ........ "


xJyd8n7.jpg



" مشروع القوس ثلاثي المفاصل .... "

" نعم ... مشروع القوس ... كانت الخطة التي اقترحها القائد على قياداته في اللواء السادس ... استحسنوا الفكرة .. بدت لهم السبيل الوحيد بل الحل النهائي لمشكلة الجيب ... ليست مبالغة لو قلنا فاقت كل ما حلموا به .... كانت الخطة في مرحلتها الاولى تضمن لهم ليس فقط حماية الجيب انما حصارًا للدول المعادية , ثم المفصل الثاني وينتهي بتصفية كل ما قد يهدد الجيب .. منطقة شبه معزولة تمتد من البحر شرقا الى قرى الجبل غربا , ومرحلتها الأخيرة ان توفرت الارادة السياسية يوما ستسمح للمركز بالتوغل كيفما شاء جنوب الدول الشمالية او حتى إسقاطها ان أراد .... "

" أكانت قابلة للتنفيذ .... "

" بالتأكيد .. تأمل الخريطة .. سقوط الساحل الشرقي ثم قرى الجبل غربا .. هذا القوس تلقائيا فرض حصارا على الدول الشمالية .. فان حدث خسروا منفذهم البحري شرقا ومن فوقهم قرى الجبل غربا جاعلة قواتهم البرية في مرمى النيران فلو اضفنا خشيتهم من تقدم اللواء السادس جنوبا فلن يبقى لهم غير سحب قواتهم من الجنوب ..... تززززززز سسسسسسزز ..... "

" سسسسسسششززززززز ....... "

" كنا في وضع حرج واستجاب مجلس الحكم سريعا لخطة اللواء السادس .. تسارعت الاحداث وشهدنا بأعيننا العالم يتغتير مشاعر الحماسة والفخر كيف انساها .. كانت الدماء تغلي ... كم احن لتلك الايام ... تعلقت قلوبنا بالقائد .. قاد بنفسه الكتائب تنفيذا لخطته , وفي مرحلتها الأولى كان تقدمه كالصاعقة , وخرجت الصحف يوميا تتصدرها صور القائد , وعلى الرغم من رتبته مقدم استعملت الصحف لقب القائد ... ألهبت حماسنا بالعناوين .... تقدم القائد شرقا ... عزل قوات العدو غربا ... حاصر قرى العدو شمالا .. اجتاح احصن مواقهم ... مئات الاسرى من الاعداء ... السيطرة على موارد الشمال ... قطع طرق الإمداد الشمالية ... انتصارات تاريخية .. العدو يستجدي السلام .. اعظم قائد عسكري عرفه المركز ........ ززززسس ... ث زززز ث ثم ... ثم .. تسسسسسسسز ...... "
 

Sam.

fire walk with me

أن تداوي بالجنون من الجنون


ج٣ : على قمة ذلك الجبل وخلف تلك الجدران أظلتنا غمرات الموت




uS6qXfE.jpg






همس الصوت : فلوه .. فلوه ..... جلست على الفراش تتلفت حولها .....
مضى شهر منذ حملتها المرأة الى قريتها , فيما بعد عرفت انها عبرت الحدود فلم تهتم ولم تجد اهتمامًا هي الاخرى , سألت عن الأصوات التي تناديها فقيل لها هي الرياح ستعتاديها .. لم تكن متأكدة , كانت المرأة قد انزلتها بيتها وعلى غرابته كان اقرب لمستشفى صغير تديره بنفسها , ازدحم الفناء بغرف تمريض بنيت من الحجارة .. اما البيت فمجرد طابق ارضي مكون من حجرات صغيرة للنوم ...

لم تعرف للمرأة اسمًا .. كان الجميع يناديها دكتورة وكانت دائما منشغله , لا تعرف الكثير عن قرى الجبل مجرد صور مبهمة عن منطقة فقيرة منعزلة في الجنوب , اكانت بحاجة لتعبر دولة اخرى لتصلها ؟ انتابها شعور غامض , سمعتهم يتكلمون عن تحالف ما في الشمال .. يبدو انهم يتعرضون لحصار وشيك والقرى مضطربة , امسكت ساقها .. لم تعد تؤلمها , قالوا لها حين تتعافى ستبدأ بالعمل معهم في التمريض , وكان لدى الطبيبة تسع ممرضات وثلاث عمال وسائق واحد لنقل المرضى , نصف الممرضات كن يعشن في البيت نفسه رفقة الطبيبة وابنتها هند , لم ترى ابنتها غير مرة وشعرت انها لسبب ما تتجنبها ..

خرجت للفناء كان خاليا من المرضى او الممرضات على غير العادة , تأملت الاسوار الحجرية حولها , بالأمس دفعها الفضول لمحاولة الخروج لكن البوابة كانت مغلقة , لمحت ممرضة سوداء البشرة تعد القهوة في المطبخ الخارجي فبحثت عن كوب ورقي وصبت لنفسها بعض القهوة قبل ان ترجع لمكانها المفضل خلف الغرف الخارجية , وعلى مرمى البصر كانت الجبال تغطي الافق بمشهد كئيب ...
احست بالقهوة باردة فلم تبالي كانت الشيء الوحيد المتوفر بكثرة هنا ورغمًا عنها اعتادت ان تشربها الى ان احبتها ثم لم تعد تهتم ان كانت مع سكر او باردة .. عوضتها عن شح الطعام , ثم بدا وكأنها تذكرت شيئًا ما فابتسمت , قبل شهر وحين فتحت عينيها قدموا لها بعض الخبز وقطع دجاج باردة .. يومها اكلت ونظرت للممرضة التي احضرت لها المزيد من الخبز فأكلته بشهية ادهشتها الى اليوم , في الايام التالية تعلمت الاكتفاء بقطع الخبز الجافة والفجل والباذنجان مع القهوة , وفي ايام معينة كانوا يحصلون على وجبات ملائمة حين تصلهم الاعانة الاسبوعية من قيادات الجبل , لسبب ما كانت خدمات المستشفى مجانية , فيما بعد عرفت ان الجبل بلا مدارس او مستشفيات وان اغلب العوائل الكبير نزحت منه على مر السنين , اما الاكثرية من سكانه فخليط من قطاع الطرق وشخصيات اجرامية فرت من بلدانها الأصلية ثم استقرت به , والبقية كانوا من الضعفاء والمساكين وبعض ممن عزموا على التمسك بأرض اجدادهم على ريب الزمان ..

اشتدت الرياح من حولِها وتردد الصوت هامسًا : فلوه .. فلوه ..... فلوه ..... تلفتت فزعة .. اهتزت يدها وشعرت بدوار .. اسقطت القهوة وابتلت الارضية ... أمام عينيها عبرت الممرضة ذات البشرة السوداء .. نادتها فلم ترد وتابعت سيرها .. اشتد الدوار وأحست بجسدها يتهاوى ....





KWHwQOI.jpg





شعرت بالراحة حين فتحت عينيها ليطالعها وجه الدكتورة , قالت : لا بأس بمرور الوقت ستعتادي نقص الاكسجين وانخفاض الضغط .. ارتاحي الان ...
سخرت هند : فعلا كان خروجها للفناء مجهودا رهيبا , قرصتها امها في اذنها قائلة : اذهبي وجهزي حقيبتي .... , صمت الجميع وبدا كأن النقاش حول سفرها قد تم قبل قليل .. بإحباط غادرت هند الحجرة ..

في المساء أحست فلوه بجلبه صادرة من الخارج , اطلت من النافذة رأت احد العمال يهرع الى البوابة واخر يقف مرتبكا لا يدري أيتقدم أو يتراجع .. بعض الممرضات صرخن وانسحبن لداخل البيت .. من وقفن في الفناء كن يسرعن بستر وجوههن , لحظات وعبر البوابة رجل غريب المظهر برفقة رجلان من زيهما خمنت انهما ربما حراسه .. للحظات وقف الرجل وعيناه تمسحان المكان ... اقترب قليلا من البيت وجلس أمام غرفة خارجية قد حوت مريضًا , واذ أبصرته عن قرب شعرت بالرعب من هيئته كان فارع الطول بملامح قاسية وصوت جهور سبقه قبل دخوله ملقيًا السلام فأربك من بالبيت , تساءلت لو ان قدومه ليس الا زيارة لأحد معارفه من المرضى ...

رأت الدكتوره تسير نحوه ثم وضعت على عينيها نظارة سوداء , وقفت أمامه فلم يغير من جلسته ... لم تسمع ما قالته إلا ان الرجل بعد لحظات وقف بعصبية ليصلها صوته وهو يقول : لا لن تذهبي .. لن أسمح ....... , ثم التفت مغادرا وتبعه حراسه , للحظات وقفت الدكتورة ترمقه بينما يغادر .. رأتها فلوة تمسح دموع عينيها , فيما بعد سألت عن الرجل فقيل لها : زعيم الجبل .....




.




في الأيام التالية كثر الكلام عن الحصار , وأخذت الطبيبة تعمل بجد لاعداد مشفاها للصمود قدر استطاعتها , أما هي فقد بدأت بتلقي دروسها في التمريض وانصب تركيزهم على التعامل مع الحروق والجروح والكسور وكيفية انقاذ مريض تعرض لبتر جزء منه على المستوى الجسدي والنفسي , كان التدريب يستنزف طاقتها ووقتها , ثم ما تبقى من اليوم تمضيه في كتابة عشوائية تساعدها على التخلص من توترها , ذات مرة كتبت عن الدكتورة " سمعت احدى الممرضات تهمس انها لا تنتمي للجبل وكانت تتعجب من اهتمامها بسكانه ان لم يكونو اهلها , بشكل ما كنت اتفق معها فالدكتورة لا تشبههم لا في الطباع او اللهجة , صحيح انني لم احظ بفرصة للخروج من البيت الا انها بالتأكيد لا تشبه هذا الفظ الغليظ المسمى زعيم الجبل ولا هؤلاء المرضى غريبي الاطوار والطباع والعادات ..... قبل أيام سمعتها تقول لاحدى الممرضات عني : لو تركتها لماتت .... , اتمنى لو تركتني للموت "

وعن تدريبها كتبت تعليقا : " يدهشني اصرارهم العجيب على تعليمي .. يظنون ان بامكاني التعامل مع تلك النوعية من الجروح .. او ان اساعد مصابا بتشوه على تجاوز صدمته .. قد تقتلني انا الصدمة لو تدخلت ... أتمنى لو خصصوا لي دورا في مساعدة الجرحى على شرب الماء لا اكثر "

أحيانا كانت تعبر عن قلقها مِن قلق مَن حولها " قلقهم يشعرني بالخوف .. لو كنت أفهم ما يحدث .. متى اصبح الجبل مهمًا ليتعرض لحصار ما .. ما هو تحالف الشمال .. ألا يعتبر قدومي انا نفسي من الشمال .. لعل قصدهم الغرب او الشمال الغربي .. رؤيتهم هنا للعالم غريبة أو انا هي الغريبة .... "

" لا احتمل البرد ولا حر الظهيرة ... انا مرهقة اغلب الوقت بلا سبب ... "

" غدت اجمل لحظاتي اليومية شرب القهوة قبل الغروب .. "



IUBWQmt.jpg




" سمعت اليوم من احد المرضى كلاما عن الوضع المزري لقوات الجبل ... قال شيئا عن هزيمة تعرضوا لها قبل شهر ومن تبعاتها ان الطريق لحصار الجبل قد اصبح مفتوحا للجيوش الشمالية .... "

" قبل ساعات من اكتمال الحصار وصلت الاخبار بحصار اخر قادم من الجنوب .. كانت الصدمة هذه المرة كبيرة .. يبدو ان امالهم قد انهارت في منفذ يوفره لهم الجنوب .. اهذا يعني ان جيش الجنوب معاد لجيش الشمال ... هل اتحدوا فجأة والضحية هم سكان الجبل او ان الجبل مجرد ساحة معركة لا تعنيه ... "

" زعيم الجبل استنفر كل من بالقرى من رجال ... حتى عمال المشفى الثلاثة التحقوا بقواته ولم يتركوا لنا غير السائق ...."

" أصوات الانفجارات لا تتوقف .. الطائرات لا تكف عن مسح القرى ورميها .. مدافعنا قصيرة المدى وقوتها التدميرية متواضعة .. لم يبق للجبل غير الاستسلام او الفناء ....... "
 

Sam.

fire walk with me

أن تداوي بالجنون من الجنون


ج٤ : مضت عشر سنوات وكانت خالتي تنتظر






GfqJt9b.jpeg




نظرت في ساعتها .. لحظات وينتهي الدوام , اسقطت رأسها إلى المكتب تُنصت لدقات الساعة الخافتة .. تختلط بوقع اقدام زميلاتها وهن يغادرن ..
رفعت رأسها وقد بدأت تشعر بالنشاط , دونت عدة ملاحظات عن بعض الظواهر التي قد تخرج منها بقصة ما , كان عملها لدى قسم الاستعلامات بوكالة الانباء ينتهي في الثالثة إلا أنها كانت تتعمد البقاء للسادسة , مجرد ملل من الحياة وحتى الاجتهاد لم يكن ليمنحها افضلية ما مع وظيفتها البائسة .. هي فقط طريقتها لحرق الوقت بدلا من عودتها المبكرة لتبقى في بيتها وحيدة حتى صباح اليوم التالي , لسبب ما ترى حياتها مملة وتأبى وصفها بالكئيبة ثم تواسي نفسها : حظي السيء ..... , وبتعبير أدق كانت منحوسة أينما حلت , فبعد التحاقها بالجامعة تزوجت اختها في سن مبكرة ورحلت , وقبل تخرجها تورطت في حادثة ما وتم فصلها , وبينما كانت تعاني من الاحباط تطلقت أمها وغادرت لتتزوج بعد اشهر , وقبل ان ينتهي العام كان ابوها يعمل بجد لتزويجها وحين فشلت محاولاته وأصابه اليأس من عنادها تزوج هو لينشغل بعدها بزوجته الجديدة , ثم نظرت حولها لتجد نفسها نسيًا منسيًا .. بلا مؤهل .. وظيفة متواضعة .. أمها في بلد بعيد .. أبوها انتقل بعمله لمدينة اخرى , ثم اختها المجبرة من زوجها على الابتعاد عنها من بعد ادانتها في تلك الحادثة , وكانت عشر سنوات قد مضت قبل أن يلين قلبه ويسمح لها على كره ان ترى اختها بين حين وآخر .....

مزقت بعض الاوراق القديمة ثم تذكرت مكالمة هامة فرفعت سماعة الهاتف .. دونت رقما وانتظرت الاجابة .... كانت وظيفتها تنحصر في البحث عن الظواهر او القضايا التي قد ينتج عنها قصصًا صالحة للنشر , فتبدأ اولا بحصر الظاهرة ثم الاستعلام عنها قدر استطاعتها حتى اذا انتهت بتصور ما يصلح كقصة أرسلتها لقسم التحقيق , ..... من الجانب الاخر أتاها الصوت :
- تيماء ....
- حصلت على نسخة ؟
- ليس بعد تم فرض السرية ....
- هل الامر بتلك الخطورة ؟
- لست ادري مع تحليلهم لتلك الاشارة تم التكتم على ما ورد فيها , على الاغلب مُحيت التسجيلات قبل تسريح الفرقة البحثية ...
- لابد من احتفاظهم بنسخة ما ...
- أنا أحاول .....

وضعت السماعة شاردة الذهن , تتذكر ما حدث قبل اسابيع حين التقطت احدى محطات الرصد اشارات موجية قادمة من الفضاء , كانت مختلفة عن موجات الراديو المعتادة وتشكلت هيئة خبراء انبثقت عنها فرقة بحثية لدراسة طبيعتها , ثم قدمت الفرقة تقريرها الذي صرحت فيه بعجزها عن فهم حقيقتها او ما قد تعنيه , الا ان مقطعا تم تسريبه لاحد الخبراء تكلم فيه عن نجاح الفرقة البحثية بتحويل تلك الموجات لأصوات حملت رسالة صادمة للبشر وان الهيئة لازالت تدرسها , وبانتشار المقطع اصدرت الهيئة بيانا عبرت فيه عن صدمتها من المعلومات المغلوطة والتي وردت في التسجيل المنسوب لاحد رجالها وان الحوار تم بتره خارج سياقه عن عمد لمجرد الإثارة , أما هي فقد أكد لها احد مصادرها للمعلومات ان هناك بالفعل تسجيلا صوتيا لتلك الموجات ووعدها بتسريبه ولازالت تنتظر بلا فضول ..... , مجرد هراء .. كانت تفكر .... اصوات غير مفهومة ومئات الفرضيات والقصص الملفقة لتفسيره , ثم لن يعرف احد ان كان تسجيلا قد وجد من الاصل ام لا ...... , في قلبها هيمن الملل فلم تعد تبالي ايا كان ما تنتظره من اخبار .. كانت تتقدم بالعمر ومباهج الحياة تتلاشى , في الثلاثين تبتذل الحياة نفسها , تتماثل حوادثها ويتشابه اهلها , وما ألفته مثيرًا للحماسة أمسى للسخرية أقرب , تتساءل أحيانا عما تعانيه من سأم لو قتلتها الوحدة من الداخل او مات قلبها مع ذلك الحلم ... تتحسر .. ما أبعده من حلم , وأي فراغ تركه في قلبها ...

نهضت واعدت لنفسها بعض القهوة .. جلست امام النافذة وكعادتها تختتم يومها تتأمل الطريق , بلا وعي كانت السيارات تبدو كمرآة ليومها التالي , إن ظهرت سيارة من العدم لتتجاوز غيرها ثم تقطع الاشارة ترقبت في الغد خبرًا مثيرا ولو حدث التصادم عند تقاطع المجمع التجاري وتوقفت حركة السير توقعت خبرا يطغى على غيره من الاخبار , أو ما اعتادته من انتظام السيارات في مشيها ليعقبها يوم ممل ...... , نظرت عبر الزجاج كان الطريق خاليا ... لدقائق لم تلمح سيارة او حتى شخصًا يسير على قدميه , خمنت .. لعل شخصية هامة قد تعبر فأغلقوا الطرق , انهت القهوة وخرجت من القسم فالمصعد فالقبو حيث سيارتها , احست بوقع خطوات قريبة فتوقفت ونظرت للخلف , رأت مجموعة من الرجال بعضهم بملابسه العسكرية يسرعون الخطى نحو المصعد , لمحت وجهًا بدا لها مألوفًا .. سمعته يقول : نحن بصدد وضع نهاية لاضطرابات الحد الشرقي ......
تجمدت وهي تنصت .. ذلك الصوت .. صعقتها المفاجأة فأرسلتها بعيدًا .. عشر سنوات وأكثر .. توقف الزمن .. مالت بها الذكريات تحملها الى بدايتها الجامعية وفي داخلها تصف نفسها بالقروية الساذجة , ...... اقترب منها بملابسه السوداء .. من عينيها ادرك انها قرأت .. مد يده فناولته دفتره , للحظات جلس بالقرب منها يجمع اوراقه .. نظرت له بفضول وقد عجزت عن الكلام .. قال لها : في تلك الحلقة المفرغة أبصرت للبشر طريقًا الى النهاية .....

خرجت من ذكرياتها وعاصفة من المشاعر تعصف بداخلها , سقطت حقيبتها .. تعلق بصرها بالمصعد .. ركضت لنهاية القبو .. دارت الى مدخل البناية وهناك لمحته من خلف زجاج المصعد وهو يبتعد لأعلى .. كانت متأكدة .. لم يتغير ولو قليلا ..


OUHgNsG.jpg



راقبت المصعد وقد استقر في الطابق الاخير , همت بالصعود إلا انها عادت للقبو حيث حقيبتها .. اخرجت الهاتف وتحققت من اخر العناوين : الجيش يكشف عن متحدثه الرسمي الجديد على الجبهة الشرقية والاخير يعلن عن ثلاث مراحل لحل الازمة ....
كانت قد قرأت الخبر في الصباح بلا امعان .. تفحصت الصورة على الصفحة .. كان هو نفسه .. ماجد .. تتذكر الان اتصالات الجيش مع رئيس الوكالة .. الاجتماع الطارئ .. فكرت بعشر حجج لحشر نفسها في الطابق الاخير .. همت بالصعود ثم احست بخيبة امل فتراجعت لسيارتها .. جلست بإحباط تتأمل حالها , أكانت سترضى لو رآها بملابس العمل .. شعرها المنتفش .. عيناها المرهقتان , وماذا عن وظيفتها المتواضعة .. تعليمها الذي لم يكتمل .. عائلتها التي نبذتها .. سن الزواج الذي ضيعته , ارتجفت يدها فسقط منها الهاتف .. رأت نفسها بعيدة كل البعد عما كانت ترسمه لمستقبلها , قالت من بين دموعها : يا لحياتي البائسة .. , اسقطت رأسها الى المقود , مر بها خاطر كئيب أبصرت نفسها جثة مهملة في بيت أشباح لا يبالي مَن خارجه ان كانت من فيه حية او ميته ..... , لحظات واحست بنفسها بغتة وقد غمرتها مشاعر مبهجة .. فكرت بماجد وقد نال ما أراد , تخلى عن الجامعة والتحق بالكلية العسكرية ثم انقطعت اخباره إلا انه اليوم وبعد عشر سنوات يشغل احد اقوى المناصب واكثرها تأثيرا على البلاد .....

اهتز هاتفها فمدت يدها تبحث عنه اسفل المقعد , مسحت عينيها ونظرت للرسالة : خالتي .. تأخرت ....
لم تعلق .. كانت تكره حين يناديها خالتي , نظرت في ساعتها .. نسيت انها نهاية الاسبوع وموعد زيارتها , بتردد كتبت وجهتها : مستشفى الصحة النفسية ...
حاولت التنفس ببطئ لتهدأ , لم تستطع ابعاد ماجد عن تفكيرها .. منذ ترك الجامعة وهي تحلم باليوم الذي سيراها فيه , ايقنت بنجاحه وتخيلت نفسها ترتقي قريبا منه , ثم جاء اليوم فإذا بها في القاع تتوارى عن انظاره خجلا , حتى عندما عادت علاقتها مع اختها لطبيعتها صادف ان ابنها قد اختار هذا الوقت بالذات ليعاني من نوبات هلع اعقبها محاولة فاشلة للانتحار انتهت باحتجازه في المستشفى , لن تعرف ابدًا لأي درجة مدهشة سيبلغها نحسها , فإن صادفت زوج اختها عند زيارتها رأت في عينيه نظرة كراهية تصرخ : هي عقوبتنا لتقربنا من أمثالك .. تحاول تجاهله .. فكرت مرات بالابتعاد عنهم إلا ان اختها كانت تثنيها قائلة : ابني عامر متعلق بك .. هو بحاجة للجميع ..... , يحيرها تعلقه بها .. لم تكن تتحمل سذاجة الاطفال ولا غرور المراهقين مما جعلها لا تحظى ابدا بعلاقة طيبة مع الاجيال اللاحقة , النظرة البريئة للعالم .. غرور المتعالي بمعرفة سطحية للحياة كانت تجارب عايشتها ولا تصبر على رؤيتها تتكرر في غيرها ......

وصلت المستشفى فصعدت الطابق الثاني لتتوجه الى حجرة الطبيب , كانت بطاقتها الصحفية تفتح أمامها الأبواب ويخصص لها الطبيب كل وقته ليحدثها عن حالة الفتى وقدر عنايتهم الفائقة بصحته , سألته : تعني أن تلك الأحلام المبهمة هي سبب نوبات الهلع ؟ , أجاب : هي حالة متقدمة من اضطراب الكابوس , قمنا بالعديد من الاختبارات لدراسة حالته اثناء النوم , كنا نأمل لو حدثنا عن كوابيسه عندها سنساعده في التغلب عليها .. قد نبدأ ببعض الأدوية وتنظيم جلسات استرخاء ...
سألته : اذكر من كلامك ان تلك الكوابيس ترتبط غالبا بصدمة تعرض لها او مرض جسدي ...
قاطعها : هنا تكمن المشكلة .. حياة الفتى طييعية بشكل كامل .. لا صدمات ناتجة عن مشاكل اسرية او اخفاقات دراسية كما انه لا يعاني أي نوع من الامراض .. ومن الغريب ان نرى مثل هذه الحالة لدى طفل في الثالثة عشر ......









pfF1HRe.jpg
 
التعديل الأخير:

Sam.

fire walk with me

أن تداوي بالجنون من الجنون



ج٥ : فراغ




vCtEzrK.jpg







ألقى حقيبته على أحد المقاعد المقابلة لمدخل الكلية .. وقف قليلا يتلفت حوله , جلس ينتظر الحافلة .. أشعل لفافة تبغ .. تململ من حرارة الطقس .. زفر الدخان وهو يتأمل اللافتة البعيدة .... " الكلية الحربية - مهد الأبطال " , ...
كانت عطلته الشهرية تمتد لأربعة أيام ولولا والديه لاعتذر عنها ,....... العودة الى البيت والاجابة عن سؤال أمه الأبدي .. أسامة لماذا لا تتزوج ؟ .... , في عمره كان أبوه زوجًا وأبا لعشرة اطفال رغم انه لم ينجب غيره , وخاله الذي كان يبحث عن الزوجة الرابعة مع انه لم يقترن بغير واحدة وطلقها ..... , منذ تخرجه تملكته حالة من الضياع فآثر التدريس على الالتحاق باحدى الفرق .. لم يجد لحياته معنى او هدف , لم يتحرك قلبه لزوجة وأسرة , لم يفكر بالمال ولم يبال يومًا بترقية بل كان يتحين الفرصة الملائمة لتقاعد مبكر , ....
بهذا الفراغ الذي يملؤه عجز عن ادراك العلة من تكرار حياة أبيه , زوجة وأولاد ثم تمضي الحياة والمركز الى الهاوية , تؤرقه حقيقة الانتماء لمجتمع قدم الراحة على الجد أظلته قرونٍ لم يسمُ فيها لمجدٍ أو عُلا ولم يتحرك أبدًا لهدفٍ أو غاية فلا خير في كثرته او اعانته على تكثيره بزواجه ثم اليوم الذي بات يراه قريبًا وهو يأكل بعضه فيبلى فيضمر فيحور رمادًا ويمضي أهله أرسالاً إلى حيث ........ , يسترجع طفولته .. أحلامه العظيمة , ثم كيف التحق بالكلية الحربية واصطدم بحاضره البارد فالمركز سيبقى منكمشًا على نفسه متسامحًا مع أعداءه طالما ضمنت قبائله الكبيرة مصالحها التجارية , أما التوازن بين الشرق والغرب فباق ما بقي المركز على حاله , ...... الحلم بهيمنة المركز ؟ ... مجرد أوهام , ....

وصلت الحافلة فألقى اللفافة وصعد متخذًا مجلسه بجوار النافذة الخلفية , .... تحركت الحافلة .. اهتز هاتفه .. كانت رسالة طويلة من جدته , ألقى عليها نظرة فبدت له كتمهيد لجلسة جديدة تقنعه فيها بالزواج , كانت تحدثه عن زوجة محتملة انتقتها له بعناية ...... , عائلة عريقة .. وظيفة مرموقة .. طيبة الاخلاق .. بيضاء القلب .. كحلاء العينين .. طفلة الكف .. أسيلة الخدين ....... , تجاوز الفقرة الدعائية وعشا وصفها المحتمل لفقرة عن استعمالات الزوجة , .... موظفة تجمع له المال .. طباخة تحفظ أمواله .. مربية لو انجب .. سكرتيرته لو بدأ مشروعه .. معلمة لو حظي بأبناء أغبياء .. زوجة احتياطية لو تزوج من أخرى .. ثروة مؤجلة حين ترث أباها أو يسعفه الحظ وتلحق بأبيها .......

أحس بالملل فأغلق هاتفه ..... , نظر عبر النافذة والجبال تعلو السحب .. شعر بحنين غامض .. عاطفة بعيدة كلما توارى عنها ادركته .. يغالبها فتغلبه يهجرها فتصله يتنائى فتلاقيه .... , كم يكره طفولته وأي نقمة ادخرها لأبيه مذ كان صبيًا يتنقل بين مدينة وأخرى في مغامرات فاشلة لأب سيء الحظ كلما استقر بمدينة لم يكد يلبث حتى تبور تجارته فيرحل عنها الى غيرها .. أفنى ثروته ثم عاد الى قريته يتسول نفقات اسرته من أمه العجوز البخيلة مانحًا اياها الفرصة التي كانت تنتظرها .. هيمنت على أسرته الصغيرة .. استعملت الأب مديرا لأعمالها والأم مدبرة منزل ثم هو الذي اضحى اسيرًا بين يديها توجهه حيث تراءت لنفسها منفعة , فإن تجاهل استبدادها لم ينس كيف اصبحت عاداتها فرضًا على كل من بالبيت .. النوم مبكرا .. اغلاق الكهرباء من بعد العشاء .. الاستيقاظ عند الفجر .. مواعيد الطعام الصارمة ثم عادتها العجيبة في تناول الطعام سريعا لتنهض من فورها وتبدأ بجمع الاطباق من فوق طاولة الطعام متجاهله غيرها ممن يأكل .. يتذكر زيارة من صديقة امه والصدمة على وجهها حين بدأت جدته بسحب اطباق الطعام الواحد تلو الآخر بينما لازالت تأكل , اعقبها رحيل امه لأهلها واصرارها على الطلاق الذي نالته بعد اشهر , اما هو فقد احب البقاء مع أمه إلا انه اثر الحياة مع جدته وأبيه رفقا بأمه وعائلتها المعدمة ......

مالت الشمس لتختفي خلف قمم الجبال .. أسند رأسه الى النافذه وغفى .. تلاشت الاصوات من حوله .. حالمًا رأى نفسه طفلا يعبر الطريق والشمس تحجب عنه الرؤيا .. كانت تسبقه بمعطفها الاخضر .. بصعوبة أبصرها من بين وهج الشمس وتسارع السيارات التي فصلت بينهما وما ان عبر الطريق حتى تلاشت , لسبب ما كان يعي بنفسه الحالمه .. تمنى لو طال به الحلم .. على مرمى البصر كانت مدرسته الابتدائية القديمة .. اسرع الخطى وتسارعت نبضات قلبه .. عبَر البوابة وأظلمت السماء .... , في كل صباح اعتاد على رؤيتها تتقدمه في طريقها الى المدرسة .. لم يعرف لها اسمًا ولم يرها منذ ذلك العام , كان عامًا عسيرًا على والده تلفت محاصيله وتراكمت ديونه فباع مزرعته ووعدهم ببداية جديدة في مدينة اخرى اذا حل الصيف , وريثما تنقضي الاشهر انتقلوا لبيت بائس في حي متواضع , كره مدرسته ذات المباني المتداعية .. كره طاولته الصدئة .. كره معلميه وتعاملهم الفظ .. كره رفاقه ولعبهم الخشن .. كره الشجارات الدائمه بين والديه , لم يبهجه غير رؤيتها صباحًا تخرج من البيت المقابل وحيدة الى مدرستها حاملة حقيبتها الكبيرة تمشي على عجل رغم وعورة الارض والغبار والاتربة وازدحام السيارات , ومن على بعد يتبعها .. يراها تجتاز الطريق غير مكترثة لتدافع العربات .. تعبر فتتلاشى , في مشيتها كانت تلهمه ان لو تقدم فكل ما يبغضه سيتبدد من خلفه ,...... لم ينس ذلك اليوم حين شعر بمن يلحقه , كانت طفله ربما من الصف الاول او الثاني .. تجر حقيبتها الضخمة من خلفها وتتبعه بمشقة , انتقل إلى الجانب الاخر للطريق فلحقت به , كانت اصغر من ان يتركها أهلها تذهب وحدها , لأيام كانت تتبعه على طول الطريق الى المدرسة فيتجاهلها ظنًا انها محض صدفة , وذات صباح هم بأن يتوقف ويتركها تسبقه وما ان توقف حتى توقفت , ارتبك وتظاهر بعقد رباط حذاءه ففعلت المثل , نظر لها فصدمته نظرتها المتوسلة كأنها ترجوه ان يتابع سيره , انطبعت نظرتها الخائفة في اعماقه .. حملت عيناها بؤسًا اثار شفقته .. للحظات وقف حائرًا قبل ان يكمل طريقه , .....
انقضت اشهر ثم اختفت وفيما بعد روت له امه قصة عن جارتهم التي انتقلت بشكل مفاجئ , قالت ان المرأة اللطيفة كانت تخفي وجهًا حقودًا .. ادعت ان ابنة زوجها مجرد يتيمة تبناها زوجها طيب القلب , أمامه كانت تدللها وتبدي عطفها ومن خلف ظهره تعذبها بكل طريقة ممكنة , احد الاطفال ممن يلعبون مع ابنها قال كانت تقيدها .. تحرقها بالشمع .. تلسعها بالملعقة بعد تسخينها .. تتظاهر باصطحابها الى المدرسة ثم تتركها على الطريق وتأمرها بأن تتبع احد الاطفال حتى تصل وتهددها لو علم ابيها الذي سيقلها عند الظهيرة فالشمعة بانتظارها ..... , في تلك الليلة بكى كثيرًا .. احس بالندم اذ لم يتوقف لحظة ليسألها .. تمنى لو اخذ بيدها وحمل حقيبتها .. لام نفسه على تجاهلها .. ولسنوات عذبته نظرتها الخائفة المتوسلة .....

من بين ذكرياته غاص في حلمه .. على ارضية الملعب الترابية وقف يتأمل المدرسة كما عهدها كئيبة ثم زادها الليل كآبة على كآبتها .. وعبر ضوء القمر أبصر الطفلة التي اعتادت ان تتبعه تقف على سطح احدى البنايات تنظر له نظرتها الحزينة , وعلى مرمى بصره كانت الفتاة ذات المعطف الاخضر تمشي بثبات متجهة الى المنطقة المهجورة من المدرسة , وقع في نفسه قصدها بالتوجه الى الكوخ المنهار حيث اعتاد الاطفال وصفه ببوابة البرزخ .. بالقرب منه كانوا يروون الحكايات الزائفة عن اصوات الموتى التي تدوي بالقرب منه ليلا , هم باللحاق بها فعجز عن الحركة .. شعر بقدمه وقد تجمدت , يكره حين يحلم ثم يأبى عليه جسده ان يطيعه , حدق في السماء بينما المباني شبه المتداعية لمدرسته تغمره بوحشتها .. في هذه المدينة القديمة المكسوة بالفقر استقرت القبيلة الاولى بعد الانكسار الكبير للمركز , كانت شبه منفى اختاره افراد القيبلة بعد عزلهم عن الحكم , في تلك الحرب الطاحنة لن يعرف احد اكانوا هم الامل الاخير لهيمنة المركز أو مجرد حمقى غامروا بسلامه فانتهى ممزقًا بين الشرق والغرب , ولعقود شاع بين الناس ان لولا التحالف بين القبيلتين الثانية والثالثة وعزلهم للاولى لضاعت البقية الباقية من المركز , في داخله يقين ان ما تبقى من المركز قد بدأ انهياره في اللحظة التي ازيحت فيها القبيلة الاولى عن القيادة , اعاد النظر الى الطفلة .. رجته بنظرتها الخائفة ان يبقى بالقرب منها , كانت الفتاة ذات المعطف قد اقتربت من الكوخ المظلم .. في سيرها بدت وكأنها القبيلة الاولى وقد نهضت من الرماد .. بخياله رآها ترشده الى القائد .. تلك الهمسات التي طالما شعر بها بين جنبات الكلية , الايمان الخفي الذي خلفه في قلب كل من التقاه , اليقين بهيمنة المركز الآتية على خطاه ... أحس بقدماه تتحرر بينما ينسحب من حلمه , كان يتبعها نحو الكوخ والعالم من حوله يتلاشى .......

خفض السائق من سرعته .. فتح عينيه على طرقات المدينة التي لن يراها مجددًا , عازمًا على ترك التدريس والالتحاق باللواء السادس ... , وعلى الرغم من الكآبة التي غمرته بمغامرته اليائسة التي حزم عليها امره شعر للمرة الاولى بفراغ قلبه وقد تبدد ....
 

Sam.

fire walk with me

أن تداوي بالجنون من الجنون

ج٦ : باهته





sd6SCU3.jpg





دارت السيارة حول الجبل في طريق منحن بللته الامطار .. عصفت الرياح وتناثرت قطرات المطر على وجهها .. اغلقت النافذة الجانبية ونظرت عن يمينها للمرآة تتأمل شمس العصر وقد انعكست أشعتها على الاسفلت من خلفها , ومع الغروب تتخيل امها توبخها لدى عودتها إلا ان استمتاعها أنساها اي عقاب ..

كانت عادتها كل ثلاثاء وبنهاية دوامها المدرسي التسلل لسيارة ناصر لتصحبه في رحلته الى الجبال , ورغم الجيرة وشراكة العمل التي جمعت بين ابويهما كانت امها تكره تعلقها به اذ امتاز بغرابة اطوار جعلته عرضه للاقاويل والشائعات بين اهل القرية , فلازمته صورة الشاب الذي افسدته ثروة ابيه ايًا كان حاله , فمع تفوقه في الثانوية قيل اسعفه النفوذ ومع فشله في الجامعة قيل ضيعه العبث , اما أمها فكان ما تسمعه من جاراتها عن انعزال ابنها وغرابة اطواره وقلة كلامه وتغيبه عن الجامعة وهوسه بالتدخين ما يدفعها لمنع ابنتها من التقرب منه فلازالت تقول حنين هو يكبرك بعشر سنوات امضي وقتك مع من هم بمثل عمرك ...... فتفكر بمن هم بعمرها وسخريتهم من لهجتها ثم وصفها بالغريبة مما دفعها لشيء من العزلة ردتها ببعض الكراهية للتباين بين اسرتها فلهجتها الهجينة كانت أثرًا لسخرية أمها من لهجة أبيها ثم أبوها وسخريته من جدتها التي لا تحتمل لهجة أمها فانتهت هي بلسان وان أرضى من بالبيت جعلها غريبة أينما حلت يصفها اهلها من أمها بابنة أبيها وأهالها من أبيها بابنة أمها فانطوت على نفسها تنصت لهمسات من يسمها بالباهته .....


j7mhKXn.jpg




وكانت قد ألفت عصر كل يوم مذ كانت في السابعة حمل حقيبتها والخروج من البيت مدعية الدراسة لدى صديقتها .. تبحث عن ناصر في ساحة القرية حيث اعتاد الجلوس وحيدًا بنظارته السوداء .. تجلس بالقرب منه تتابعه بعينيها يدخن بينما تفرغ حقيبتها وتدرس ..

تسترجع كلمات والدته وهي تشكو لأمها : يبقى وحيدا ولا يسمح لاحد بالاقتراب منه ... , تشعر بالفخر فلا يردها ان اقتربت منه , تتذكر كلمات أمه : نظرته الباردة .. لم يعد يحبني ... , فتسأله بفضول بحثا عن اجابة لتساؤل يراودها عن أمها : اتحب أمك ؟ .... يصمت ساعة ثم يردد : الحب ..... حب الأباء والأبناء ليس هو الحب الذي يميز البشر .... , تكره صمته الطويل وكلماته التي لا تعي مغزاها .. تنتظر قليلا ثم تسأل : حب العاشقين هو الذي يميز البشر ؟ , يقاطعها : التملك .. لا .. لا أ راه حبًا ... لن نعرف الحب ما لم نفهم المعنى من الانسانية ....
كانت في الثالثة عشر وكان في الثالثة والعشرين فكانت تواسي نفسها عندما تبلغ عمره ستفهمه , ولانه يدرس الطب قررت ان تكون طبيبة وحين قرأت عن التشابه بين الطب والطبخ اهتمت بالطبخ حتى لم تعد تأكل إلا ما تطبخه لنفسها ....



eVi9jVr.jpg



في تلك الاثناء كان المركز غارقا في حرب طاحنة وكانت دول الشرق قد نقضت عهدها وانضمت لتحالف الغرب في حربه مع المركز , وكانت هي اصغر من ان تهتم .. تتذكر بعض الشعارات عن هيمنة المركز والحرب التي ستوحد العالم , ثم لم تلبث ان تلاشت الحماسة وحل محلها القلق من انهيار المركز وناصر في عالمه الخاص يحدثها عن معاناة الفقراء والكارثة التي جلبتها الحرب .. يلوم القبائل على تخذيلها الناس عن القبيلة الاولى سرًا .. يلوم القبيلة الاولى على تهورها والسير بالمركز الى حرب طاحنة بلا حلفاء , يكثر الحديث عن ضحايا الحرب والغلاء وشح السلع ..

جعلتها كلماته تتذكر صديقة لها من المدرسة تتناول خبزا بلا جبن وحين سألتها عن السبب قالت ارتفع ثمن الجبن فعلقت ببراءة لم يرتفع لدينا ثمنه ومن يومها احست بأن شيئا ما يتغير الا ان حياتها استمرت بلا تبديل , تنتظر الثلاثاء بفارغ الصبر لتصعد الجبل , وعلى قمته تنزع حذائها لتلامس الارض بقدميها فتشعر بأنها حرة .. تضربها الرياح وتتحرك السحب مسرعة ليتبدى القمر من خلف شمس العصر الباهتة .. تمسك بكوب القهوة بحثًا عن بعض الدفئ فتختلط رائحتها برائحة تبغ ناصر .. تسأله ان وجد معنى للانسانية .. تشتد الرياح ويحدثها عن الأثرة وكيف امتلكت كل حياة قال : وحده الإنسان من يقاومها .. قد أرى الإنسانية خلف هذا المعنى ....

فكرت بنفسها وكيف ستبدو له لو علم كم تكره أهلها .. تنفر من هيمنة أبوها وتسلط أمها .. يقيدها أن سنوا لها ما تحب وما تكره ما تأتي وما تتجنب , وكيف تشعر بنفسها وقد حُرمت متعة الإختيار وإختبار الحياة , ثم تستمع لحديث أم ناصر مع أمها تشكو لها عصيان إبنها وتفرده برأيه وأخيرًا قلقها من إنذار الجامعة بفصله إن إستمر على غيابه فكان تمرده يحرك قلبها فترى نفسها في تفرده .. تتمنى لو كان لها قلب كقلبه إلا أنها مذ عرفته وعلى قدر إستطاعتها جاهدت لئلا ترى الحياة بعين غيرها .. ناءت بنفسها عن التقليد وترديد ما ردده الناس , فإن إستحسنت رأيًا لم تُحدِث به حتى تختبر ما اختبره صاحب الرأي فإما وافقته عن تجربه أو كان لها رأيها , وإن أحست ضعفًا أو عزلة تراءت لها صورته يدخن وشمس العصر قد مالت من خلفه وستبقى تلك الصورة تستمد منها شجاعتها كلما ضاقت بها الدنيا تسترجعها فكأنما تمنحها الحياة , وبعد عقود ستكتب من بين دموعها ترثيه : كان حرًا كريمًا لا يبالي العواقب ......

سألته وقد غربت الشمس : إن كنت تكره القبيلة الأولى بسبب الحرب فهل تكرهني ؟ .... على غير العادة أجابها بلا تفكير : لست أكرهها .. أٌشفِقٌ عليها , نظرت له متعجبة فقال : أيًا كانت نتيجة الحرب فسيفنى أنصارها ويطاولها كل طامع وحاسد ...... , ولم تدرك وقتها أن كلماته القليلة ستشكل لاحقًا رؤيتها لكل حرب والمعضلة التي جعلت تؤرقها ما بقيت ..


bkfLV4J.jpg


في ذلك الثلاثاء وبحلول العشاء عادت إلى البيت , طرقت الباب وقد هيأت نفسها لصراخ أمها وسيل من التوبيخ .. فُتح الباب ولم تكد تلمح أمها حتى إلتفتت عنها بوجهها الواجم , أغلقت الباب من خلفها وعبرت بقلق .. تسارعت نبضات قلبها وشعرت بكآبه تغزو أعماقها وتتسلل الى عالمها .. أحست بنفسها ترتجف وكأن اللحظة التي طالعت فيها وجه أمها قد بثتها كل ما إعتمر في قلبها من هم .. مرت بالصالة فرأت والدها وقد شحب وجهه رعبًا وتناثرت من حوله الأوراق .. يطالع بعضها مرتبكًا .. ترتجف يداه ويمزق بعضها الآخر .. صعدت لغرفتها وهي للخوف أقرب منها إلى الفضول .. تناهى إلى مسامعها همس والدتها : ماذا سيحل بنا ؟ ماذا سنفعل ؟ .. أغلقت باب غرفتها وصوت والدها يصرخ بخوف : لا أعرف .. لا تسأليني .. لن يرحمونا ........

كرهت سماع المزيد فدخلت الحمام وفتحت المياه .. جلست في حوض الإستحمام ولم تكن قد نزعت ملابسها .. تركت المياه تنساب على وجهها وصدى كلمات ناصر ترن برأسها منذرة بويلات الحرب ..

إمتلئ الحوض لمنتصفه فغمرت رأسها في الماء .. رددت الجدران صدى صوت ملقية الأخبار القادم من الأسفل : وكانت اولى نتائج الفاجعة العثور على جثة رئيس الاركان داخل استراحته منتحرًا وقد ذكر البيان الصادر عن هيئة الاركان ان الفريق أول قد ترك رسالة يصف فيها الحرب بالقرار الذي دمر المركز فيما توالت التقارير عن حالات تمرد على الجبهات ادت الى مصرع العديد من القيادات أبرزهم اللواء ركن قائد المنطقة الشمالية ......

كانت أصغر من أن تعي ما يحدث إلا أن ملامح الرعب على وجه والدها قد مزقت قلبها , لم تتخيل يومًا أن تهتم بهمٍ ألَمْ به أو بأمها ...... , عاودها صوت حزين ينعي لأهل المركز النائب الأول لرئيس المجلس الأعلى إثر حادث مروري , قال بعد صمتٍ إمتد لدقيقة : ليس مجرد حادث .. نعم ومن قبله مقتل العميد ركن قائد اللواء السادس بنيرانٍ صديقه بعد أن بشر الأمة بقرب فك الحصار عن كتائب الجبهة الشمالية ... إنفعل صوته وهو يردد : هم أعداؤنا من بيننا ........ إنقطع البث ......

في الصباح إستيقظ الناس على خبر اهتز له العالم إذ أعلن رئيس المجلس الأعلى وسيد القبيلة الأولى تنحيه عن رئاسة المجلس في بيان مقتضب محملاً نفسه كامل المسئولية عن خسارة الحرب وتبعاتها ......

وعلى إثر بيانه بسطت القبيلة الثانية هيمنتها على المجلس , فعزلت كل من إنتمى للقبيلة الأولى عن كل وظيفة أو منصب قيادي , وأطلقت أتباعها في الطرقات مطالبة بمحاكمة رئيس المجلس , ثم أعلنت إستسلام المركز وتلت ذلك بأن منحت القبيلة الثالثة حق التصرف بالجيش وما لبثت الأخيرة أن حلته تمهيدًا لإعادة بناءه ....
وبعد اشهر بدأت القبيلة الثانية مفاوضات الإستسلام التي إنتهت بمعاهدة تضمنت تنازل المركز عن أغلب أراضيه شرقًا وغربًا ليتحول إلى كيان معزول إلا من جيب صغير أقصى الشمال الغربي كان منفذهم الأخير إلى العالم , أشاعت بعدها قيادات المركز الجديدة أن لولا حنكة القبيلة الثانية لسقط ما تبقى من المركز ...

وبتوقيع المعاهدة أعلنت بعض قيادات الجيش المنحل رفضها لمعاهدة الإستسلام وأسست فرقة كان قوامها من أفراد القبيلة الأولى وقلة من أنصارها أطلقت على نفسها جيش الأصل تمكنت بعدها من السيطرة على الجيب وشن هجمات يائسة على قوات التحالف المتمركزة في القرى الشمالية للجيب إلا أن الجيش الجديد سرعان ما أحكم حصاره عليهم مما أجبرهم على الإنسحاب جنوبًا فكانت تلك الحادثة هي الذريعة التي إستغلتها القبيلة الثانية لوصم كامل القبيلة الأولى بالخونة , فأطلقت يدها قهرًا وتنكيلاً بهم فاستولت على أموالهم واملاكهم وضيقت عليهم حتى اضطرتهم لعزل أنفسهم في القرى النائية وأطراف المدن , وبعد أن ضمن المجلس الأعلى الجديد سيطرته على مدن المركز الرئيسية وتطهير العاصمة ممن أسماهم خونة القبيلة الأولى تفرغ للجنوب فبدأ زحفًا بطيئًا على قرى الجنوب حيث التجمع الأكبر لبقايا القبيلة الأولى وجيش الأصل يقتطعها قرية بعد أخرى ......


تتذكر حنين تلك الفترة كأشد ما مر بها من خطوب وأعظم ما لقيت من الكروب , فإن ألمت بها الملمات وضاقت بها الأسباب استعادت ذكرى ذلك العام فهانت عليها المصائب وسهلت عليها المحن , ففي تلك السنة إنحاز جيش الأصل إلى الجنوب واستقل به عن المركز فما كان من المجلس إلا أن ضرب عليهم الحصار وأعلن الحرب التى إستفتحها بإعدام سيد القبيلة الأولى ..

ولم تمض أسابيع حتى تفاقمت معاناة الناس وهي التي لم تتعافى بعدٌ من حرب التحالف , فلم تكن أرض الجنوب على قفرها وشح مواردها المائية لتحتمل حصارًا قل أو كثر .... رأت حنين كيف إنعدمت السلع وتصارع الناس على المياه , أنفق والدها كل ما ادخره من ذهب لتأمين حاجتهم من الطعام ثم كان يمضي نهاره واقفًا منتظرًا دوره في ورود الماء , تستمع لأمها تبكي وهي تغلي الماء قبل أن يشربوا وبعناء تدخر بعضه للاستحمام , أشفقت على والدها الذي نحل جسده وأمها التي ترتجف رعبًا كلما تعالى صوت القصف , كانت عاجزه تحاول مساعدة أبوها بجلب الماء فيزجرها , تعين أمها على الخبز فتحبسها في القبو حرصًا عليها من الشظايا المتناثرة عبر النوافذ إثر كل قصف قريب , فكانت تمضي يومها في القبو تفكر بناصر ما يصنع وكيف يرى ما يحدث ... وفي كل يوم يصلها خبر زميلة لها من المدرسة قُصف بيتها ودفنت مع أهلها تحت أنقاضه فإن إستمعت لدوي إنفجار صعدت مسرعة إلى أمها خوفًا عليها فما إن تراها صاعدة حتى تصرخ بها : حنين إنزلي .... , بعد اشهر بدأت تتساقط القرى من حولهم .. عبر همسات والدها تستمع لمآسي كل قرية دخلها الجيش الجديد وكيف إستباحها وأذل أهلها ممن إنتموا للقبيلة الأولى وممن ناصرهم ....

وذات صباح وبينما أمها نائمة تسللت خارج البيت وإنطلقت لبيت ناصر وحين وصلت هالها ما رأت .. كان بيتهم قد إمتلئت حديقته بالخيام و تزاحمت بالأطباء والمصابين .. رأت من بينهم ناصر نفسه وقد ركع بجوار مريض يفحص إصابته , بعد قليل رأتها أمه فرحبت بها .. دعتها لداخل البيت وقدمت لها القهوة وسألتها عن حال أمها .. عبرت الباب إمرأة تستجدي طعامًا فانشغلت بها ... عادت حنين إلى الحديقة ولساعة وقفت مبهوته تتأمل الناس وهم يتأزرون .. يمدون يد المساعدة لبعضهم البعض .. قارنت ما رأت ببيتهم الكئيب وهم في عزلتهم لا يشغلهم غير أنفسهم , .... لمحت ناصر يخرج من الخيمة .. جلس منهكًا .. إقتربت منه وقدمت له قهوتها فتناولها شاردًا ..... , سألته : أنت مع جيش الأصل ضد المركز ؟ .... أجاب : لا أمل لنا في ردع القبيلة الثانية إلا بنصرة الأولى .... صمت قليلا ثم أكمل : إن إستقر الأمر لهم سيفنى المركز ...

وعند الظهيرة عادت لبيتها .. دخلت بهدوء شاعرة بالسعادة تود لو تصرخ : ماما لاداعي للخوف الناس ستحمينا ... إلا أن نقاشا كان يدور بين أمها وأبيها وحين أنصتت صدمها ما سمعت .. كان الألم يعتصر قلبها وهي تنزل للقبو .. أدركت الآن أن تلك الليلة التي رأت والدها يمزق أوراقه كان يومها وقد استشعر سقوط قبيلته عمد إلى بعض معارفه من القبيلة الثالثة فحالفهم وتلقى منهم الوعد بالحماية إن أعانهم على قبيلته قدر استطاعته فتلمس لهم الأخبار من ذوي قرابته ثم كانت رسائله لهم هي ما ضمنت له حفظ بيته من القصف ...

جلست ترتجف .. تفكر بأبيها إن كان هو من يرشد الطائرات التي تقصف البيوت وتجمعات جيش الأصل وماذا لو علم عن بيت ناصر هل سيشي بهم ؟ .. سيضحي بصديقه لأجل زوجته وإبنته ؟ ليحميها سيتسبب بقتل ناصر .. أكان سببًا في قتل زميلتها ودفنها حية ؟ تساقطت دموعها بلا توقف .. تسترجع صورته المنهكة .. بذله لكل ما يملك ليحميها وأمها فترق له .. ترى ناصر وأهله وما يبذلونه في دعمهم للناس ونصرتهم للمركز متناسين سلامتهم فتشمئز من نفسها وأبيها ...

في الأشهر التالية عزلت نفسها في القبو تتظاهر بالنوم طيلة اليوم وتتجنب النظر لوجه أبيها .. لم تعد قلقة للماء أو الطعام أو القصف أيقنت بالنجاة أيا كانت نتيجة الحرب .. تسمع عن سقوط القرى القريبة منهم فلا تبالي ... وحين يشتد القصف تفزع للصلاة وتدعو بنجاة ناصر , وبنهاية العام سقطت القرية وكانت آخر القرى وشهدت كيف حماهم الجيش الجديد مع من حماهم وكيف نكل بمن نكل واستباح ما إسبتاح .. رأت أثار من أٌعدموا في الطرقات وبقايا الدور المهدمة والأمول المنهوبة .. استمعت لصرخات النساء والأطفال على من فقدوهم أمام أعينهم .. بينما هي مع عائلتها سالمة مسلمة تستعد الإنتقال إلى العاصمة على أشلاء قومها ومعشرها ممن قدمهم أبوها قرابين سلامتها في أحط طقس وأسفله , همت في يومها الأخير أن تبحث عن ناصر ثم فكرت بأي وجه تلقاه أَتتصنع البراءة أم الحزن أو الندم .. تفرح بنجاتها أم تبكي سقوط أهلها , من بعيد لمحت بيته المهدم .. تساقطت دموعها فلم تعرف أدُفن مع من دُفنوا أم أعدم مع من أٌعدموا أو إنحاز مع من إنحازوا لقرى الجبل .. وكان ما رأته من المآسي قد منعها لوم أبيها وإن أدخرت له في قلبها كراهية لن تُمحى , وبسقوط الجنوب أعلن المجلس الأعلى نهاية الحرب , ثم إنقضت السنون وسكنت الحوادث وكف المجلس يده عن القبيلة الأولى ولم يبق من يناد بأراض المركز المنهوبة فضلا عن هيمنته ..



KSQz5iS.jpg




في الأعوام التالية علمت نفسها كيف تداري كراهيتها ولا تنساها , دفنت أحقادها في قلبها وانعزلت بنفسها عن العالم تنتظر يوم حريتها , في البيت تعامل أبويها بجفاء .. تمتنع عن مشاركتهم الأكل .. لا تسأل عن حالهم ولا تكلمهم الا إن ألحت حاجة .. تنسحب في كل مناسبة وتجمع للأهل , تواجهها أمها بجفاءها فتبتسم ببراءة أنها لم تعد طفلة , وفي المدرسة تنظر لزميلاتها بتعالٍ وإصرار جعلها تتفوق عليهن بفارق منعهن عن منافستها ولم تكن هي لتتحمل أن تنافسها إحداهن وفي داخلها تصرخ لم يعانين كما عانيت ولم يحزن كما حزنت ولم يتألمن كما تألمت ولم يفقدن ما فقدت ولم يجربن الحرب كما جربتها ولم يشعرن بعجزٍ كعجزي ولا رعبٍ كرعبي ولا يأسٍ كيأسي ولم يتملكهن العار كما يتملكني كلما أبصرت أبي ............

وبعد سنوات تخرجت من الثانوية وقررت الالتحاق بكلية الطب , وفي ذات الصيف بدأت عادة التدخين .. كانت تنتظر منتصف الليل ثم تجلس بزاوية الفناء تحاكي جلسة ناصر .. تبكي أحيانًا وهي تتخيل موته , ثم تخجل من نفسها وهي تتوهم نجاته , تتمنى لو لم ترجع لبيتها ذلك اليوم .. لو شاركته موته أو رافقته إلى حيث ينتهي العالم , تتذكر كلماته عن الإنسانية التي حلم برؤيتها في أسمى صورها .. تتفكر بأبيها و تسترجع كلمات ناصر عن حب الأباء والأبناء .. إلى أي درجة كان مُلهمًا .. تستشعر كم كانت كلماته البسيطة تفضح زيف إنسانيتنا .. يتسارع نبضها وترجو الله لو نجى ثم لو مكنها أن تشهد معه العالم كما حلم به ........

إنقضى الصيف وإنتقلت للجامعة فكانت على بعد خطوة من نيل حريتها إذ عزمت الإستقلال عن أهلها يوم تخرجها , خططت للعودة إلى الجنوب والعمل بإحدى المستشفيات ثم ستنتظر موتها الذي ستدعو الله أن يقربه إليها , وقبيل تخرجها عرض عليها أبوها الزواج فرفضت بشدة .. وصف لها ثراء عائلة من اختاره لها ونفوذها فصرخت في وجهه أنها لا تريده وركضت لغرفتها , في اليوم التالي حاولت أمها بلا جدوى .. إحتد النقاش فصارحتها الأم بما تعنيه زيجتها , قالت : سينتفعون بمصانع والدك وفي المقابل سيحمونه ممن يكيدون له لدى الحكومة الفاسدة التي بدأت تحقيقًا وأخذت بمساءلته عن ثروته .... , صرخت حنين : لا أهتم .. لا أبالي به ولا بماله القذر .... , صُعقَت الأم .. فاضت عينيها بالدموع ثم قالت بصوت مرتجف : هذا الذي لا يعنيك أمره ولا تبالي هو الذي تخلى عن أقرب الناس إليه ليحميك .. كان أهون عليه إنفاق الذهب ولا أن يراك تعانين ألم الجوع ثم لم يلق منك إلا الجفاء والعقوق .. لمرة واحدة .. لمرة واحدة فقط بما إمتزت عنا لنلق منك هذا التعالي ....

خرجت أمها وكأنما كبلت عنقها .. أُسقط في يدها .. عجزت عن التنفس .. سألت نفسها في ذلك الحصار لماذا لم تترك البيت وقد علمت بخيانة والدها ؟ .. لماذا لم تهرب لبيت ناصر ؟ .. لما لم تترك بيتها الآمن ؟ .. ألم تشعر بالراحة وقد إنراح عنها هم الماء والطعام .. فيم تختلف عن أبيها .. نامت آمنة مطمئنة ليلاً ثم لعنته صباحًا .. كان أثمًا لأجلها إذ آثرها على قومه ورضيت هي بالإثم أثرة لنفسها .. كم احتقرت أفعالها وقد إنزاحت عنها الغشاوة , لأي درجة آثرت نفسها لتأنس بالخيانة ثم تحتقرها .. أدت دورها في رقصة الخيانة ثم لامت من هيأ لها المسرح , عنفت نفسها : الأثرة .. الأثرة .. الأثرة التي يراها ناصر وقد سلبتنا ما يميزنا كبشر .. نعم كنت أنا .. من البداية كانت أنا من كرِهَت كل من نازعني نفسي .. لم أُطق يومًا قولهم إفعلي ولا تفعلي , آثرت كل ما يرضيني ولم أبالي .. نظرتُ بتعالي لمن لو لاقين ما لاقيت لما غوين كما غويت .. كيف لمت عامة من صمت عن أفعال المجلس ثم لم ألم نفسي لصمتي على أبي .. فلو أنصفت يومها لرحلت عنهم ثم لم آلي .....

وفي تلك الليلة تقرر زواجها عن رضى منها , وبعد تخرجها تمت خطبتها واشترطت بعد الزواج أن يُسمَح لها بالإقامة بالمشفى والتدريب إلى نهاية العام فلم يمانع زوجها رغم معارضة أمه , فأكملت تدريبها المتقدم فى الجراحة ..... , وحينها ملكت من الوقت والعزلة ما أتاح لها تأمل ما آل إليه أمرها فأضحت وقد تخلت عن سذاجة أحكامها بتصنيف من حولها وتلاشت نظرتها المتعالية .. باتت تعي كيف أن أسوأ الأفعال والتي ننأى بأنفسنا عن إنحطاط فاعليها قد نرتكبها ببساطة ثم لا نكترث .. علمتها التجارب كيف تلتمس الانسان في قلبه قبل أفعاله ...


rBHAyYh.jpg


ثم مضى العام وأنهت فترتها التدريبية لتنتقل على اثرها لبيتها الجديد بعد سنةٍ نفذت فيها كل حيلها لتجنب العيش مع زوجها الذي لم يدخر جهدًا ليرضيها .. في يومها الأول أوصلها وحمل حقيبتها للأعلى , وما إن خطت داخل البيت حتى فقدت بأسها وأحست بنفسها ترتجف .. يبتسم لها ويودعها مغادرًا إلى عمله هامسًا : حبيبتي لن أتأخر .. , تقّلب حقيبتها وتتظاهر بأنها لم تسمعه .. تتمنى لو تأخر , غادرها وجلست هي مصدومة تردد : ماذا فعلت بنفسي .. ماذا فعلت .....

لم تحبه ولم تطق حبه .. وفي ليلة بائسة قبلت الزواج ردا لدين أبيها فما كان منها إلا أن كسرت قيدًا بقيد ثم واست نفسها : لابأس .. لن يتحملني .. سيطلقني وسأتحرر .... , إلا أن زوجها تحملها وتحملها فلم يعارض رغبتها حين اصرت على الالتحاق بالمشفى عام التدريب , فقاسى برودها وعانى جفاءها بصبر كانت هي تتعجب منه وكانت أمه تتميز من الغيظ فأضمرت لها كراهية كانت تتبدى على استحياء منها حتى واتتها الفرصة يوم أن إحترقت مصانع والدها في سلسلة من الحوادث المريبة إذ كان المجلس وإن كف عن بطشه بالقبيلة الأولى تَبِعَ سياسة تقضي بتحجيم كل من برز منهم أو ذاع صيته أو أبدى تفوقًا ممن قد يجمع الناس من حوله فتارة بالأذى وتارة بالقتل ....

وإستبشرت حنين بالطلاق وفي لحظة درامية صارحت زوجها قائلة : لنفترق .. طلقني .. فلا منفعة ترجى مني بعد اليوم .. ستجد لك الوالدة من .... , قطع كلامها وإستمر يحدثها عن مدى حبه لها وتمسكه بها ... كادت تبكي من الصدمة .. قالت ترجوه : طلقني .. لأجل عائلتك ... , قال بفخر : لست الرجل الذي يتخلى عن حبه لأجل ........ , لم تقو على سماع المزيد .. قالت : أُحس بالدوار أحتاج لبعض الراحة .. صعدت غرفتها وأحكمت إغلاق الباب وجلست تبكي .. خائفة لو علقت معه للأبد .. تخشى لو أنجبت .. يفزعها أن تبقى للأبد أسيرة لهذا البيت .. تُصبح على وجه أمه العابس وتُمسي على كلماته المبتذلة .....

ولم تكد الأم تيأس من إقناع ولدها بالطلاق حتى تخلت عن وقارها وأطلقت غضبها وكشفت عن ساقها وأبدت من الشر الصُّراح إذ ظنت أن حنين هي من تتمسك بإبنها فاتخذت كل وسيلة لإهانتها والنيل من أبيها تصفه بالمحتال والمتسول فكانت حنين تتجاهلها حينًا وحينًا ترد لها إهانتها , فإذا إختارت الصمت كظمت غيظها حتى إذا عاد زوجها صبت عليه غضبها وصرخت تطلب الطلاق فيفزع إلى أمه يرجوها ألا تهدم بيته فتبدي أسفها على حاله وأنها لأجله ستصبر على تلك العاقة .....

وكانت حنين تبدأ يومها قبل الجميع .. تعد إفطار زوجها وتجهز له ملابسه وتترك له ملاحظتها حيث إعتادت تركها ثم تغادر لعملها قبل استيقاظه .. وعند العصر تغادر المشفى إلى البيت وتحاول قدر إستطاعتها تجنب الأم .. تبدأ بتحضير الغداء في الأعلى تاركة الأم و خادمتها يطبخان في الأسفل .. ثم إذا إنتهت حبست نفسها في الحمام ساعة تدخن سرًا بينما تقرأ أو تبكي حالها .. في المساء يرجع زوجها فإن لم يأكل مع أمه حضّرت له العَشاء ثم تظاهرت بالتعب ونامت ....

وبعد أشهر صدمها حملها .. كان اليوم الأسعد لزوجها ويومها الأسود , قَدِمَ والداها للزيارة والفرحة تغمرهما .. لن تفهم أبدًا كيف لا يشعران ببؤسها وكآبتها .. بدت أيامها مع الحمل كخطوات نحو مقصلتها .. وفي شهرها السابع أصيبت بمتلازمة هيلب ونقلت للمستشفى حيث مرت بولادة مبكرة عسيرة .. أنجبت طفلة وُضعت في الحاضنة واحتُجِزَت هي حتى تستقر حالتها ...

في صباح يومها الأخير بالمستشفى فتحت عينيها على صوت مقدمة الأخبار تتلو تقريرًا عن قرى الجبل : .... فيما بدا هذا التجمع كمجتمع صغير يتزعمه ناصر ال ..... لم يكمل دراسته في كلية طب ال ..... وقد صرح المستسار سعد ال ....... بان ما حدث لا يمثل اي تهديد للمركز ....... ولانعزال تلك القرى وانعدام مواردها ف.......... كما شدد على ان ............... "

..... أخفت نفسها أسفل الغطاء ... ومن بين دموعها تردد : لست أحلم .. ليس حلمًا .......



x0wGLYE.jpg



بأي قلب عزمت على ما عزمت وأي حب تصدع له كبدها وأي شوق تأجج بصدرها وأي ذكرى تلفتت لها فأوجعها الإصغاء ......




وحين اختفت حنين وإستيأسوا عودتها قالت أمها باكية : مسعود هل كانت لنا إبنة .. كيف أنسى وجهها .. كيف لا أسترجع صوتها .. أين هي في ذاكرتي ....., بُهت الأب فمنذ ذلك الحصار لا يذكرها أبدًا تناديه بابا , لم تنظر لعينه أو تسأله حاجه .. دائمًا هي نائمة أو منشغلة .. لم يعد يدري حتى ما كان لون عينيها ....

إنهار زوجها وأمه تشتمها وتلعنها .. قالت : تلك الباهته لم أعرف لها طعماً ولا لونًا .. لا لا لم تكن تشبهنا تلك الشيطانة لم يرتح لها قط قلبي ....

وبعد أشهر من إختفائها عثر زوجها في أحد أدراجها على حافظة تبغ .. لم يصدمه أن كانت تدخن قدر ما صدمه كيف أخفت عنه عادة سهلة الملاحظة فماذا عما صَعُبَت ملاحظتة .. كيف لم تفتح له قلبها لست سنوات .. لم تقل أبدًا أنها أحبته ولا أبدت اشتياقا قط وإن طالت غيبته .. لم يعرف لمره ماتحب أو تكره ما يرضيها أو يسخطها .. إعتصر الألم قلبه وقد إنتبه أن حاجتها الوحيدة عنده وما لم تطالبه بغيرها كان قولها : طلقني ...
ومن خارج الغرفة كانت إبنته تبكي وتصرخ : أين ماما بينما تعنفها جدتها .....













SeqTl3Z.jpg
 
  • Like
Reactions: Tia

Sam.

fire walk with me
- فاصل ١ -




بحاول أختصر سواء عن اللي كتبته أو عن الكتابة نفسها والسبب اللي تظهر فيه القصص مكتوبة بغباء وبدون صبر مع أن أكتب على راحتي لدرجة أن أربع سنوات لمجرد خمس قصص ونصف P

أول قصتين عن واحدة كانت تصلها إحتمالات لنهاية العالم يرسلها شخصية مجهولة وإنتهت القصتين أن الراوية إكتأبت وإختارت العزلة لنهاية حياتها ..

يمكن بعدهم الثالثة أهم قصة كحدث .. في مقدمتها حفيد الراوية يكتشف بالاعتماد على نفسه أقرب نهاية للأرض وفي الاحتمال أو القصة إن الأرض إنقسمت مركز وشرق وغرب بسبب الجنس الجديد للبشر على القارة المتجمدة واللي يشوف نفسه أرقى من البشر وأن هدفه يبيدهم وللتوضيح ظهور الجنس الجديد ما كان سببه تجارب الجيش على بقايا الكائنات المكتشفه لأن هدف الجيش بعد إستقلاله بالقارة ان يستغل نتائج تجاربه ويغزو العالم بس صادف أن وجودهم تسبب بإيقاظ مبكر للجنس الأخير وإنتهت القصة بان جيش العازف في هجومه اليائس على القارة يتسبب في تحرير كيانات تدمر الكوكب في نفس القصة ظهر باحث من العصر العباسي كان يرصد النهاية بس وصل فاقد للذاكرة وفي الأخير بسبب فضوله يضحي بحياته لمجرد أن يكتشف سر نهاية العالم ....

من بعد القصة الثالثة في كل قصة أرجع بالزمن وأحكي قصة في نفس إحتمال النهاية للقصة الثالثة ... مثلاً في القصة الرابعة الجنس الأخير بيرسل طفلة منهم تبدأ حياتها بين البشر العاديين في الأخير يتأكدوا من إستحالة التعايش مع البشر وهي نفسها مع الزمن تجننها العزلة ورعبها من الكيان اللي يظهر في كوابيسها في نفس الوقت يتضح أن أبحاث أقدم من أبحاث الجيش كان علماء مستقلين بدأوها في القرية اللي نشأت فيها ....

في القصة الخامسة بوضح الكيفية اللي ظهر فيها الجنس الأخير عن طريق واحدة منهم تستيقظ في غرفة التجميد فاقدة ذاكرتها وتستمر تسترجع ذاكرتها لحتى في الاخير تنهار وقت تكتمل ذكرياتها وتكتشف انها معزولة عن العالم من قرون وكل احبابها ماتوا والسبب باختصار بدأ من واحد استمر كل حياته يدرس الحروب ولنتيجة معينة تتكرر في التاريخ قرر بنفسه يشعل حرب تبيد البشر في حين بدأ مشروع سري لنقل مجموعة من الناس تحمل صفات معينة ويجمدها في القارة المتجمدة بحيث تستيقظ بعد نهاية العالم وتبدأ عصر جديد افضل للبشر .....

في القصة السادسة ارجع للاصل والسبب اللي نتج عنه كل الاحتمالات سواء الاحتمالات البعيدة او الاحتمال القريب اللي رصده حفيد اول راوية والراصد او الباحث من العصر العباسي ... وكنت مضطرة أجزأ القصة لسبب أن بتكون طويلة فأحسن تنقسم لأجزاء وكل جزء يمثل بذاته قصة قصيرة حتى اللي يقرأ ما يحتاج يقرأهم بترتيب ...

في أول جزء كانت البداية المأساوية من طفل مر بحياة صعبة بسببها كان كل تفكيره عن الموت ونهاية العالم يفكر بعلامات النهاية وسبب عدم ظهورها ويتشكل تفكيره مع الزمن ان العلامات مهما انتظرها البشر مستحيل تتحقق بمجرد مرور الزمن وان انتظار البشر معناه بس ان تستمر المأساة ولأن الكونسبت عن واحد يقنع كل البشر تقريبًا ان ينتحروا بدأت اول جزء بطفلة تفكر بجدية تنتحر على امل انتهي من اخر قصة وكل البشر انتحروا او اللي يقرأ P

باقي رد عن تجربتي مع الكتابة نفسها وسبب غبائي ان التخيل في اغلبه ما يتفق مع الكتابة كأن واحدة تفكر وواحدة تكتب ....


باقي رسمة نسيتها ...


OqRHKj2.jpg
 
التعديل الأخير:

Sam.

fire walk with me
- فاصل ٢ -




كتبت في اخر رد توضيح عن الرابط بين القصص وبالنسبة للقصة الاخيرة على طولها ان اكبر من كل القصص قبلها فبكتب مختصر عن خط سير الاحداث في اجزائها الستة ...

الجزء الاول بدأ بفلوه في سيارة طبيبة وتسترجع تفاصيل انتحارها الفاشل قبل عبورها لقرى الجبل ...

الجزء الثاني تسجيل من المستقبل والصوت لعجوز يحكي عن بداية احداث نهاية العالم اللي بدأها مقدم في الجيش اسمه ماجد ينتمي للقبيلة الاولى اشتهر بين الناس بلقب القائد وفيه تفاصيل بسيطة عن طفولته وشكل المركز شبه المنهار وواضح من الاحداث ان طفولته عاصرت فترة انهيار قبيلته وسيطرة القبيلة الثانية ....

الجزء الثالث عن دخول فلوه قرى الجبل مع الطبيبة وتفاصيل عن القرى البائسة وسكانها الفقراء والحرب اللي على وشكل تبدأ فيها والعلاقة العجيبة بين الطبيبة اللي انقذتها وزعيم الجبل ...

الجزء الرابع عن تيماء صحفية منفصلة عن اهلها وتعيش حياة كئيبة بسبب شيء ارتكبته في ماضيها تسبب بنفور الناس منها ويظهر ان اثناء دراستها تعرفت على ماجد قبل تركه للكلية وانها من تأثرها بشخصيته وافكاره عن نهاية العالم عجزت من بعده تستمر في حياتها بشكل طبيعي واستمرت بدون زواج مع تجاوزها للثلاثين ومن القصة ان ابن اختها الوحيد اللي تهتم فيه يعاني من اضطرابات نفسية بسبب احلام غامضة بسببها حاول الانتحار قبل احتجازه في مستشفى الصحة النفسية ...

الجزء الخامس عن اسامة مدرس في الكلية الحربية مل الحياة وفي يوم عطلته اثناء عودته للبيت نام في الحافلة وحلم بطفولته وفي حلم اغلبه رموز كانت ترسم له طريق جديد لحياته ونهايتها وحتى مع شعوره بان الطريق الجديد اللي بيختاره بينتهي لنهاية بشعة قرر يصارح نفسه برأيه في قبيلته الثانية وينضم لماجد في اللواء السادس ويترك مصيره للقائد ....

الجزء السادس عن ماضي الطبيبة حنين وعلاقتها في طفولتها مع زعيم الجبل وانها عاصرت احداث الحرب اللي ادت لسقوط القبيلة الاولى ومرت بحصار الجنوب واللي انتهى باختفاء ناصر وكيف امضت حياتها متأثرة بكلامه عن الانسانية ومحطمة من خيانة ابوها ورحلتها في اكتشاف نفسها اللي اصرت تكملها للنهاية كأن ترجع لنفس الحصار اللي مرت فيه بطفولتها وهي حرة من اختيارات اهلها في اختبار اخير لنفسها ولنفس السبب ما اهتمت بالطلاق لانها اختارت رحلة اخيرة للنهاية ....

في الجزء السابع اذا كتبته برجع فيه لتيماء وذكرياتها في الجامعة ومصير ابن اختها وافكاره اللي بتبدأ تشوف فيها ظل لافكار ماجد ....



gT7wmDV.jpg
 
التعديل الأخير:

Sam.

fire walk with me
- فاصل ٣ -




استمر في التعليق بس اخر فاصل اكتب عن جانب لتجربتي نفسها في ٠١٩ ٢ ان أول قصة كتبتها كنت أتابع فيلم غبي عن بطل استفزني لدرجة تحمست أكتب أسخر منه بس من حماستي بدأت قصة وفكرتي أن واحد غبي يتخيل نفسه بطل صادف بعد أيام كنت مريضة وعلى سذاجتي وقتها خرجت كل مشاعر الإكتئاب والقصة اللي مفروض كوميدية تحولت لمأساة عن نهاية العالم .... بعدها تحمست بشكل أكبر أعيد التجربة بس بدأت بأغبى طريقة وهي ان أخطط للقصة وأرتب كل أحداثها قبل الكتابة وهي في رأيي حاليا إن الحسابات وترتيب الأحداث يشبه التكلف في الشعر من إن يعجب الناس بس يفتقد للإحساس المهم بدأتها وفي منتصفها جدًا مليت كان شعوري أن أكتب واجب مدرسي وكل جزئية أجبر نفسي أنهيها بنتيجة معينة في الأخير ما تحملت وختمتها على راحتي والنتيجة ان خرجت من دوامة الحب والانتقام وبدأت اختم القصة بالتركيز على شخصية الراوية نفسها لدرجة ان بمجرد انهيتها بدأت اكتب عن حياتها وايامها الاخيرة ورحلة حفيدها في كشف اسرارها ... ومع وصولي للقصة الثالثة كان عندي ثقة غريبة ان اتوسع في عالم القصة وعلى غباء الكتابة خرجت بنهاية ترضيني لاحساس نهاية العالم بس مشكلتي وقتها ان تصويري للشخصيات كان جدا ضعيف حاولت في القصص بعدها احل المشكلة فكتبت في القصة الرابعة عن طفلة الجنس الاخير من بداية حياتها لنهايتها بس الجانب الغبي ان فكرت فيها في اسبوع وتسرعت اكتبها في يوم وعلى نهاية اليوم مليت وختمتها وانا اختصر التفاصيل لكن الحمد لله اللي استشيره مدح انجازي ... وبنفس الاسلوب احتجت تقريبا ٩ اشهر اتخيل مشاعر بطلة القصة الخامسة والعجيب ان مشكلتي مع القصة ان تخيلتها لدرجة اكتئبت وكنت اكتبها بصعوبة فاختصرت وتركت تفسير القصة نصفه في فقرة النهاية ونصفه في عنوان القصة نفسها " تمضي وامضي مع العابرين " اتذكر في مرة جربت امنع نفسي من الاكل يوم كامل بس عصير لحتى اختبر احساسي في اليوم الثاني اذا اكلت في الصباح .. والابشع حصل مع تخيلي لشخصيات القصة الاخيرة .. ولاسباب غبية اتجنب وصف تجاربي خصوصا في الانتحار € .... المهم وأنا أفكر في اخر قصة عن النهاية ضيعت ٨ أشهر أقرا تاريخ وأحاول افترض ان تأخر نهاية العالم هي نفسها مشكلة وأتخيل قائد ينتبه للمشكلة ويحاول يكسر حلقة ان التاريخ يعيد نفسه ويوصل بالعالم لنقطة النهاية وتعبت افكر فيه بشخصية عادية من ناحية ما يكون هدفه يساعد الناس او يستغلهم هو بس يتحرك لهدف معين ويتمتع بتأثير يصور لناس بأهداف مختلفه ان طريقه بيحقق اهدافهم وفي جانب مختلف ما قدرت اتخيل شخصية عادية تقتنع فيه هو في النهاية يحتاج شخصيات ملت من الحياة او يأست منها وبشكل تلقائي اغلب الشخصيات اتصورها كبيرة في العمر غير ان القصة كان ضروري لها منظور اعلى للاحداث فأضفت جانب توثيقي للحوادث ولمحت انها تاريخ معتمد في المستقبل لكن الحقيقة فيه مشوهه أما اصعب جزئية مستمرة تواجهني فهي ان مهما فكرت فنقطة الصراع الأساسية صعب تكون كسر الحلقة على افتراض حسب تخيلي انكسارها على مر العصور لكن نقطة توقف الامم في مرحلة يكون التقدم بعدها تكلفة بدون مكسب فافترض ان المجنون اللي بيستمر بعدها بيكون حرفيا كل العالم اصدقاء واعداء ضده .. فيمكن اذا كتبتها اعيدها بعد عشر سنوات واعترف ان وقتها كنت غبية وفهمي محدود P


YSHMwdp.jpg

Avh3VrY.jpg

xJyd8n7.jpg
 

wael_boss90

True Gamer
جالس أحاول أكتب رواية فسعييييد مرة أن في موضوع كذا , باقي ما أطلعت على كل الردود بس مبدئيا أنا جالس أحس أني ما أعرف أكتب أبدا
كتبت مرة سابقة والرواية ما رأت النور وقتها ومن وقتها تقريبا صارت عندي فوبيا من الكتابة خايف أفشل ثاني لكن الرواية فيها افكار حلوة مثلكم

أشعر أني بحاجة أدخل دورة في الكتابة ولا أقرا من مصادر تعليمية مفيدة الي يعرف بكون ممتن
 

Sam.

fire walk with me



RNYuM9h.jpg
 
التعديل الأخير:

Sam.

fire walk with me
أن تداوي بالجنون من الجنون

ج٧ : إلى حيث تنتهي الحياة





VXYYg5t.jpg


اخطو على الارض الخشبية فيمتزج صوت خطواتي بقطرات الدم المتساقطة .. اشعر بجانبي الايسر وقد تخدر , تتثاقل عيناي .. اقاوم .. لا اريد لوعيي ان يغيب .. .. فقدت رغبتي بالحياة ولازال بحر من المشاعر يموج بداخلي .. اصرخ ألمًا وانا اجلس متكئة على جانبي الايمن .. لطخت المكتب بدمائي .. جمعت كومة من الاوراق وأخذت بالكتابة إليك ..

إليك أيها القائد .. نعم .. القائد ... هكذا باتوا يلقبونك , يتراءى لي أحدهم يناديك بالقائد فيتمزق قلبي .. يضيق صدري تختنق أنفاسي وأنا أراهم قد سلبوك منا كما سلبوا أعز ما كنا نملك ...

أتَذكُرُنِي ؟ لعلك تتساءل عن تلك التي تخاطبك عبر أوراق بالية , تكتب بيد ترتجف .. تدفعها دفعًا فكأنما تنحت كلماتها , غارقة في ظلمات من اليأس , .. في ساعتي الأخيرة أكتبُ إليكَ بكل ما تبقى من روحي بعدما إسْتَنزفها موت كل من عرفتْ .. فلم يبق غيرك .. أنت يا من لا تَذْكُرُني , يتراقص ضوء الشمعة الباهت وتتساقط دموعي , ألقي إليك بمشاعري المثقلة بمعاناة قومي وقومك , في ليلتي الأخيرة .. أعهد اليك بكل ما احتملوا من فقد وألم ويأس , أتذكر يوم دُفنت أختي وقتلت أمك ؟ يوم اغتيل أبوك وأُرغم رئيس الأركان إرغامًا على الانتحار ؟ يوم أُعدم جدي وجدك سيد قبيلتنا رئيس المجلس ؟ يوم انهار جيش الأصل ؟ يوم استُبحنا ومُزقنا وشُردنا ..... لازالت تلك النظرة المنكسرة في أعين شيوخ قبيلتنا تعتصر قلبي , تلك الأعين بما تعكسه من نبل وإباء تُبدِي لك عبر بريقها فخر الإنسان الأول .. ما قبل التاريخ ما قبل الشعوب والحضارات , على أرضهم خطى الانسان خطواته الاولى , هنا في هذا المركز لم تتزحزح قبيلتنا مهما تشتت البشر من حولها كنا نحن من استمسك بتلك الارض حيث الفجر الأول للبشرية فلم يحكمها غيرنا , أي عار أن تُسلبَ منهم , رأيتهم وقد بلغ الشيب منهم ما بلغ يتدافعون الى الموت خشية أن يُدفنوا بغيرها إن أُخرِجوا منها تاركين لنا هذا العار .. لنا نحن ممن بقوا أحياء اذلة يتخطفنا الموت , نعاني قسوة العدو وغدر الصديق وخيانة القريب والبعيد فلم يبق في كل القبائل مطمع , وبينا نعد لنهضتنا الثانية اذا بك تتلاشى كأنك لم تكن منا .. كان لدي كل الوقت لأتفكر برحيلك .. بتخليك عنا نبذك لنا هجرانك لمن أعدوك بطلهم .. ولازالت همسات تلك الليلة تتردد برأسي : قائدنا .. , لكنك كنت الغريب بيننا ..

VrrKjWm.jpg


من البداية كنتَ مختلفًا , كنت كجدي في اختلافه عنا ونظرته التي تجاوزت المركز , ذات يوم قال عنك انك الابن الذي طال انتظاره فما الذي ابصره بعيني طفل لم يتجاوز الرابعة ليمنحك هذا الاهتمام , في طفولتي أتذكر أختي تصف غرابتك لا يشغله غير التحديق بهاتفه والكتابة .. يكتب بينما يمشي بينما يأكل بينما يجلس في الحافلة حتى في الصف ثم اذا تطفل عليه أحد زملائه ليرى ما يكتب اوقفه بنظرة عدائية .... , وإني لأتساءل .. عن أي افكار عصفت برأسك حتى فاضت فعزلتك عن العالم .. تتقلب على فراشك عاجزًا عن النوم تشعر وكأن العالم بكل ما فيه لا يتسع لك , لأي شيء تاقت نفسك حتى لم يعد مِن حولك ما تأنسُ به ما ينبض قلبُك شوقًا إليه ..., كنتَ وأختي تكبراني بأربعة أعوام فلم يتسنى لي أن أعرفك في طفولتك كما عرفتك هي , كنتُ أنا في الصف الثالث حين التحقتُ بمدرستكما ورأيتك للمرة الاولى فلم تكن ثمة زيارات بين أمي وأمك اذ كانت الكراهية المتبادلة بينهما اكبر من أن تتبدد بمرور الزمن , ومنذ قتل أبيك سعت أمك ابنة القبيلة الثانية لعزلك عنا ولولا حزم جدي لرحلَت بك إلى أهلها , ولعلك لا تدري أي أسرار حملتها إلى قبرها لكني عرفت ..

تعلمُ أن جدك ومذ تولى رئاسة المجلس لم يشغله غير دول الشمال , لم يكتفِ برؤيتها كجزء سليب من المركز يتقلب يين نفوذ الشرق والغرب , بل خطط ليجعل منها نقطة انطلاقه شرقًا وغربًا إن استخلصها للمركز , قد يدهشك قدر ما أعرفه لكن أتذكر معلمتك القديمة ؟ تلك التي كُلِفَت بمراقبتك فقتْلِكَ ان دعت الحاجة كما زعمت فكانت سببًا في موت أمك قبيل انتحارها , بطريقة ما كانت مطلعة على سجلات المجلس السرية التي حٌجبت حتى عن شيوخ القبيلة الثانية , ولعل الحقيقة خلف افعال جدي صدمتها فيئست من الحياة , وفيما دونته على هاتفها الذي وقع بين يدي كتبت تصفك " منذ اللحظة الأولى عرفته .. لم أكن بحاجة لأسأل طلابي عن اسمائهم كان الطفل الذي لم يتجاوز سنواته الست ترسلني عيناه الى حيث تنتهي الحياة .. بحر من الظلمة تتلاطم أمواجه على ضوء القمر الشبحي ..... " , أنا لم أفهم ما عنته بكلماتها لكن أظن أنها كانت مميزة .. ربما كأمك , ولعلها الوحيدة التي أبصرت في عينيك ما أبصره جدُّك حين وقعت عليك عينه للمرة الأولى , لكن من هي ؟ ومن أين أتت ؟ ولما لازمت جدي قبل ولادتك ؟ وكنتَ في السادسة حين عاودت الظهور بعد ان اختارها من اختارها لتكون بالقرب منك , لماذا ؟ من أمرها ؟ من الذين قصدتهم حين كتبت " قالوا أنا فقط من باستطاعتها معرفته .... أن أبقى لتسع سنوات فإن بدت لي حقيقته قتلته .... " , عمن كانت تتحدث ؟ لست أدري إلا أنها وفيما دونته بدت كمن تستكشف عالمنا .. مهمومة بصراع المركز .. تحيرها نوايا جدي ..

وكان جدك قد أوعز لحلفائه داخل الدول الشمالية بالتحرك لزعزعة الشمال .. جعل يذكرهم بحلمهم القديم بالتوحد مع المركز .. تلك الوحدة التي طالما تصوروها حلا لنوائب الدهر فبها يتحررون من هيمنة الشرق والغرب .. وبها يسترجعون ثرواتهم المنهوبة وبها تُفتح لهم خزائن الأرض , بهذه البساطة هيمنت شعاراته عن الوحدة مع المركز في قلوب الشماليين وانتشرت دعوات العودة الى الأصل .. ثم سرعان ما اشتعلت الأحلام واتسعت الآمال حتى خرج منهم من يبشر بالأصل الذي سيهيمن على العالم , وانتظر جدك بصبر .. ترك الشمال وقد تباينت أفكاره يموج بفتنة عمياء حتى اذا أُوقدت نارها وتسعرت خطى خطوته التالية فاتجه شرقًا إلى الساحل مستفزًا العالم بقاعدة عسكرية مهددًا طرق التجارة البحرية بين الشرق والغرب , ولما كان العالم قد عهدها كأرض منزوعة السلاح اجتمعت الأمم ووجهت للمركز انذارًا بالحرب , وفي المركز انعقد المجلس برئاسة جدك الذي رفض الإنذار وبطريقة ما رضخ الاعضاء لجدك إذ أغراهم بعوائد السيطرة على الممرات البحرية , ثم هون عليهم الحرب بأن حرك اللواء السادس إلى الخطوط الأمامية وجله كما تعلم من القبيلة الأولى , ظن أن اللحظة التي ستدفع بها الأمم دول الشمال للتصادم مع المركز ستكون سببًا في ثورة تطيح بقادته فسقوطه بين يديه إلا ان اللحظة طالت فكان جدك كالباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه فويل ثم ويل للشجيِّ من الخليِّ , وأين لعامتهم بعزمٍ كعزم جدي , كانت عاطفتهم سريعة الاشتعال سريعة الزوال فإن هموا لم يفعلوا وان سُئلوا لم يبذلوا وإن طلبوا جشعوا وان هُددوا خضعوا وان صادموا جَبِنوا , وكان صالح أحد أبناء الشمال القلائل الذين عزموا أمرهم على الانتصار للمركز , وبقلة قليلة التَّفت حوله صدم العالم بالسيطرة على بعض قرى الشمال الواقعة على حدود المركز ودعا إليه الناس , كان انشغال الشمال بحشد قواته في مواجهة اللواء السادس قد منحه لحظة تاريخية , استنهض قومه أن حانت ساعة العودة إلى الأصل .. الوحدة التي طالما هتفوا لها , لحظة المجد المرتقبة إلا انه كان غريبًا في قومه كغربة جدك بين القبائل بل زاد عليه أن لم يجد عونًا ولا نصرةً فما ان اضطربت احوالهم واهتز أمنهم وكسدت تجارتهم حتى التفوا حول قادتهم ولعنوا الأصل وصالحًا والمركز ومن خلفهم جدي , فياللسخرية .. أبهؤلاء استمطرها جدي دمًا , بذل لهم نفسه وقبيلته بل كل المركز وضنوا هم بحياتهم البائسة فياويح نفسي من لنا إذا طرقت للنائبات خطوب , تغمرني رغبة شديدة في البكاء .. أشفق على جدي أن خُتمت حياته بتلك الأيام العصيبة , لكن أنا كغيري من أبناء قبيلتي لا أبالي بهيمنة الأصل ولا افهم سببًا لتلك الحرب , كذا كل قبيلتنا التفت حول جدك تحمي مكانتها التي اهتزت تصد زحف الأمم نحو المركز بعد ان انكشفت نوايا جدك بضم الشمال اتفقت الأمم على تفتيت المركز واتسع تحالفهم فاقتسموا أرضنا حتى من قبل ان تبدأ الحرب , وانقلبت القبائل على جدك من الداخل وحيكت المؤامرات لعزله , لكن مَن على الأرض يومها ..كجدي .


8SZZ9L6.jpg


أتأمل أحيانًا كيف تمضي بنا الحياة وفي داخلنا شوق للقاء لا نكاد ندركه , ذلك اللقاء الذي يتوهج له القلب فلا مدى يحد من عزيمته , تفنى الأعمار ويرحل ذاك فهذا على اثر الذي هو قبله وفي داخلهم حسرة أن لم توافيهم الحياة بذلك اليوم الذي انتظروه بيأس , ولعل جدي كان ممن شقوا طريقهم نحوه فكانت أيامه التي لا تقارعها أيام , وما ان هُدِدَ بالحرب حتى رفض الانسحاب وتمسك بحق المركز في بسط سيطرته على المعابر .. نشر قواته على طول الساحل ثم نقل مقر قيادته الى الخطوط الأمامية في الشمال مشكلا ما عُرف بخط المفترق , وقبل أشهر من بدء الحرب عمل على إعداد كتائب من المتطوعين تحت اسم لِيَاح , كانت سبيله لمد اللواء السادس بالرجال ما بقيت الحرب , دعم صالحا وفصيلته وأمرهم بالانسحاب شرقُا جاعلا منهم يده التي تضرب في عمق العدو فكانوا على اتصال مباشر باللواء السادس لا يصدرون إلا عن أمره , وأخيرًا صب اهتمامه على حفظ مخزون ضخم من الغازات الحربية وبالغ في نشر الرادارات المحمولة جوًا على طول الجبهة الغربية , كان يخطط لحرب طويلة الأمد وقد علم أن سبيله الوحيد لاطالتها تكمن في الحفاظ على عمق المركز بعيدا عن الحرب , فكان المفترق هو الخط الذي لن يسمح للحرب بتجاوزه ولأجل هذا هدَف لإزاحة المعارك داخل أراضي العدو ما أمكنه , وبإقتراب ساعة الحسم لاحظ جدِّي ما أثار قلقه إذ كانت الكثرة من جنده تتقلب بين يأس من تفوق العدو وإيمان عجيب بأن حربهم ستبدأ بصدمة فحصار فصبر فمعجزة تحيل هزيمتهم نصرا , رأى بعضهم يتشوق للحصار ويقسم على صموده حينئذ بل رأى من يستنكر التباين بين تدريبهم والحصار المنتظر , ولكم غمه هذا الذي أسماه عقيدة الحصار .. لم يفهم جدك ذلك الميل إليه .. أهو الكسل .. أم اغتروا بأنفسهم فظنوا انهم قد استحقوا معجزة , وإذ أمعن التفكير زرع بين جنوده من عملوا على جعل نفوسهم تتهيأ لحرب سريعة الحركة لا مكان فيها لسكون يتبعه حصار فإن خُيروا فليكن خيارهم الموت لا الحصار , كانت خططه في مرحلتها الأولى زعزعة التحالف فعمد ما استطاع إلى تفريقهم عن كل هدف قد يجمعهم , يتبعها في الثانية بالضغط على احدى القوى وتحييدها عن الصراع , أما الثالثة فحرب يبعثها قدمًا لا تبقي ولا تذر , ثم استفتح الحرب بأن أعاد تشكيل اللواء السادس فثلثه تحت قيادته لصد قوات الشمال المدعومة بتحالف الشرق , وعلى المحور الغربي كلف أبي بقيادة ثلثي اللواء صدًا لتحالف الجبهة الغربية فكان يوم أبي وما أدراك بأبي أوصاه جدي شرًا فازداد شدة على شدته ولسان حاله بين جنوده أن لا ترحموا لهم عبرة ولا تقيلوا لهم عثرة .. قصروا الأعنة وطولوا الأسنة .. اطعنوا شزرا واضربوا هبرا ..

أما عن ادارته للحرب فقد حرص جدي من البداية على غموض جبهته .. رفض كل تفاض مع العدو , حصر غالبية جيش المركز في تأمين طرق الامداد واستخلص لنفسه اللواء السادس , على المستوى التعبوي أراد أن يُفاجئ الأمم التي ظنت المركز سيعوض عن قلة عتاده بكثرة العدد , أما تكتيكيًا فمنذ سيطر على الجانب الغربي للساحل لم تتبدل نواياه بحرب هجومية حتى مع حشد الأمم .. وعوضًا عن التكلفة الباهظة للتسليح استسمر موارده في نظم الخداع السلبي لمواجهة التفوق الساحق لأنظمة الكشف والانذار لدى العدو , في ذلك العام أدار المركز بيد من حديد وأخفى نواياه حتى عن أعضاء المجلس وكان هو من استفتح الحرب , على الجبهة الشرقية .. دفع صالحا وبدعم من اللواء السادس للسيطرة على الجزر الساحلية الواقعة في الجنوب الغربي لاتحاد الشرق بتحالف مع حركات التمرد هناك بعد أن وعدهم بحكم ذاتي ما ان تنتهي الحرب , وعلى الجبهة الغربية خطط لهجوم جوي مباغت وليضمن نجاحه استنفذ كامل مخزونه من الصواريخ المضاده للرادارات وكان قد طور على نطاق محدود منظومة قادرة على التعامل مع الرادارات الحديثة مكنته من شل دفاعات العدو الجوية والتخفيف من وطئة الاعاقة الالكترونية مما ساعد على نجاح ضرباته الاستباقية غربًا , أوقفت الصدمة الحرب مؤقتًا وأعيد خلط الأوراق إلا أن جدي استمر بالضغط شرقًا وعمل على تأجيج الفتن على امتداد الشريط الساحلي ممن ثارت حماستهم بعدما نجحت الجزر بالتخلص من سلطة التحالف , وشيئًا فشيئًا سحب الجزء الأكبر لقواته من المحور الغربي ودفع بها شرقًا مطورًا هجماته , حاول الجانب الغربي شن هجوم بري تخفيفًا لضغط المركز على الشرق إلا أن أبي كان قد استعد لهم بعشرات الألاف من الألغام الكيماوية ومئات من خنادق النفط التي بعثرت القوات المهاجمة جاعلة منها هدفًا سهلاً لفرق للقناصة ولم يكتفِ بذلك فعمل على تطويق الجيش المهاجم وسحقه عن آخره ليُعرف بعدها بلقب شيطان الكثبان الملعونة , وانتهت الجولة الأولى للحرب بهدنة قصيرة استعاد فيها الجانب الغربي جثث قتلاه وجمدت جبهات الساحل شرقًا إلا من مناوشات معدودة كان صعبًا على كلا الجانبين منعها لتداخل مناطق السيطرة بينهما , انقضى العام الاول وكفة الحرب تميل إلى المركز إذ عجز الجانب الغربي عن الاختراق وخسر مواقعه المتقدمة بينما فقد الشرق العديد من مدنه على ساحله الغربي ليحظى اللواء السادس بهيبة أفزعت جيوش العالم صانعًا لنفسه مجدًا يتردد صداه بين الأمم وفي المركز كان الناس يتعجبون من جدي الذي قبل الهدنه ولم يعزز تقدمه .. لكن أكان باستطاعته ذلك ؟ كان جدي يعلم من البداية ان اخفاقه في ضم الشمال بما يملكه من موارد قد بدد أي أمل في حرب متكافئة ومذ تحالفت الأمم على غزونا خاض حربًا نفسية أرهبت العالم إلا أننا لم نملك قط القدرة على السيطرة في عمق أي من أعدائنا وتفوقنا المزعوم كان الوهم بقدرتنا على ذلك , فغربًا كنا نتقدم بكل ما لدينا مشتتين مواقع العدو ومناطق حشده ثم ننسحب تحت ستار كثيف من الادخنة تاركين العدو في حيرة من امره اهي البداية لهجوم شامل ثم إذا بنا نكتفي بإعداد الكمائن والتحصن خلف خطوطنا الدفاعية بينما على الجانب الشرقي تمكنا من السيطرة على الارض بفضل الدعم الذي قدمه لنا سكان الساحل بعد التحالف مع فصائله المتمردة وكم كان تحالفًا مرًا فما ان تهدأ الجبهات ويتخففون من ضغط المعارك حتى يضجوا بالشكوى من تواجدنا على أرضهم إلا ان التقدم شرقا وكما رام جدي كان له أثره العنيف على دول الشمال فسرعان ما على نجم صالح وتغنى أهل الشمال ببطولاته وانبعثت من جديد شعارات الأصل وفي المركز اشتعلت حماسة القبائل وضغطوا لزج كامل الجيش في المعارك ولم يستطع جدي منعهم عن الحرب التي اختاروها .

اتذكر تلك الأيام بحنين يدمي قلبي .. كنت في الثامنة حين زرنا أبي على الجبهة للمرة الأولى إبَّان الهدنة , وهناك هالني هذا الفراغ بين الكثبان .. تخطو قدماي على الرمال فأرى نفسي وقد انتزعتها الصحراء فتهوي بي لعوالمها اليهماء .. عصفت الرياح وهمسات الجن تطوف من حولي .. ركضت أختي نحو أبي .. نزعت أمي نظارتها السوداء .. تقدمت نحوه .. أحاول اللحاق بهم فتدفعني الرياح لتسقطني بعيدًا كأنها اختارت لي قدرًا يفترق عن أقدارهم .. فتحت عيني وأنا على الارض احتضن الرمال أتأمل حباتها تدفع بعضها البعض فتصنع أمواجًا من خلفها أمواج .. أشعر بيدي أبي تحملاني .. أسمع صوته الساخر يصفني بالشقية .. يرفعني لأعلى فتطرق على وجهي قطرات من المطر البارد .. تتكلم أمي بقلق فيطمئنها أبي .. يطوف علينا أحد الجنود مقدمًا الشاي .. تحتضن اختي يد أبي تقبلها .. تتعلق عيناي بسلاحه فأرفعه .. بصعوبه أوجهه نحو اللاشيء .. يضحك أبي .. يضع على رأسي خوذه ويعاود حملي بين زراعيه .. يصفني مازحًا .. ابنتي هي ابنة الحرب .. تميل الشمس نحو الغروب .. نودعه فنفترق عنه .. تمطر .. يخيم علينا الصمت بينما تصحبنا احدى العربات الحربية الى طريق المدينة .. تمطر .. تخفي أمي عينيها خلف نظارتها السوداء .. احس بها تبكي .. تتساءل في نفسها ان كانت ستراه مرة أخرى .. تمطر .. تمطر ..

في الصباح توقظني ببرود .. تتثاقل عيناها بهم ثقيل ألَمَ بها .. مكتئبة كعادتها بعد زيارة أبي .. مرهقه تهمس لي أن اختي متعبة .. اغادر البيت وحيدة .. تمطر .. اخطو على الارض المبتلة .. تمطر فأتراجع الى الدرج .. انزع حقيبتي المدرسية وأجلس .. تمطر .. تصل الحافلة فأصعد .. اراك جالسا في المقدمة تكتب على هاتفك .. اتخذ مقعدا على الجانب الاخر .. من النافذة أراقب بيتنا يبتعد .. يتضائل .. تنحرف الحافلة فيتلاشى .. تمطر فأراقب قطرات المطر على النافذة تتجمع فتصطف خيوطًا .. تتقاطع طرقها فتهوي .. انظر إليك فتسكن نفسي ويغمرني الهدوء فأغفو .. تمطر .. تمطر .. يتردد صوتك ينادي اسمي .. هَيَا .. هَيَا .. أفتح عيناي أراك تهبط من الحافلة .. اتبعك الى المدرسة .. تتخذ طريقك الى المتوسطة .. من بعيد أرى معلمتك تراقبك بعينيها .. دائمًا تراقبك وعلى وجهها تلك النظرة القلقة .. تمر الساعات بطيئة .. يرتفع صوت الآذان .. نخرج للصلاة .. ينتهي الدوام .. أودع صديقتي التي انمحى اسمها من ذاكرتي .. امشي الى ساحة انتظار الحافلة .. أراك جالسًا تكتب .. تكتب بلا توقف .. جلست بالقرب منك .. تأخرت الحافلة .. عبرت نسمة باردة .. أرتجف .. من جديد تمطر .. نهضت وأحضرت كوبين من القهوة .. أنا لم أكن أحبها لكن فكرت انك تفضلها .. عدت وأنا امشي بحذر .. وضعت كوبًا الى جوارك فنظرتَ إليها بفضول .. قلت لي ان أمَك لا تحبها فلم تجربها قط .. سألتك ماذا عن عمي .. بعد صمت أجبتني بأنك لا تذكر فلم تره مذ كنتَ في الخامسة , لكن اكنت واثقًا ان هذا الذي في ذاكرتك هو والدك ؟ قيل ان أباك قد أرسله جدي للشمال مع من ارسلهم لنشر أفكاره عن الأصل وقيل بل منذ طفولته درس هناك .. بل قيل فترة الحرب كان حلقة الوصل بين صالح وفصيلته مع جدي .. تمطر .. تمطر .. قالت المسؤولة عن الحافلة انها تعطلت .. أمرتنا أن نتصل بأهالينا ليصحبونا .. وضعت هاتفك بالقرب مني وذهبتَ لا أدري لأين .. بقيت أنظر لهاتفك ولم أجرؤ على لمسه .. تمطر فتنقر برذاذها مقدمته لتتناثر حبيباتها على شاشته .. تمطر .. تمطر .. بعد تردد أمسكته .. لم تجب أمي ولعلها نائمة , عاودت الاتصال .. أجابت بصوت متعب أن انتظرها , جلست حيث أنا أنتظرها وأنتظرك لكنك لم تعد لأخذ هاتفك , ولسبب لا اعرفه لم اخبر أحدًا عن الهاتف ولا حتى أختي .. ربما خفت أن أفقده .. أخفيته بحذر وتركته مغلقا لا تنازعني نفسي لفتحه او يعتريني فضول لأقرأ ما يحويه , شعرت وقتها بأنني مؤتمنة على أسرارك .. وربما الوحيدة .. نعم حتى ذلك اليوم كنت وحيدة .. تأخرت أمي واختفى الجميع من حولي .. تمطر .. اجلس وحيدة .. تمطر .. تمطر .

بعد أشهر انقضت الهدنة وبدأت الحرب جولتها الثانية بهجمات عنيفة على مختلف الجبهات , غربًا فقد العدو اتزانه وبدأ بحرب استنزافية يقصفنا ولا يبالي بخسائره حتى تهاوت دفاعتنا الجوية وأخذنا بالتراجع إلا أن جدي استمر بالضغط شرقًا رافضًا تعزيز الجبهة الغربية بعناصر من اللواء السادس وحين اجتمع المجلس للتشاور حول الزج بالجيش الثاني في الحرب , افصح جدي عن نيته في السيطرة على الجيب الشمالي واعترض المجلس على فتح جبهة ثالثة رغم التراجع على المحور الغربي غير أن جدي كان حاسمًا في قراره إذ رأى ان التقدم في عمق الدول الشمالية الواقعة تحت هيمنة اتحاد الشرق سيدفعها للاستغاثة بالغرب الذي لن يتوانى عن مد نفوذه إليها .. نعم عزم جدِّي بكل ما لديه على عزل الشرق عن تحالف الأمم , ولتنجح خطته كان على صالح تحريك خلاياه في الشمال لرصد تحصينات الجيب تمهيدًا لهجوم الجيش الثاني , فإن سقط بدأ المركز بتحصينه وامداده بإحدى كتائب اللواء تمهيدًا لهجوم بري , ولمنع تحالف الشرق من نجدة الشمال خطط جدِّي لواحدة من اكبر عمليات الحرب وهي اغراق حاملة الطائرات ست وتسعون الاضخم لدى الشرق ولما كان التحدي الذي تمثله قدرات العدو الاستطلاعية المتمثلة بأحدث طائرات الانذار المبكر أكبر من ان تمنحنا فرصة الاقتراب فضلا عن الهجوم كان على سلاح المهندسين ان يبتكر حلا للاختراق ولأمر اضمره جدُّك في نفسه امرهم بتعقيد العملية واحطاتها بأقصى درجات السرية , ثم حانت ساعة الصفر واستحال المحيط جحيمًا .. من رأوا المشهد وصفوا دائرة من النيران أحاطت بالحاملة قبل ان يدوي انفجار اعمى الابصار وتعطلت الرادارات لتتلقى الحاملة ضربات أصابت خزانات الوقود ومحطات توليد الطاقة وفي الصباح وقبل ان يحصي الشرق خسائرة دوى انفجار شق المحيط وعلى اثره غرقت الحاملة واختلف الناس ان كانت الانفجارات من هجوم طوربيدات او متفجرات زرعتها احدى فرق القوات الخاصة , وقبل ان يستفيق العالم من صدمته كان الجيش الثاني قد أحكم قبضته على الجيب وبدأ المركز بشن غارات عنيفة على الدول الشمالية الواقعه تحت هيمنة الشرق مدمرا ما امكنه من اهداف سياسية وعسكرية ثم اتبعها بأكبر هجوم بري يشنه المركز في تاريخه ليسيطر على مساحات شاسعة اجبرت قادتهم على اللجوء غربًا بعد ان فقدوا ثقتهم في اتحاد الشرق ..

ومن جديد جَمُدت الحرب ودعت الأمم لهدنة رفضها جدي وبدأ بتعزيز سيطرته على الساحل بعد ان خسر الشرق هيمنته البحرية فيما انتقل صالح الى الشمال ليتولى قيادة الجيش الثاني وعلى استحياء ثارت حمية زعماء القبائل وأنفوا رؤية صالح على رأس جيشهم الا ان التيار كان اقوى من ان يمنحهم الفرصة للضغط على جدي اذ التف الشماليون حول الجيش الثاني وهتفوا له فيما خرجت الحشود على الجانب الاخر من الشمال مطالبة جدي بالتقدم اليهم , وعلى المحور الغربي اوقف الغرب هجماته الاستنزافيه واخذ بتحصين مواقعه التي تقدم فيها واعلن عن دفع جيشه السابع الى الجبهة الشمالية , في تلك الاثناء انتشرت شائعات شككت بقدرة المركز على اسقاط الحاملة ست وتسعون وتحدث الناس عن دعم غربي تلقاه اللواء السادس وخرجت القصة تصور دهاء الغرب وكيف احرج الشرق واستدرج المركز لغزو الشمال مهيئًا لنفسه الظرف المثالي ليظهر كالحامي الوحيد لدول الشمال , وخرج من قادة الشرق من وصف الغرب باستغلال اللحظة لمصالحه الخاصة فانهالت تصريحات الغرب تلقي باللائمة على الشرق وفشله في حماية الشمال وان اولويتهم الان استعادة السلام وطرد المركز الى حدوده .

ثم دخلت الحرب عامها الثاني وتبدت لنا اثارها داخل المركز فُسخرت جل موارده لدعم الحرب واعلنت خطط التدبير وفرض حظر التجوال مع الغروب توفيرًا للطاقة وأعيد تهيئة المصانع خدمة للاغراض العسكرية ورغم البهجة بانتصارات الجيش الثاني إلا ان ظلا كئيبا كان يخيم على قلبي ففي تلك السنة اشتد المرض بأختي واحتجزت في المشفى وعانت أمي بين رعايتها والاهتمام بي , وفي ذلك العام قُتل والدك وتبدلت حالك , لكنها رغم كل شيء ذكريات طفولتي التي احببتها واشتاق إليها .

وكيف انسى كآبة أيام الحرب .. كان الاولاد حينها لا يشغلهم غير ألعاب الحرب ولا رغبة لهم تعادل رغبتهم الالتحاق بالجيش , كانت الحافلة دائما صاخبة بأحاديثهم عن المعارك لكنك لم تشاركهم قط , ذات يوم تعطلت الحافلة كعادتها تلك الايام , قال السائق ضاحكًا لا تقلقوا يا اولاد سنعالج ازمتها القلبية وننطلق , تململ الجميع من الجلوس لكن المعلمة رفضت خروج البنات ومن هم دون العاشرة , رأيتك تغادر فانسحبت لنهاية الحافلة .. اردت القفز من النافذة مع من قفزوا في غفلة المعلمة , شجعني بعض الاولاد همسًا وبدأت اتسلل من النافذة .. ترددت الا انني استجمعت شجاعتي وهممت بالقفز .. حينها انت التفتَّ نحوي ونظرت لي نظرة اوقفتني ثم رأيتك ترجع للحافلة همست للمعلمة بشيء فنادتني ان انزل , هبطت الدرجات مرتبكة وتبعتك الى المدرسة سيرًا .. كنت كعادتك صامتًا .. تمشي متمهلا حتى لا اتخلف عنك .. اعتذرت لك على نسياني هاتفك .. قلت بلا اهتمام احتفظي به حتى اطلبه , وحين وصلنا رأيت من على بعد معلمتك واقفة عند المدخل تصوب نظرها نحوك , غامت السماء وتملكني لدى رؤيتها احساس بالشؤم , تقفُ بثباتٍ يتحدي الطبيعة من حولها لا تبتغي من الحياة إلا أنت, ومذ تلك اللحظة وحتى اليوم وانا أتفكر بأمرها لكني لم أسألك قط .. طلبتَ مني التوجه لمدرستي ففعلت ولم ألتفت ..

عند الظهيرة حضرت أمك بسيارتها عند موقف الحافلة .. وقفت تنظر لكلانا قالت انها مرت بالقرب ففكرت باصطحابك للبيت , تذكرت كم تكرهها أمي فنظرت لها بطرف عيني لكنها ابتسمت ابتسامة حانية وسألت عن حال أختي , قالت اردت زيارتها لكن والدتك كانت لتكره حضوري , وقبل ان اتكلم وجدتها تضمني إليها وتهمس اعرف كم هي فترة عصيبة تحلي بالشجاعة وثقي بجدك , كانت المرة الاولى التي التقيها وامي ليست حاضره فلم اتخيلها بذلك اللطف , لكن عندما استرجع تلك اللحظة اتذكر كيف شعرتُ بقلبها ينبض بعنف .. لابد أنها احست بشيء ما لم تفهمه .. كانت خائفة ولا تدري لماذا فهرعت اليك , وفي اليوم التالي .. جاء الخبر بمقتل والدك في الشمال .

وكانت الجولة التالية للحرب هي الأشد عنفًا إذ كان على الجيش الثاني ان يتلقى اندفاع الغرب على الشمال الغربي واتت الأوامر بتحصين مواقعهم والصمود مهما تلقوا من خسائر وعلى الشمال الشرقي كان جدي يُسابق الزمن في تطهيره من بقايا تحالفات الشمال مع الشرق بينما على جبهة الساحل تم الزج بكتائب لِيَاح الى المعارك رغم انعدام خبرتهم القتالية ثم اخيرًا أبي على الجبهة الغربية الذي انسحب بكتائبه من مواقعهم المتقدمة وتراجع الى خط المفترق الذي لم يكن بد من الموت دونه ان اقتدى الامر , وعلى قلة ما امتلكنا من عدد وعدة قاتلنا على الجبهات الاربعة جميعًا , كانت جولة صدامية لا مجال فيها للمناورة , وكان التراجع امام الجيش السابع في الشمال الغربي إن تم فله ما بعده اذ كانت الشائعات عن اسدراج الغرب لنا شمالا لاستخلاص الشمال من الشرق كفيلة بهدم الثقة بين الجيش وجدِّي , وكان على صالحٍ ان يصمد بلا دعم بل أمره جدي بتحين الفرصة لهجوم مضاد اذ كان الهدف هو تحرير الشمال بكامله من هيمنة الشرق والغرب , وكم أشعر بالاسف كلما فكرت بصالح وما بلغه من مجد كيف ذهب هباءً فلم تكد تنتهي الحرب حتى انكره المركز ومُحي ذكره من الشمال .. ولعل جدي لم يمنح ثقته لقائد من قادته كما منحها صالحًا وما كان ليبلغ ما بلغه في تلك الحرب لولا صالح .
 
التعديل الأخير:

Sam.

fire walk with me
I8Cpcv7.jpg


وحين استهلت معركة الشمال الكبرى تخاذل الناس عن الجيش الثاني وقد عظمت في انفسهم جموع الغرب فاستحث صالح عشيرته رجاء ان يعزز جنده فكان ان خطب فيهم :

" يا أبناء الشمال .. يا أهل العزة والمنعة .. فإن القوم قد نظروا وتفكروا ثم اختاروا لأنفسهم فأجمعوا امرهم ألا تبقى ارضهم إلا أسيرة الشرق والغرب فأقبلت جيوش الغرب بقضها وقضيضها وحدها وحديدها ألا يبقوا منكم من احد يعصيهم حتى اذا فغر الموت وأعجز الفوت أُرْعِشَت الأيدي واصطكت الارجل وأطَّت الأضلاع وارتجت الاسماع وشخصت العيون وانخزلت المتون وتحققت الظنون قلتم ما لنا ولجموع الغرب اذ احتشدوا فلا والله انعجز وقد اجترأوا ونجبن حيث اقدموا وتلك ارضنا قد ضجت بفتيان ابطال وكهول ازوال تزول الراسيات وما يزولوا ..... "

ثم اجمع امره وجمع جيشه فكان كنهر متدافع وحملاته أعاصير زوابع استدرجت الغرب لحرب استنزافية امتدت لكل مدن الشمال فإذا بالجيش السابع الساعي لنصر سريع يغوص في حرب بلا نهاية وقبل ان ينقضي العام فاجأ العالم بانسحابه الى حدوده .. قيل ان مجلسهم قد نحى قيادات الجيش وآثرت القيادة الجديدة الانسحاب حتى تتهيأ لحرب جديدة .. وبات جدي في نظر الأمم هو سيد تلك الحرب إلا انه ورغم كل شيء لم يطمئن قلبه لهذا النصر السريع , ولم يكن بد من اعلانه وضم الشمال الى المركز تحت اسم اتحاد الأصل , ولم يكد النصر يتم حتى أُسِرَ لنا عن مقتل والدك فلم يُذكر ضمن اخبار الحرب ولا اعلن عن السبب وبتكتم قام الجيش بنقل جسمانه الذي لم يره احد الى المركز حيث دُفن ولا ندري أين .

لم انس تلك الليلة ما حييت كانت مرتي الاولى والاخيرة التي أرى فيها جدِّي , استيقظت بعد منتصف الليل .. ارتجف من البرد وابدل ملابسي .. تتثاقل عيناي وانا اتبع امي للسيارة .. تقود بسرعة على غير عادتها .. اسألها بقلق اين سنذهب .. تصمت .. اعاود السؤال فتجيب بصوت متقطع الى اسماء زوجة عمك .. مات عمك هذا الصباح , لم اكن قد التقيته في حياتي قط لكنني بكيت .. وفي البيت كانت امك تجلس شاحبه محمرة عيناها تتلقى التعازي صامتة , عجزت عن الكلام وانا اقف امامها باكية .. نظرت لي وتمسكت بملابسي وارتفع صوتها بالبكاء .. شعرت كم هي وحيدة , لم ارى اي واحدة تحتضنها او تواسيها , مرت ساعة وكانت نساء القبيلة ينصرفن الواحدة تتبعها الأخرى , كررت أمي عزاءها ونادتني .. قلت لها سأبقى معها .. نظرت نحوي بغضب لكني لم اتحرك , احمر وجهها ولولا حرجها لجرتني جرًا إلى الخارج .. وأخيرًا قالت مرغمة .. لا بأس وخرجت , وحين انصرفن جميعًا سقطت أمك على الارض تبكي .. كنت اسمعها تردد انتظرت لتسع سنوات .. شعرت نحوها بشفقه انفطر لها قلبي .. اربت على ظهرها ولا اجد ما اواسيها به .. احضرت لها كوبًا من الماء .. مرت ساعة وانا حائره ثم سمعت طرقات على الباب .. فتحته .. رأيت شيخًا محاطًا بالرجال .. نظر نحوي لبرهة يتفحصني ألقى السلام وعبر للداخل بمفرده .. رأيت أمك تنظر له بحده وانقطع عنها البكاء .. عزاها وجلس لم استطع ان ابعد نظري عنه .. قالت امك .. جدُّكِ .. صدمت اذ تبدل مظهره عما اعتدته في صوره مع ابي .. شعرت بالرهبة فلم اتحرك وكنت قبلها اتخيل نفسي اذا التقيته اركض نحوه واعانقه , ابتسم لي إلا عيناه كانتا تفيضان حزنًا .. قال انت هَيَا اقتربي .. قبل رأسي واجلسني لجواره , هم بقول شيء إلا ان أمُّك قالت بعناد .. سأذهب اليهم سأخذه واذهب .. ماجد هو ابني سيقبلونه بينهم .. هكذا سأحميه .. نظر لها جدي بغضب وقال منهيًا النقاش بكلمة واحدة .. لا .. قالت باكية ماذا افعل .. انا خائفة لا اريد ان افقده .. بدت الحيرة على جدي وبعد صمت قال لها .. اصبري .. لم أفهم ما دار بينهما لكن ربما لا أحد غيرهما في ذلك الوقت قد استشعر الخطر الآتي إلينا .. قال جدِّي أين ماجد .. أجابت خرج مع عمه .. لم يعلق جدي بل نهض مغادرًا , وقبل ان يخرج وجدت نفسي اركض نحوه واعانقه .. مسح على رأسي وارتجفت انفاسه ثم سمعته يقول بهدوء .. لازالت الحياة تدخر لي ما يدهشني .. من بين كل الناس ابنة نوره هي التي .. قطع كلامه وابتسم لي ابتسامة ممتنة وقال اعتني بنفسك وبعمتك .. غادرنا وللحظات وقفت أراقبه والعربة تفارقنا الى حيث تنتهي به الحياة .. لخطب جليل وحزن طويل ..

وبانقضاء الشهر الاول على تأسيس اتحاد الأصل نجح جدي اخيرا فيما كان يرمي اليه بتحييد الشرق عن الحرب اذ ابرم عهدًا بين اتحادي الاصل والشرق يقضي بوقف الحرب بينهما مدة عقد كامل اشتُرطَ فيه انسحاب المركز من كامل اراضي الشرق على الساحل اضافة الى الجزر وألا يعين الشرق اعداء الأصل اذا ما اندلعت حرب جديدة .. ولم يعكر صفو هذا الحدث إلا ما كان من حركات التمرد الساحلية اذ رأت ان جدي بذلك العهد قد تخلى عنهم ونقض اتفاقه ليتركهم بلا حماية تحت ضربات الشرق فكان انتقامهم ان غدروا بكتائب لياح وأبادوا من قدروا عليه منهم فلم يرجع من تلك الكتائب الى المركز سالمًا الا نصفهم او اقل .. عادوا .. وقد اضمروا لجدي في قلوبهم حقدًا لم يمح قط .

تلا ذلك العام عام من السلام فيه تبددت غيوم الحرب وألغي حظر التجوال وبتنا نرى أبي اسبوعيًا , أما أنت فقد تبدلت أحوالك وانعزلت بنفسك بعيدًا عن البيت وحتى المدرسة انقطعت عنها , كنت احيانا ارى امك تمر من امام المدرسة تسأل عنك وتشكو لي حالك كيف تغادر البيت لأيام ثم ترجع غير مبال بها , تسألني ان كنت اعرف شيئًا ثم تنصرف خائبة , في احد الايام دعتني لبيتها وبتردد ذهبت معها , فكرت لو سألتني أمي سأكذب فان افتضحت قلت جدي اوصاني بها , في الطريق كانت شاردة ولم تتلاشى نظرتها الحزينة منذ تلك الليلة .. احست بي انظر اليها فقالت بينما تبتسم كيف تمضين يومك في البيت .. قلت اذا كان أبي حاضرًا فأنا ادرس قليلا ثم امضي بقية اليوم استمع لقصصه عن الحرب .. كلها مرعبة لكن استمتع وانا اتخيلها , سألتني عن الايام العادية فقلت بملل أدرس ثم ادرس ثم اتظاهر بالدراسة وانام , قالت ضاحكة كل أم ستتمنى طفلة مثلك أما أنا فكنت لا اطيق البيت اعتدت كل ليلة التسلسل الى منطقة خالية بالقرب منه .. لا شيء كان يبهجني كاشعال مصباح والجلوس على على جزوع النخل المتساقطة حيث أحمل كتبي وأقرأ .. لسبب ما كان قلبي معلقا بالاماكن المقفرة ليلا .. اتذكر تعنيف أمي وصراخها ووصفي بالمجنونة .. ربما طفولتي كلها كانت صراعًا بين محاولتي للهرب ومحاولات أمي لمنعي .. كان ابي يغضب وأحيانا يضحك مني قائلا سيأتي يوم وتهجرينا للأبد .. مرت الاعوام وتحققت رؤيته لكنه مات قبل أن يشهدها , صمتت قليلا قبل ان تقول لعل ما يفعله ماجد الآن هي عقوبتي .. لذا يتمزق قلبي ولا اجرؤ على منعه .

في الصباح زرت أختي مع أمي وتحينت لحظة غابت فيها أمي عنَّا فحدثتها عن زياراتي لأمك كنت اخبرها بحماسة كم هي لطيفة نقيض ما تصورناه عنها , قالت مفكرة ربما كنت على حق اذكر في صغري سمعت ان جدي كان مؤيدًا لزواجها من عمي حتى انهما تزوجا في الشمال بعيدًا عن الانظار , ثم اوصتني ان احذر حتى لا تنتبه أمي ..

شجعتني كلمات نجد فأصبحت اطيل من زياراتي لها وذات ليلة دعتني لزيارة مكان تحبه .. وعلى اطراف المدينة اوقفت سيارتها وعبرنا لارض محاطة بالنخيل .. هيأت لنا جلسة صغيرة .. دعتني للجلوس واضاءت بعض الشموع .. غمرني السحر الآتي من الضوء المتوهج .. دائما ما كانت تدهشني بلمستها الراقية في كل ما تصنع .. اعدت لنا الشاي وقالت بحنين اعتدت المجيء هنا مع عمك .. اشارت لي ان انظر للسماء فلم ارى قبلها ولا بعدها قمرًا يلمع بهذا الجمال .. اهتز سعف النخيل بنسمة عابرة واضطرب ضوء الشموع قبل ان يسكن .. سمعتها تقول يومًا ما كنت اتخير ما بين حياتي المرسومة سلفًا ولحظة توهجت كلمعان هذا القمر .. ثم اذا اخترتها .. ثم اذا تصدعت فتهاوت فتبددت ففقدتها .. لم يبقى لي من الحياة إلا ذكرى .. هكذا اخترت حياتي ولست نادمة .. اضع كوب الشاي واسألها السؤال الذي طالما راودني .. اكان زواجك من عمي هو سبب .. قطعت كلامي اذ انتبهت لأي مدى كنت فظة .. ابتسمت ابتسامة حزينة وقالت سبب كراهيتهم لي .. لا بأس .. ثم قالت وهي تتنهد .. من البداية انا من القبيلة الثانية القبيلة التي امتلكت كل شيء عدا السلطة , فما كانت القبائل لترضى عن الاولى بديلا وكيف لا وهي التي لم تنحرف عن المركز يومًا بل من قبل ان يدون التاريخ , كم حاولت قبيلتنا عبر الازمان كسر هيمنتها وكم قامت من حروب وانقسامات إلا ان المركز أبى دومًا ان يخضع إلا للأولى .. ما بين نظرتكم المتعالية وأعيننا الجشعة كما نصفكم وتصفونا لم يتبدد قط مقتنا المتبادل .. جمعنا الاموال وجمعتم مفاتيح السلطة وتنافسنا على القبائل في تحالفات سرية وعلانية , لم اكن اول من تزوجت من القبيلة الاولى ولن اكون الاخيرة إلا ان عمي كانت لديه خططه لزواجي انا واخوتي بعد موت أبي , لكن حتى لو لم ألتقي بعمك ما كنت لاترك حياتي بين يديه , ربما كنت لأهرب إلى الشمال .. من يدري , كنت متشوقة لأعرف كيف تزوجت من عمي ولما تكرهها أمي لكنها لم تكمل , نظرت لها بفضول إلا أنها نهضت قائلة تأخر الوقت , ولم افهم وقتها انها كانت تمنع نفسها من جرح مشاعري ان تحدثت عن أمي ..


9FC85Iz.jpg


في تلك الليلة حلمت بك كنت على تلة تشرف على بحيرة محاطًا بالضباب وبجانبك تقف معلمتك التي تبدت من خلف الضباب فشعرت بالرعب من هيئتها التي لا اذكرها .. حاولت الاقتراب الا ان شيئًا ما كان يدفعني .. قاومت وانا احاول الدنو وفي لحظة انقشع الضباب وتردد صوتك في رأسي .. كنت تنظر اليها وتقول .. انا اخترت النهاية , استيقظت وقلبي يرتجف وفي الصباح .. أنت اختفيت .


مرت الاشهر عصيبة على أمك وانهارت بينما تفتش عنك بيأس , اخفقت الشرطة ولم تعثر على دليل يوصلها اليك او الى معلمتك الغامضة والتى لم يعد لها وجود بعد اختفائك , كان عنوانها المسجل لدى المدرسة كذبة وهويتها زائفة مما جعل الشرطة تشتبه بتورطها فاستمرت بالتحري عنها , وعجزت امك عن الوصول لجدي اذ كانت الحرب مع الغرب قد شمرت عن ساقها وارتدت الينا خضراء جزعة وما ان التقى الجمعان حتى نعي إلينا أبي , وكانت الصدمة بمقتله اكبر من ان تتجاوزها الجبهة الغربية اذ سرعان ما تقدم الغرب مخترقين خط المفترق وانهارات دفاعاتنا الجوية وللمرة الاولى شهدنا الغارات في عمق المركز , وكانت الحرب شمالا اعنف من ان تترك لجدي فرصة لدعم المحور الغربي , وعظمت على امي مصيبتها ولم يتحمل قلبها الصدمة واعتلت عضلتها القلبية وفي ذات اليوم فارقت الحياة على اثر نوبتها , كنت في الثالثة عشر يومها فارتعت وذهلت عما حاولي عاجزة عن النطق أو البكاء , تعانقي اختي وتبكي .. خالاتي .. عماتي .. بنات عمي واعمامي .. الجميع يواسينا ويبكي .. كنت ارى اختي تحاول كبت مشاعرها رغم دموعها المنهمرة .. اعرف كم تحب ابي وتفتقده لكنها تتماسك لأجلي .. وصلت أمك عند منتصف الليل .. قدمت العزاء متجاهلة نظرات عماتي وهمسات خالاتي .. مشت بهدوء صوب اختي وعانقتها .. نظرت لي لحظة ثم امسكت بيدي وصعدت بي الى الاعلى .. جلست على سريري وضمتني اليها واخذت تحثني على البكاء .. تمسح على ظهري وتقول لا بأس .. لا تجزعي .. بدأت أبكي وتعالى صوت بكائي .. ظللت ابكي حتى وهن جسدي .. اسندت رأسي الى الوسادة فتركت نفسي اغفو .. شعرت بها تبتعد فأمسكت بطرف ثوبها أرجوها ان لا تذهب , قالت بصوت خفيض .. لابد ان عماتك وخالاتك لم يأكلن سأعد لكم الطعام .. هممت ان اساعدها لكني سقطت في نوم عميق .
في الليلة التالية حضر عمي الاكبر .. أمرني وأختي أن نتجهز ليأخذنا إلى بيته , قالت أمك معترضة لا لن تذهبا انا من ستعتني بهما , عرفت الغضب على وجه عمي وشعرت بالخوف من نظرته , قال مستنكرًا انتِ , تدخلت خالتي الكبرى وقالت يا لقلبك الطيب والله لا ارضى بما كانت تكرهه نوره , خفت ان تتمادى خالتي فقلت لكن امي تركتني أبيت عندها تلك الليلة ولم تغضب , علقت خالتي الصغرى بل كانت تغلي من الغيظ , شعرت ان عمتي تريد الكلام لكنها سكتت احتراما لعمي لكن امك عادت تقول بإصرار لن أترك هيا , استمرت خالتي الصغرى تعلق .. كما لم تتركي ماجد , شعرت ان امك كانت مستعدة فلم تهتز بل قالت ماجد هو ابني وسيعود , نظر لي عمي فلم أجرؤ على الكلام فقالت اختي عمي انا لا نية لي بالرحيل عن بيت أبي ولو كانت زوجة عمي معنا فلا داعي للقلق , اشارت لي عمتي فاقتربت منها سألتني بصوت منخفض أتحبين زوجة عمك فقلت نعم , ثم اقتربت من اذنها وقلت ما كنت ادخره في نفسي لموقف كهذا .. جدِّي اوصاني ان اعتني بها , ضحكت من بين دموعها وهي تعانقني وقالت انت التي بحاجة الى من يرعاها , ظل عمي صامتا ينظر الينا ثم قال موجهًا حديثه الى أمك .. لا بأس .. اعني الى حين .

لما انهار المفترق وانكشف المركز كان الغرب قد اتعظ من معاركه الماضية حين استدرجهم صالح في حرب طويلة الأمد داخل المدن الشمالية , فما كان منهم إلا أن اتجهوا شرقًا في مناورة أرادوا منها الالتفاف ومحاصرة الجيب , وقد هدفوا منها قطع طرق الامداد عن الشمال وعزله عن المركز فإن تم لهم حصاره فسقوطه دفعوا بما اسموه جيش الشمال الذي اعدوه من بقايا تحالفهم القديم الى الجيب وفتحوا جبهة جنوبية للضغط على صالح وظنوا حينها ان معركة الشمال قد حُسمت , ولات حين الذي يرجون وأنى لهم وجدي على ظهرها , فما ان اتخذوا طريقهم شرقًا حتى فُتحت عليهم ابواب الجحيم , كان كمينًا أُعده جدي على قرى الجبل المطلة على الجيب غربًا اوقفت اندفاعهم ومنحت اللواء السادس الفرصة لهجوم مضاد شق جيشهم وتركه منقسمًا بين حصارين اوله قرى الجبل واخره الجيب يشقه اللواء السادس الذي حمل عليهم حملة مزقتهم أيَّما تمزيق , كان نصرًا مهمًا على مرارته اذ اوقف انقضاض الغرب المندفع بزخم انتصاراته عند المفترق إلا ان ما فقدناه من مدرعات ودبابات في تلك المعركة لم نستطع تعويضه الى نهاية الحرب .

وفي احدى الليالي تأخرت أمك لدى زيارتها المعتادة للبحث الجنائي , قالت اختي لا فائدة هو ليس طفلا تعرض للخطف , سألتها لما لا يعود .. كيف لا يبالي بأمه , قالت بهدوء تقاطعني يكفي لا تندفعي .. ألم يحدث من قبل ان تشردي بخيالك ولا تبالي بما حولك حتى ولو للحظات , نظرت لها بغير فهم فقالت ربما البعض يشرد بأفكاره حتى وكأنه في عالم غير الذي نعرفه , كانت عادتها ان تتكلم بغموض ثم لا تهتم بمن يسمعها فلم افهم ما كانت تقصده , ألقت بجسدها على السرير وقالت انها مرهقة , كنت انظر من النافذة انتظر أمك وانا افكر بما قالته نجد .. ثم سمعتها تقول .. كما قالت زوجة عمي هو ابنها وسيعود , لكن بعد ايام بدلت رأيها وقالت .. يجب ان نعثر على ماجد اخشى ان تنهار زوجة عمي , وكان اليوم نفسه الذي قالت فيه امك .. لم يبق امامي سوى حل اخير .. سأذهب الى عمي , لم افهم ساعتها ما حل بي , لكن اتدري حين ترتجف قلوبنا بغير باعث حين يغمرنا اليأس والهلع بغير داع .. أنتسآءل حينها عن أي طريق قد اتخذناه نحو قدرنا المحتوم .. لعلك لن تفهمني لكني في ذاك اليوم فقدت كلتاهما .

عندما اخبرت اختي عن معلمتك الغامضة تبدلت ملامحها وسكتت ساعة , قلت لا اظنك التقيتي بها .. تجاهلتني وقالت لا فائدة كل ما تحكينه لن يفيد لنسأل زوجة عمي , عندها تذكرت هاتفك وعزمت امري على فتحه , نهضت واحضرته ثم قدمته لها , نظرت لي فقلت قبل سنوات تركه معي .. اسفة لاني اخفيته خفت ان افشي اسراره ان فتحه احد , رددت من بعدي .. اسرار .. وضحكت , نظرت لها مندهشة .. قالت هل تعرفين ما يكتبه , اجبت أن لا , قالت لديه ذاكرة لا حدود لها فلا ينسى شيئًا قل او كثر , فان جلس بين جمع من الناس امكنه بعدها ان يصف هيئتهم مهما بلغت تفاصيلها من تعقيد وان يروي كل ما قالوا , وان قرأ كتابا لمرة اعاد سرده كمن امضى حياته في حفظه , كان يعجز عن النوم منذ طفولته عندما يبدأ عقله باسترجاع ما مر به في يومه فاصطحبته زوجة عمي لطبيب , ولم يجد الطبيب حيلة إلا ان نصحه بتدوين كل ما يتردد برأسه , فتحسنت حاله غير انه بات يتجنب كل ما حوله قدر استطاعته , شعرت بالدهشة وقلت تعرفين عنه الكثير , قالت كان مثيرًا للاهتمام منذ طفولته , امرتني ان اتركها وحدها .. ارادت التركيز وهي تبحث عن دليل في هاتفك .

كانت اختي عندما تنشغل تنسى ما حولها فلم ارد مقاطعتها ونمت على الاريكة , وعند منتصف الليل انتبهت علي أمك .. هزتني واصطحبتني للنوم معها , جافاني النعاس وكنت اتقلب حين سمعتها تقول سأذهب لبيت أبي في الصباح .. لم ارهم منذ زواجي بعمك لكن عليّ الذهاب , بدا على صوتها القلق وهي تسألني ان ارافقها , اجبت كنت سأرافقك حتى لو اردت الذهاب وحدك , كانت المرة الاولى التي شعرت بحاجتها إلي , وكنت افكر حين ارى الكراهية التي تحيط بها وهي بين قبيلتنا فإلى أي مدى ستكرهها قبيلتها التي هجرتها .. لكن النعاس غلبني وانا افكر .


IcKfypo.jpg

صحوت لأجدها بكامل زينتها ولم انتبه من قبل كم هي جميلة لا شك ان عمي كان ليتزوجها حتى لو كانت من قبيلة الشيطان , قالت احضرت لك ملابس جديدة .. شعرت بالقلق لكن بدلت ملابسي وخرجنا , وصلنا عصرًا وتوقفنا امام بوابة حديدية حتى سُمح لنا بالدخول ..

عبرنا الى حديقة لم ارى اجمل منها محاطة بقصور بيضاء تلمع تحت اشعة الشمس .. قلت متعجبة من هنا كنت تهربين .. كيف .. ضحكت وقالت للقصر مدخل سري لم يعرفه سواي وأبي , اوقفت السيارة ودخلنا احد القصور , ويعجز لساني عن وصف هذا الجو الخانق الذي احسست به .. كان اخوالك وخالتك ينظرون لنا بأعين امتلأت بغضًا , وقفت حائرة فأمسكت أمك بيدي ومشت بي مرفوعة الرأس حتى جلسنا أمام جدتك ويالها من عجوز قد اجتمع في عينيها غضب العالمين , قالت خالتك .. عادت ابنتك العاقة , ظلت امك وجدتك ينظر كل منهما للآخر حتى قالت جدتك .. تذكرت اخيرًا ان لك امًا , قالت امك بتحد .. جئت لأرى عمي , ثارت جدتك وصاحت .. ملعونة انت ملعونة , ارتجفت رعبًا من صوتها واقترب خالك الصغير من جدتك وحاول تهدئتها .. لكنها استمرت تصيح .. لو كان ابوك حيًا .. قاطعتها امك بحدة لو كان ابي حيًا لما سمح لهذا الرجل بأن يقرر حياتي .. انتِ سمحت له .. أنت من تخلت عني , صرخت خالتك .. بدل ان تجثي على ركبتيك وتقبلي قدمها .. وقفت امك ورفعت صوتها قائلة أين عمي .. أين هو , حاول خالك الصغير تسكين الحدة المتبادلة واخذ يقول اهدأوا لنسمعها لاجدوى من استرجاع ما مضى , اقتربت مني ابنة خالتك ربما كانت بعمري او اصغر بدت كالدجاجة بمعطفها الريشي ورأسها الصغير .. همست لي بصوتها الابله , تعرفين لماذا تكرهها امي .. لأنها عاهرة , لا ادري وقتها كيف منعت نفسي من صفعها , نظرت لها باشمئزاز وبعد لحظة قلت .. هذا دائما رأي الاخت القبيحة عن اختها الأجمل منها .. ثم ابتعدت عنها امنع نفسي من شتمها , اندفعت نحوي وهمت بصفعي الا ان امك جذبتها من شعرها وصرخت بها .. بنت تأدبي , على صوت خالتك تصيح ابعدي يدك القذرة عن ابنتي , جرها خالك من يدها وقال .. شهد اصعدي لغرفتك , سمعت خالك الكبير يتوعد امك .. صبرًا .. قريبًا ستأتي إلينا زاحفة وتتوسلي .. قاطعته امك .. لم تتغير ابدًا انت وتهديداتك الفارغة .. ألازلت عاجزًا لا تملك إلا أن تتوعد الناس بعمك , صرخ بها اخرسي , امسك خالك الصغير بيد امك وقال .. يكفي يكفي .. تعالي معي سأخذك لعمي , نظرت لي ان أبقى وذهبت مع خالك , راقبتها بعيني حتى ابتعدت , استمروا يتحدثون عنها بسوء ويتساءلون عني لكنهم لم يسألوني من أنا .. كنت غاضبة وعاجزة عن قول شيء , شعرت بجدتك تنظرالي فبادلتها النظر .. استمرت تحدق ولم ترفع نظرها عني , تذكرت حين روت لي امك كيف غضبت منها جدتك ذات يوم واخذت تصفعها بكلتا يديها , عاد خالك وجلس الى جواري وهو يقول مازحًا تبدين لطيفة بتلك النظرة , التفت نحوه فقال بصوت منخفض شكرا لك .. اختي تغار منها لان ابي كان يفضلها , سمعنا جلبة تصدر من الممر .. تعالى صوت امك وصراخ رجل عجوز , كنت اسمعه يقول اخرجوها لا تروني وجهها واسمعها تقول اعرف ما تدبره ستنفضح مؤامراتك .. ركض خالك وتبعته , رأيت خادمتان تخرجان امك من غرفة عمها , اخذها خالك واجلسها وهو يقول اهدئي اهدئي اخبريني ما المشكلة .. سعلت امك ورأيت دما على معصمها , اخذت منيلا ومسحت الدم وانا اسألها لماذا جرحت , سعلت من جديد وهي تقول لا بأس .. احضرت لها الخادمة كوبا من الماء تناولت منه رشفة وخالك يسألها ماذا قلتي له , برز عمها من الممر وعاد يصرخ اخرجوها .. مروا الحرس ان يمنعها اذا عادت .. وقفت امك بعصبية وقالت ما اوقحك تطردني من بيت أبي ثم غادرت , تبعتها وانا انظر لعمها كان قصيرًا قبيحًا له اعين جاحظة منفرة , التقت عينانا وهو يلتفت عائدا فلم يبغض قلبي شيئًا كبغضي له تلك اللحظة ..

في الخارج لحق بي خالك ناولني ظرفًا وقال اعطه لأسماء .. لا اعرف شيئا عن حالها بعد موت زوجها , في طريق العودة سألتها ماذا حدث فقالت لا شيء لا تهتمي .. اخبرتها عن الظرف فقالت ان افتحه , فتحت ثم نظرت اليه وقلت فيه مال .. انها جديدة كادت تجرحني .. اغلقته ثم سألتها هل نرجع ونرميه في وجهه , ضحكت وقالت لا بأس هو لا يعرف طريقة اخرى للتعبير عن مشاعره , عدت انظر للمال وقلت لديه الكثير من المشاعر , ابتسمت بحزن ولم تتكلم طوال الطريق , وكنت مكتئبة لأجلها وحزينة اذ لا اجد ما أخفف به عنها , لم ارى في حياتي من هو بلطفها وطيبتها ورغم ذلك تجافيها عائلتي وتكرهها عائلتها وحتى انت ابنها الوحيد تركتها وهي اشد ما كانت تحتاجك بعد موت عمي , بدت متعبة وتسعل فقلت لها لنتوقف لتستريحي قليلا .. قالت لا بأس أنا بخير , عدنا للبيت ولم تكن بخير .. استلقت على الفراش دون ان تبدل ملابسها .. قالت انها تشعر بالصداع , وكانت اختي قد حضَّرت الطعام لكنها رفضت الاكل وقالت سأنام قليلا , تركناها تنام بهدوء وسألتني نجد عما حدث , فتساءلت لكن قبل كل شيء ما الذي دفعها للذهاب , منعني القلق على امك من الاكل فقالت نجد .. لا تقلقي انا على وشك معرفة اين تقيم تلك المعلمة , كتب ماجد وصفًا للاماكن التي صادفها فيها .. في الأصل ابحث عن المنازل التي لم يسجلها اصحابها كعناوين لهم , ثم ارسلها لابن عمي واخرج معه برفقة معارفه من الشرطة نفتش حولها , لكن اختي تأخرت وتدهورت صحتها , لأيام كانت مرهقة ثم ارتفعت حرارتها .. ولازمت الفراش وكنت لا افارقها لحظة .. اخاف ان احتاجت لشيء فتغيبت عن المدرسة رغم اعتراضها وغضبها عليّ , ثم احضرت اختي طبيبة فحصتها وبدت حائرة من حمتها .. وصفت بعض الادوية وطلبت منها زيارة المشفى واجراء التحاليل إلا أن حالتها اخذت في التحسن فأهملت الذهاب الى المستشفى .

وكان ان اتت الأيام بالخطب الفادح والحدث الجليل اذ اختفى جدي وشاع بين الناس موته فاضطربت الاوضاع وأحكم الغرب حصار الشمال وقطع طرق الامداد عن الجيب بعد ان عزله عن المركز , وكأمر دبر بليل نقض الشرق عهده وشن هجوما على الشمال اتبعه بهجوم بحري على شرق المركز , وتمردت كتائب لياح واعلنت العصيان ودعت الجيش اليها وحرضته بدعم من القبيلة الثانية على اغتيال قادته الموالين لجدي , وانعقد المجلس في غياب جدي وصدر قرار بسحب الجيش من الشمال , ولم يكن الانسحاب ممكنًا إلا ان القرار اريد منه هدم الأصل وبث اليأس على الجبهات الشمالية , وصدر بيان عن نائب جدي على المركز طاعنًا بقرار المجلس الذي انعقد دون علمه , ومن الشمال بث رئيس الاركان خطابًا عنف فيه اشباه الرجال من المجلس وأقسم ان ما يلاقيه منهم اشد عليه من غدر الشرق , أما صالح فانخزل عنه جنده فأهل الشمال يقولون ما لنا ولمغامرات المركز واهل المركز يقولون ما لنا ولتحرير الشمال , وكم عانى رئيس الاركان وصالح في رْأبِ الصَّدْعُ الذي خلفه جدي .

أرقت تلك الليلة على صوت صالح وكان رئيس الاركان قد بث نداءاته عبر المركز وكانت امك تستمع ولا أدري أكانت تبكي , إلا أنها قد خفضت الصوت قدر استطاعتها , وكم اشفقت عليه وهو ينادي إليَّ أيها الناس .. يا جند الأصل أبناء الحروب أصحاب الغارات حتوف الاقران إلي فإِني في الحرب العوان موكل بِإقدام نفس ما أُريد بقاءها , لكن .. دون جدي كان الأصل يتهاوى , خرجت لأشرب وكانت اختي جالسة ممسكة بهاتف غريب المظهر فلما رأتني فزعت .. سألتها عما بها فقالت لا شيء ودخلت غرفتها , لم تخبرني ليلتها انها مع ابن عمي قد عثرا على بيت معلمتك حيث وجدوها منتحرة واحتفظت هي بهاتفها ، ومن حينها لم تعد هي أختي التي عرفتها , وكان المركز يعاني شقاقًا بين رئيس الاركان وسيد القبيلة الثانية وفي غياب جدي انحازت الكثرة من القبائل الى عم والدتك الذي جهر اخيرًا بمعارضته للحرب وعمل على بسط نفوذه على ما وسعه من العاصمة وحاول منع الامدادات عن جبهات القتال الا انه كان يومها اضعف من ان يعرقل الحرب ولم يكن مفر من الانقسام فأضحت الاشتباكات الداخلية بين الجيش عادة يومية تشتد حدتها وتتسع دائرتها شيئًا فشيئا .

كنت على الاريكة بين النوم واليقظة احاول ان اغفو فيتناهي لمسامعي صوت الغارات .. افتح عيناي متوترة لا ادري لما يخفق قلبي .. افكر بجدي كيف اختفى ومن قبله انت ومن قبلكما عمي .. اختي التي حملت عبئًا لا أفهمه وذهلت عني بغير سبب اعرفه , انتبه ان أمك ليست في البيت من باب حجرتها نصف المفتوح , افتش عنها فلا اجدها , ابدل ملابسي واخرج فيمنعني الحارس الذي أرسله عمي قبل أيام , أسأله عن زوجة عمي فيطلب مني ان انتظرها في الاعلى , عدت للداخل يائسة فلم ألبث إلا قدر تحولي .. عدت إليه مسرعة ارجوه ان يأخذني إليها , اندهش مني ثم ابى ثم استرجع كيف بدا عليها التعب وهي تمشي الى سيارتها فأذعن لي ..

وجهته الى حيث دفعني ظني الى تلك الارض المحاطة بالنخيل .. هناك كانت جالسة وقد اضاءت الشموع كعادتها , تركته في السيارة وتوجهت اليها , كانت شاردة فلما رأتني لم تبتسم لي كعهدي بها , نظرت لعينيها المرهقتان وتبينت الألم في ملامحها , وددت لو أسألها وأعاتبها إلا أن شيئًا ما حملني على الجلوس صامتة , قالت اردت لصالح ان يدفن هنا .. لولا ان الحرب كانت اقوى من ارادتي , رددت بغير فهم .. صالح ؟ .. لاشك انها تهذي .. صمتت لحظة قبل ان تقول ان حدث لي شيء .. لم اطق ان تكمل فقلت .. الجو بارد لنعد , اشارت لي ان اجلس وسكتت قليلا ثم قالت بحنين اشتقت لماجد , كأنها لم تعد تبالي بي .. اختلطت علي المشاعر فسألتها مرتبكة هل اعد لك الشاي .. انت لم تسمحي لي من قبل , تمهلت بتحضيره وحاولت ان انسى احباطي , سمعتها تقول بيأس ..كنا وَما يُخشى تَفَرُّقُنا فَاليَومَ نَحنُ وَما يُرجى تَلاقينا , عرفت ان كل ما سأقوله سيبدو سخيفًا فناولتها كوب الشاي دون ان اتكلم , ارعدت السماء بزحف الغارات من فوقنا , قالت لا أحد آمن بجدك كما فعلت , لا احد منحه ما منحته ، ولم يحرم أحدًا كما حرمني , ولم يخذل أحدًا كما خذلني , تفلتت منها ضحكة ساخرة وهي تكمل .. أَمَا لو علم الناس لأي غاية أضرمها جدك , اخذت تسعل وتوقفت عن الكلام .. عبرت من فوقنا طائرة حربية .. صببت لها كوبًا من الماء .. , رشفت منه وقالت .. هذا الذي يسعى اليه جدك دونه بحر من الدماء وها قد غشينا الموت بسحبه ولا اظنه يرضى حتى يفرغ علينا البلايا تتبعها المنايا لكن .. انا ما عدت احتمل .. سقط من يدها الكوب وانهارت امامي .
 

Sam.

fire walk with me
في المشفى وضعت في غرفة العناية ومنعت عنها الزيارة , قال الطبيب لاختي انهم يشتبهون بتسممها , ولأيام تغيبت عن المدرسة ولازمت غرفة الانتظار لا املك سوى البكاء والدعاء , وفي ليلتها الاخيرة سُمح لها برؤيتها , كنت مرتعبة اتمنى لو كانت اختي معي .. تبعت الممرضة وقدماي عاجزتان عن حملي .. أسألها بيأس هل هي بخير .. هل تحسنت فلا تجبني , عبرت للغرفة الباردة وتهاوى قلبي وانا اطالع جسدها الواهن .. كم نحلت وضعفت حتى عرفت الموت على وجهها , اندفعت اليها ابكي ولا ادري ما اقول وقد بح صوتي وتقطعت كلماتي , مسحت على رأسي تقول بصوتها الضعيف .. لا تحزني انا بخير .. لا بأس لا بأس , رفعت رأسي وقلت بصوتي المرتجف .. لن اعود من دونك .. مرت لحظات من الصمت, قالت .. كان ماجد يصفك فيقولُ مندَهشًا .. لَمْ أرى كعينيها ، متى كان ماجد مندهشًا .. لا .. ليس أنتِ , وضعت يدها على يدي وقالتْ عَيناكِ صَادقتانْ .. أخشى عليكِ أن ... , سمِعتُ خطواتٍ تقتَرب .. نظرت فرأيتك عبر الاضاءة الخافتة تعبر الى الغرفة , وقفت وقد منعتني الصدمة من الكلام , وأعجز عن وصف تلك اللحظات جلست في ركن الغرفة أراقب وجهها وقد أضاء بابتسامتها , لم اسمع حديثها إليك لكن كنت أبكي من السعادة وقد راودني أمل ما أسرع أن تهاوى ويدها تسقط بغير حراك .. وقفتَ كمن مسته صاعقه ولعلك ادركت أي جرم اقترفت , أما انا فسقطت على الارض باكية ولم أعي بما حولي .


B4WKIX7.jpg


لما اشتد حصار الشمال وعجز رئيس الاركان عن استعادة طرق الامداد إلى الجيب لم يبق ما يربطه بالمركز الا الطرق الوعرة المحاذية لقرى الجبل وما كانت لتغني عن الشمال وقد أحيل غربه لقرى محاصرة يمزقها العدو يومًا بعد يوم حتى فقدت كل طريق يربطها وباتت جزرًا منعزلة , وكان الظن بالشمال ان يشهد سقوطًا سريعًا يعين القبيلة الثانية ومن حالفها على ازاحة رئيس الاركان ويخلو لها المركز إلا أن صالحًا كان قد عزم على قتال لا ينزع عنه حتى يشرب الدم دمًا ويأكل اللحم لحمًا ويقرع العظم عظمًا فيبيد أو يباد , ولم تتوقف حملاته بين كر وفر وما ترك قرية او مدينة إلا وقد أحيلت رمادًا فكان عدوه لا يحظ بنصر إلا وقد أنهكه نصره كهزيمته , وقدرت سنوات لسقوط الشمال لكن بنظرة مغايرة اتساءل ما كانت غايته من اطالة حرب يائسة وهل افترقت ام تلاقت وغاية جدي الذي غاب عنا ذكره تلك السنوات .

قلت لعمتي لن يتغير رأيي ..لن ألتحق بالثانوية , حاولت عمتي خلال اشهر الصيف مرات ومرات حتى تثنيني عن قراري دون جدوى , في هذا العام زار عمي أحد كبار التجار من القبيلة الاولى , كان يشكو له ما يلاقونه من كتائب لياح وقطعهم للطرق والسطو على تجارتهم , ويسأله خطة لتأمين الطرق , واستقبلت عمتي زوجته وابنته التي تصغرني بخمس سنوات فأمضوا معنا أيامًا قبل عودتهم إلى الجنوب , وكم كانت ابنتها مزعجة .. تستمع لعمتي توبخني على قراري فتلاحقني في كل مكان وتسأل بلهجتها الغريبة لن تذهبي للثانوية .. حقًا لن تذهبي .. مستحيل انت من العاصمة , قلت يحدث أن تلتقي أحيانًا بمتخلفة من العاصمة , قالت لكن اختك في الجامعة , قلت لم تعد جامعات , تذهب اختي لتسب من يطالبون بعزل رئيس الاركان وتطالب هي وجماعتها بحل المجلس , لا اطيق كل ما يحدث , افضل لو أبقى بعيدة عن كل شيء , قالت مندهشة انت مثل ناصر , سألتها من هو , قالت زوجي , قلت متزوجة وانت في العاشرة , قالت بحرج أعني في المستقبل .. سأذهب لكلية الطب كما ذهب .. وأدخن كما يدخن .. ثم أتزوجه , قلت أضايقها .. هذا بعيد لن ينتظرك , قالت بثقة .. بلى لن تقبل به غيري , قلت صادقة .. اذا لا ترضاه أمك , فاجأتني بقولها .. أنا أكرهها .. سأهرب من البيت بعد تخرجي , انتبهت ساعتها كم كانت تشبه أمك .. ولعلها اتت من ذات العالم الذي جاءت منه , ولن تندهش بعدها لو علمت كيف تركت لها هاتفك , قالت ليس لدي هاتف امي تمنعني لكن انت لديك اخر قديم , فقلت لا بأس احتفظي به لا اريده .. يذكرني بقريب أكرهه .



0ycyUIX.jpg

وكنت أمضي أيامي وحيدة لا شيء أترقبه .. اساعد عمتي حين تطبخ .. اساعدها حين تنظف .. اساعدها حين تتسوق .. أمرضها حين تمرض , ثم اكرر ذات الشيء مع زوجة عمي , يثنون علي ويتحدثون عن طيبة قلبي ومستقبلي المدهش كربة بيت ستعيد امجاد ربات الحجال , كنت احيانا اراك في بيت عمي .. أنت وابن عمي عمر ونجد فكنت اتجنبكم وكم كنت اكره احاديثكم عن الحرب , اختي تتهم القبيلة الثانية بالخيانة وانها من دبرت لقتل أبي ومن قبلها مذبحة لياح على الساحل لشق الجيش وترى الحل في الاعتراف بموت جدي ووضع رئيس الاركان على رأس المجلس , فأغادر حتى لا اسمع المزيد ..

ذات ليلة استيقظت على ضجيج عمتي .. كانت تتصل على عمي وتصرخ قائلة .. افعل شيئًا .. نجد معهم .. انا واثقة .. لم تعد ليلة أمس ... , هرعت الى عمتي اسألها عن نجد أين هي .. ماذا حدث .. , قالت وهي ترتجف سيطر عمر ورفاقه من الجيش على مبنى الانتاج الاذاعي وجيش القبيلة الثانية يحاصرهم مدعوما بكتائب لياح , ولم تمض لحظات حتى كان صوت اختي يدوي وهي تسب القبيلة الثانية ..

" يا أهل الخيانة والنفاق .. يا أهل الكيد والكذب .. يا أهل الغدر والخوَر والخذلان يا أهل السافلة بأي يوميكم تفخرون يوم اشتدت فخنتم ام يوم استصرخكم فأعرضتم فوالله ما أَمنكم جدي يومًا ولا ركن إليكم طرفة عين ووالله كان غيركم على قلتهم احب اليه منكم على كثرتكم اذ خاض بهم المعارك بعد الملاحم فهانت عليه فيها ما يهول بعزم لا يمين ورأي لا يفل ولا يفيل حتى اذا أحاطت به النوائب بعد القوارع وغيب عنا حاله أرجفتم به ولاكته ألسنتكم واستهزئ به سفهاؤكم واشرأبت أعناقكم فكلكم خلف قبيح الوجه واللسان من عميت بصيرته وورِمَ أنفُه إلا أن يكون له الأمرُ من دونه يعدكم ويمنيكم فانشغلتم بباطلكم عن عدوكم وقد استباح ارضكم شرقًا وشمالاً , فلا والله ما جرؤ الغرب فأعادها ولا الشرق اذا نكث إلا وقد اطمأن انكم أنصاره من بيننا ثم من بيننا لكم انصار فأف لكم وأف لهم , ولإن ذهب جدي فقد أبقى لكم من ليوقظنكم من سنة الغفلة ثم ليعقبنكم بعدها رقدة لا يهب راقدها ولا يستيقظ هاجدها .... "

خرجت أركض لا أبالي بصراخ عمتي .. ولا ادري اي طريق اسلك .. كنت هائمة .. أتساءل كم مرة فعلتها ولما تتمادى باستفزازهم .. كنت أرى عمي ينهى عمر عنهم ويذكره كيف ضعف امرنا عن المركز بتفرقنا على الجبهات , تتعالى اصوات الاشتباكات .. لا ادري متى اندلعت ولا اين انا .. احاول الابتعاد فيتعالى صوت الطلقات من حولي .. انعطف فأرى رجلا غارقًا في دماءه .. يرتاع قلبي واحاول الهرب .. ترتجف ساقاي واسقط .. اجلس مرتعبة وابكي .. يتعالى صوت الهاتف .. يكاد يتفلت من يدي وانا امسكه .. استمع لصوتك تسألني اين انا .. ابكي قائله لا ادري انا خائفة .. تقول ابقي حيث انت .. بعد دقائق تصل وقد حملتك احدى عربات الجيش , وأمام البيت يجرني عمي للداخل ويشتمني فلا اقوى على دفعه غير انني كنت اردد باكية .. دعني سأموت معها .. افقدته كلماتي صوابه وحبسني في غرفتي ثم منعت عني الاخبار ولم ادري وقتها ان خطاب نجد كان القشة التي قصمت ظهر البعير ولم يعد المركز يتسع إلا لنا أو لهم غير انني عانيت من صدمة لم تكن اقل هولا مما غُيّب عني اذ وقع بين يدي الهاتف الذي اخفته نجد ليلة انتحار معلمتك وقرأت .. نعم قرأت كل ما دونته ورأيت ما كانت تحفظه من تسجيلات قديمة , أنا لم أصدق حين سألك عمي اين اختفيت فأجبت انك لا تذكر واقنع الكبار انفسهم بتعرضك لحادث ما اضطربت معه ذاكرتك ليتجاوزوا الامر لكني عرفت ذلك اليوم كيف ان اختفاءك كان شيئا انت أردته .

في الليل تثقلني وحدتي .. يرتجف قلبي اذ يتعالى دَوِيّ الرصاص وصدى القصف فيمنعني عن النوم .. تذكرت الهاتف وعرفت أن اللحظة قد حانت .. ما الذي رأته أختي فجن جنونها لتتمنى موت جدي وتستميت محامية عنه .. ينبض قلبي فينتفض العالم من حولي وانا ابحث بين ملفات هاتفها ..


dRQMGlx.jpg


أقرأ " قبلني س بينهم .. تم الامر ببساطة مما جعلني اتساءل أيدري من أنا ؟ ...."
أقرأ " حتى نحن لا علم لنا إلام يهدف س بتنظيمه السري داخل الجيش ... "
أقرأ " كان س قد اقنع قادته بتشكيل لجنة للدراسات المستقبلية وسرعان ما هيمنت برامجها على اتحاد الجامعات .. "
أقرأ " لا أظنه يبحث عن مواهب يضمها اليه .. حدسي يخبرني ان س يسعى لشخص ما بعينه .. "
أقرأ " عندما سألته عن ابنه اخافتني نظرته ولم يجبني .. "
أقرأ " سألت الابن الاكبر ل س عن شقيقه فقال ارسله أرسل للدراسة في الشمال .... "
أقرأ " قُدِّمَت الى اللجنة آلاف الابحاث عن مستقبل المركز وأمضى س اسابيع يقلبها بمفرده .. ولم تنجح محاولاتي في اكتشاف ما كان يفتش عنه "
أقرأ " لما هي بالذات .. ما سرها وماذا يخفي س عنَّا .. "
اقرأ " لم اصدق ما قرأته في بحثها .. لا لم تكن تهذي .. أي جنون هذا .. خراب المركز .. أهي غاية س "
اقرأ " مرارًا وتكرارًا اطالع بحثها .. اجمع ما حدده س من كلماتها .. فقدنا وجهتنا يوم تمسكنا بالارض .. الطريق الذي انحرفنا عنه .. الوجهة التي تغافلنا عنها .. النهاية التي قصدناها ثم استدرنا لنبدأ من حيث توقفنا ونتوقف من حيث بدأنا فلا مخرج لنا من هذه الدائرة الا خراب تلك الارض .. ان طريقنا لا يمضي الا بعمار لوجهتنا يسبقه خراب حيث اقمنا "
أقرأ " تلك الطالبة أسماء .. لو كان الامر بيدي لقتلتها "
أقرأ " لا يجب ان تجتمع مع س ابدًا .. لماذا لا يفهمون تحذيري "
أقرأ " تقاريري لا صدى لها عندهم .. لكني سأتابع .."
أقرأ " ان اهتمام س بتلك المواقع الاثرية يقلقني .. "
أقرأ " تجرأت وعارضت قرار س بضمها إلينا .. في ذلك اليوم اصطحبني س الى حيث سجلات المجلس السرية .. "
أقرأ " قال س ان كنا نعي حقًا أين نحن فمهما تشابكت خيوط التاريخ فلن يخفى عنا خيط الحقيقة "
أقرأ " هالني ما كان قد غيب عنا .. جلست وحدي أبكي .. هل يمكن ان اثق ب س "
أقرأ " أرسلني س برفقة أسماء إلى الشمال .. إلام يرمي ؟"
أقرأ " ذلك القصر .. كان اشبه بمشفى .. عزلت عن أسماء "
أقرأ " كم شهرًا امضيته قبل ان يأمروني بالعودة الى المركز .. لا ادري .. غادرت وليس بذاكرتي سوى يوم وصولي ويوم مغادرتي "
أقرأ " لن اعرف ابدًا ما حل بي في ذلك القصر ولا لما بقيت اسماء لكن اعلم انه المكان الذي ضحى فيه س بابنه "
أقرأ " هذا التعاون العسكري بين المركز ودول الشمال اتاح ل س مد نفوذه الى الشمال .. "
أقرأ " مضت سنوات لم اسمع فيها عن أسماء .. كيف كانت ثقتها ب س حتى تتخلى عن كل ما يربطها بالمركز "
أقرأ " زرت الشمال سرًا .. لكن لا اثر لذلك القصر .. كيف تلاشى ! "
أقرأ " لازالوا يتجاهلون تقاريري .. أينما حضر س كانت اجهزة المراقبة التي ازرعها تضطرب .. لا شيء يدعم ما أقوله .. سيندمون على تجاهلي .. "
أقرأ " سيصل س الى غايته عندها سيتخلى عنَّا .. "
أقرأ " عادت أسماء حاملة طفلها الرضيع .. حفيد س ؟ .. أي هراء هذا "
اقرأ " دبرت حادثة قتلي .. لم يعد لي وجود .. ابعدوني عن س .. "
أقرأ " ابدوا اهتمامًا لتقاريري عن الطفل .. سمح لي ببداية جديدة .. أمروني بقتله ان كنت على صواب "
أقرأ " أكنت أنا من راهن س عليها "
أقرأ " لم اعد ادري ما اريده .. هل تم التخلي عني"
أقرأ " ذلك الطفل وتلك الرسائل التي تبعثها نظراته "
أقرأ " لا يمكنني ان اغفل عنه .. لكن ما الذي اسعى اليه عبره .. لا ادري .. لا ادري ما اريده .. "
أقرأ " أي نهاية تحملها عيناه .. اهذا ما أعده لنا س "
أقرأ " عرفت ما العزلة التي قد تروي ظمأه .. اعرف كم ترجوني عيناه ان اصطحبه الى هناك "
أقرأ " س اتوسل اليك .. حررني من هذا الكابوس .. "
أقرأ " في هذا العالم .. أنا .. أنا ... "



IWUyxsk.jpg


أطالع تسجيلا .. تهتز الصورة كانت اداة التسجيل مثبته على المقعد الخلفي .. بالكاد اتبين جدي على مقعد السائق وبجانبه زوجة عمي .. يسيرون على طريق غير ممهد .. يسألها جدي من هو .. تجيبه يدعى صالح .. فر مؤخرًا من سجن هجرة الشرقي .. اضطربت الصورة فبدا وكأن السيارة توقفت قبل ان يقول أيمكن ان نثق به .. قالت زوجة عمي ببرود سبق وان منحته ثقتي .......
أطالع تسجيلا .. يظهر جدي من الامام واقفًا قبالة شخص ما على مقعد متحرك .. الصورة مظلمة فلا اتبين تفاصيل المكان .. اسمع جدي يقول لا ألم في الحياة يعادل آلمي الآن إلا ان استسلامي لعاطفتي كأب من شأنه ان يجعل حياتي كلها بلا معنى .......
أطالع تسجيلا .. لا يبدو من الصورة إلا ظلالاً تموج كأنه البحر .. اسمع جدي يردد .. الارض التي لم تطأها قدم إنسان .. كان هذا الذي شعرتِ به في داخلك هو ما دفعك لهذا الطريق ..
أطالع تسجيلا .. على احدى الشرفات ارى وجه جدي بوضوح بجانبه زوجة عمي .. يقول جدي .. سيبقى المركز ما بقيت القبيلة الاولى ولذا علينا لا بل علي انا يقع هذا العبئ .. علي أن ......
لم اتمالك نفسي .. ألقيت بالهاتف أرضًا .. رفعت كرسيًا وحطمت النافذة وانا أصرخ بعمتي .. افتحي الباب .. اسرعت الى غرفتي وما ان فتحت الباب حتى دفعتها وانطلقت اركض خارج البيت اتوجه لبيت زوجة عمي .. اتذكر كلماتها الساخرة قبل موتها " أما لو علم الناس لأي غاية أضرمها جدك ... " استرجع كلمات أمها " ملعونة انت .. ملعونة .... " دموعها المنحدرة وهي تستمع لصالح ليلاً .. ماذا يحدث ما الذي فعله جدي .. لماذا .. لأي شيء قتل أبي .. وصلت لبيتها .. كسرت النافذة وعبرت .. جرحت يدي فلم ابالي كنت ابكي واردد ابي .. امي بينما افتش خزانتها بين ملابسها اوراق وصور وحلي وكومة من الرسائل .. بتردد فتحت احدى الرسائل جمعتها وكان قد كتب على اغلفة بعضها الى اسماء وبعضها الاخر الى صالح .. قمت بترتيبها من الاقدم الى الأحدث وقرأت :


2dQpzkr.jpg


" الى اسماء .. ارجو ان تكتبي إليّ .. ربما لست معتادة على كتابة الرسائل لكن على هذه الجزيرة ما من وسيلة اخرى .... "
" إلى صالح .. أرجوك انسى أمري .. "
" إلى أسماء .. لو ان لي قوة لما ترددت ثم لأرغمتك على ترك الجزيرة .. هذا العجوز سلام لا اثق بنواياه وإني لأعجب اشد العجب كيف سلمتي إليه أمرك .. "
" إلى صالح .. إليك عني فوالله لو قدر لحياتي ان تقربه شبرًا الى غايته لبذلتها له ثم توسلت إليه أن يقبلها "
" إلى أسماء .. اسفي عليك يذيب قلبي أأرحل ليقتلني همي ام ابقى لأموت كمدًا على حالك .. "
" إلى صالح .. ارحل "
" إلى أسماء .. اني والله قد عهدتك ذات عقل فتفكري بحالك فإن فكرة العاقل مرآته .. أما ترين ما فعل بالذي هو من دمه .. اما ترين حاله .. اما تعتبرين بمآله .. "
" إلى صالح .. إن كنت أنا من أعدها .. إن كنت أنا من إئتمنها .. فذاك الطفل .. هو غايتي "
" إلى أسماء .. فليكن .. لكن اعلمي ان حبي لك قد صيرني له عبدًا فما اشقاني بحبك .. "

سقطت على ركبتي ارتجف .. من هؤلاء ؟ أي شيطان هو جدي ؟ .. ازدادت رجفتي وشعرت بحلقي يؤلمني .. فكرت بأختي فاندفعت الى البث .. كان صوت سيد القبيلة الثانية يهدر بتلك البحة المقيتة " ...وإنَّا والله لا نسكت إلا مُعتبرين ولا ننطق إلا مُرشدين واني لكم ناصح شفيق فإنه لم يكن رجل قط أشأم علينا من سلام .. هذا الذي اخذته العزة بالاثم فاستبد بالرأي وأوردنا المهالك فأخزانا وأذلنا فإنَّا والله خالعوه ثم لا نبالي وانت يا بنت عظيم الاثم خزيت وخزي جدك وإني لك ولمن خلفك نذير أما والله لإن لم تنتهوا عن غيكم فلا عطفنا عليكم بقرابة ولنسومَّنكم خسفًا ثم لنسوقكم عسفًا ولتلقون منَّا أسودًا لا تُرهب وسيوفًا لا تكسر وسِهَامًا لا تخطئ وأبطالاً لا تقهر ويا أهل الأولى ومن حالفها سفهائكم سفهائكم فإن معي سوطًا نكّالاً وسيفًا وبَّالاً ويا كتائب ليّاح ان ها هنا نارًا ارموها أرم معكم ...... "
ولم تمض ساعة حتى امتلئ الفضاء بصوت أختي " يا ابن الأذلين أتتوعدنا ونحن بنو الحرب ما أنت ولو أجلبت بخيلك ورَجلك فضج ضجيجك ثم صوِّب ثم صعِّد ثم أرعد ثم أبرق ما بدا لك فوالله لا ترانا إلا حيث تكره ثم ما انت والخلع وذاك الأمر هيهات هيهات لست هناك ... " أغلقت اصرخ في نفسي لما تستميت دفاعًا عن جدي .. لماذا ... كنت محمومة .. انهرت .. فقدت وعيي .

بعد ساعات نشبت معركة عنيفة على ساحة مبنى الانتاج ودمر المبنى .. قيل انك وعمي نجحتم باخراج من بالمبنى سالمًا الا اختي التي تعرضت لطلقة قناص فماتت من فورها اما عمي فقد اصيبت رأسه ونقل الى المشفى .. وانتهى اليوم وقد اصطف غالبية المركز مع القبيلة الثانية , ومرت ليلة دفن اختي وانا كدمية يحركوها فلا أذكر إلا السواد الذي ارتداه فتيان القبيلة وقد اختاروك قائدا عليهم .. أكان لأنك من فك حصار المبنى بعد اصابة عمي او لقرابتك من اختي وقد اضحت رمزًا للثائرين من قبيلتنا ؟ لا أدري , لكن اين كان قلبك يومها .. رأيتك على قبر اختي تبك وانت الذي لم تفعل يوم قتلت امك مسمومة , أما انا فما الذي تبقى لي في الحياة .. لا شيء .
بعد عام ارغمت فيه على العلاج مما اعتقدتموه صدمة .. ظهر جدي من العدم .. استسلم للمجلس وحمل نفسه مسئولية الهزيمة .. طالب القبيلة بالكف عن الاقتتال والطاعة لمن يختاره المجلس رئيسًا حقًا للدماء , أي سخرية .. من استباح دمائنا في طقوسه ظهر من العدم ليعصمها .. ثم أي هراء .. نستسلم لمن فتحوا ارضنا للشرق والغرب يقتطعوا منها ما شاءوا .. فقدنا شرق المركز بساحله .. فقدنا مدن الغرب .. تنازلنا عن الشمال ولم نستبق الا مدن الوسط وجيب الشمال الذي منح لنا لتتباهى القبيلة الثانية بمكاسبها في معركة الاستسلام .. أما الحرب الثانية لمنشقي الجيش من قبيلتنا ممن اعادوا احياء جيش الاصل فلم تكن تعنيك .. كنت قد تركت الجامعة والتحقت بالكلية العسكرية وبت واحدًا منهم , اعدم جدي مع بدء الحرب الثانية واستُغلت لتصفية كبرى مدن المركز من أفراد قبيلتنا , وفي خضم هذا الجنون كان على احدهم ان يتلقى كراهيتي .


CHllr21.jpg

ارتديت السواد واخفيت وجهي .. حملت مسدس عمي وانطلقت ليلا الى قصر سيد القبيلة الثانية , وكما وصفت زوجة عمي طريقها الخاص الذي كانت تتسلل منه .. عبرت من خلاله الى الداخل .. كان هدفي ذلك العجوز البغيض .. مررت بقاعة الجلوس كانت الاضاءة باهته ولم اشعر بوجود احد ثم تجمدت مكاني اذ كانت العجوز أم اسماء تحدق بعيني .. ارتبكت ولم اكن انوي قتلها .. رفعت المسدس اهددها لتصمت لكنها لم تتكلم ظلت تنظر لي وكأن الزمن توقف في عينيها .. احسست وكأنها لم تعد تبالي .. اخفضت مسدسي فلم تتبدل هيئتها .. تركتها واندفعت الى مكتب زوجها , رأيته واحد حراسه الذي ما ان أبصر سلاحي حتى اسرعت يده الى مسدسه واطلق علي .. واطلقت انا .. صرخت وانا اراه يسقط ميتًا لكن الدماء كانت تغرق ملابسي وانهارت قدماي .. تحسست جسدي ابحث اين اصابني .. ارتعبت من الجرح على جانبي لكن تحاملت على نفسي اقف وانا اوجه سلاحي للعجوز البغيض يمنعني الألم من الكلام .. نظر لي وقد انكشف له وجهي فقال انت الطفلة التي كانت برفقة أسماء .. قلت انت بطريقة ما دسست لها السم .. قال بأسف .. ليس عن امري , قتلها من قدم لك ذلك الظرف , شهقت من الصدمة وانا اتذكر حواف الاوراق الحادة .. هذا الاخ اللطيف .. حتى انه لم يبالي وقتها بقتلي معها , قلت وانا اشعر بالدوار لكنك من امر باعدام جدي .. قال نعم كان واجبي اذ اقر بتهم المجلس , في داخلي كنت اعرف انه بشكل ما انتقم لنا نحن ابناء الاولى , قلت انت تآمرت مع الشرق والغرب .. خنت المركز .. طعنتنا من الخلف .. قتل ابي غدرًا منكم .. قال كانت حربا خاسرة ولم تكن من حيلة اخرى لمنع استباحة المركز .. أنا فقط عجلت بنهايتها , قلت لكني سأقتلك .. بقتلك سأسترجع هيبة قبيلتي .. لن يجرؤ المجلس على التمادي في بطشه وقد قُتِلَ رئيسه , قال وقد اغلق عينيه .. افعلي , فكرت بأبي .. تحركت شفتاي .. خذها وأنا ابنة الحرب .. اطلقت على قلبه .. سقط ارضًا وسقط المسدس من يدي كنت منهكة وقد اشتد بي النزيف .. جلست على مكتبه تأملت حالي وانا انتظر نهايتي وأخذت بالكتابة إليك .. أردت أن أثق بك .. أردتك ان تحمل عني كل شيء .. وأن .. أن .. لا .. ليس من شأني .... حين انهي رسالتي ستصلك رسالة على هاتفك أعلمك بما فعلت .. اوصيك بأن تكون اول ما يصل الي بعد موتي .. لن يكون باستطاعتك انقاذي .. اهدرتُ الكثير من الوقت .. لا اتمنى إلا أن تحملني لتلك الارض ذات النخيل حيث دفنت امك .. في ذلك المكان اريد ان ادفن معها ...


t1BwrmB.jpg



لعلي انتهيت .. لم اعد قادرة على الاحتفاظ بوعيي لكن .. أتدري صباح اليوم غفوت فرأيت نفسي على طريق يعبر البحر كانت أرضًا موحشًا تتلاطم على جانبيها الامواج وترعد السماء وتتصارع فيها الأعاصير من خلف الافق ثم ظهر جدي في نهاية الطريق فاكتسى كل ما حولي بالابيض .. وقفت مبهوته وكنت بعمري حين التقيته للمرة الاخيرة .. أردته ان يحملني لكنه كان يبتعد كلما ركضت إليه .. توقفت والحزن يغمر قلبي .. عرفت كم كان وحيدًا .. أهي المشاعر نفسها التي احست بها زوجة عمي ذات يوم , استيقظت وقد مرت بذاكرتي احدى تسجيلاته القصيرة مع امك كانت امواج المحيط تهدر من خلفهما وارتفع صوته حتى شعرت بالهاتف يرتج بين يدي اذ قال " ... أما آن لهذا الرقود من هبة .. حتى متى نستصرخهم , ثم كيف بهم وقد هممت والسوط كفي والسيف يدي حتى أبيد قبيلة فقبيلة ويعض كل مثقف بالهام .. اخذت الصورة بالتلاشي .. رأيت زوجة عمي تسرع الى جدي .. تتهاوى على الارض .. سقطت على ركبتيها ممسكة برأسها .. صرخت ....... "
 

Sam.

fire walk with me
ما تخيلت حجمها 3 مشاركات فيمكن تكون اول محاولة ان اكتب رواية ونفس كل قصصي ما يحتاج اللي يقرأها يقرأ شيء قبلها لان كلها قصص مستقلة بس عادي اللي يقرأ قبلها يمكن يحس بعمق للقصة P
برجع أكتب تعليق واحرق المخفي فيها لان فكرتها ملتوية وتعبتني @
 

AzureFlame

Moderator
مشرف
I8Cpcv7.jpg


وحين استهلت معركة الشمال الكبرى تخاذل الناس عن الجيش الثاني وقد عظمت في انفسهم جموع الغرب فاستحث صالح عشيرته رجاء ان يعزز جنده فكان ان خطب فيهم :

" يا أبناء الشمال .. يا أهل العزة والمنعة .. فإن القوم قد نظروا وتفكروا ثم اختاروا لأنفسهم فأجمعوا امرهم ألا تبقى ارضهم إلا أسيرة الشرق والغرب فأقبلت جيوش الغرب بقضها وقضيضها وحدها وحديدها ألا يبقوا منكم من احد يعصيهم حتى اذا فغر الموت وأعجز الفوت أُرْعِشَت الأيدي واصطكت الارجل وأطَّت الأضلاع وارتجت الاسماع وشخصت العيون وانخزلت المتون وتحققت الظنون قلتم ما لنا ولجموع الغرب اذ احتشدوا فلا والله انعجز وقد اجترأوا ونجبن حيث اقدموا وتلك ارضنا قد ضجت بفتيان ابطال وكهول ازوال تزول الراسيات وما يزولوا ..... "

ثم اجمع امره وجمع جيشه فكان كنهر متدافع وحملاته أعاصير زوابع استدرجت الغرب لحرب استنزافية امتدت لكل مدن الشمال فإذا بالجيش السابع الساعي لنصر سريع يغوص في حرب بلا نهاية وقبل ان ينقضي العام فاجأ العالم بانسحابه الى حدوده .. قيل ان مجلسهم قد نحى قيادات الجيش وآثرت القيادة الجديدة الانسحاب حتى تتهيأ لحرب جديدة .. وبات جدي في نظر الأمم هو سيد تلك الحرب إلا انه ورغم كل شيء لم يطمئن قلبه لهذا النصر السريع , ولم يكن بد من اعلانه وضم الشمال الى المركز تحت اسم اتحاد الأصل , ولم يكد النصر يتم حتى أُسِرَ لنا عن مقتل والدك فلم يُذكر ضمن اخبار الحرب ولا اعلن عن السبب وبتكتم قام الجيش بنقل جسمانه الذي لم يره احد الى المركز حيث دُفن ولا ندري أين .

لم انس تلك الليلة ما حييت كانت مرتي الاولى والاخيرة التي أرى فيها جدِّي , استيقظت بعد منتصف الليل .. ارتجف من البرد وابدل ملابسي .. تتثاقل عيناي وانا اتبع امي للسيارة .. تقود بسرعة على غير عادتها .. اسألها بقلق اين سنذهب .. تصمت .. اعاود السؤال فتجيب بصوت متقطع الى اسماء زوجة عمك .. مات عمك هذا الصباح , لم اكن قد التقيته في حياتي قط لكنني بكيت .. وفي البيت كانت امك تجلس شاحبه محمرة عيناها تتلقى التعازي صامتة , عجزت عن الكلام وانا اقف امامها باكية .. نظرت لي وتمسكت بملابسي وارتفع صوتها بالبكاء .. شعرت كم هي وحيدة , لم ارى اي واحدة تحتضنها او تواسيها , مرت ساعة وكانت نساء القبيلة ينصرفن الواحدة تتبعها الأخرى , كررت أمي عزاءها ونادتني .. قلت لها سأبقى معها .. نظرت نحوي بغضب لكني لم اتحرك , احمر وجهها ولولا حرجها لجرتني جرًا إلى الخارج .. وأخيرًا قالت مرغمة .. لا بأس وخرجت , وحين انصرفن جميعًا سقطت أمك على الارض تبكي .. كنت اسمعها تردد انتظرت لتسع سنوات .. شعرت نحوها بشفقه انفطر لها قلبي .. اربت على ظهرها ولا اجد ما اواسيها به .. احضرت لها كوبًا من الماء .. مرت ساعة وانا حائره ثم سمعت طرقات على الباب .. فتحته .. رأيت شيخًا محاطًا بالرجال .. نظر نحوي لبرهة يتفحصني ألقى السلام وعبر للداخل بمفرده .. رأيت أمك تنظر له بحده وانقطع عنها البكاء .. عزاها وجلس لم استطع ان ابعد نظري عنه .. قالت امك .. جدُّكِ .. صدمت اذ تبدل مظهره عما اعتدته في صوره مع ابي .. شعرت بالرهبة فلم اتحرك وكنت قبلها اتخيل نفسي اذا التقيته اركض نحوه واعانقه , ابتسم لي إلا عيناه كانتا تفيضان حزنًا .. قال انت هَيَا اقتربي .. قبل رأسي واجلسني لجواره , هم بقول شيء إلا ان أمُّك قالت بعناد .. سأذهب اليهم سأخذه واذهب .. ماجد هو ابني سيقبلونه بينهم .. هكذا سأحميه .. نظر لها جدي بغضب وقال منهيًا النقاش بكلمة واحدة .. لا .. قالت باكية ماذا افعل .. انا خائفة لا اريد ان افقده .. بدت الحيرة على جدي وبعد صمت قال لها .. اصبري .. لم أفهم ما دار بينهما لكن ربما لا أحد غيرهما في ذلك الوقت قد استشعر الخطر الآتي إلينا .. قال جدِّي أين ماجد .. أجابت خرج مع عمه .. لم يعلق جدي بل نهض مغادرًا , وقبل ان يخرج وجدت نفسي اركض نحوه واعانقه .. مسح على رأسي وارتجفت انفاسه ثم سمعته يقول بهدوء .. لازالت الحياة تدخر لي ما يدهشني .. من بين كل الناس ابنة نوره هي التي .. قطع كلامه وابتسم لي ابتسامة ممتنة وقال اعتني بنفسك وبعمتك .. غادرنا وللحظات وقفت أراقبه والعربة تفارقنا الى حيث تنتهي به الحياة .. لخطب جليل وحزن طويل ..

وبانقضاء الشهر الاول على تأسيس اتحاد الأصل نجح جدي اخيرا فيما كان يرمي اليه بتحييد الشرق عن الحرب اذ ابرم عهدًا بين اتحادي الاصل والشرق يقضي بوقف الحرب بينهما مدة عقد كامل اشتُرطَ فيه انسحاب المركز من كامل اراضي الشرق على الساحل اضافة الى الجزر وألا يعين الشرق اعداء الأصل اذا ما اندلعت حرب جديدة .. ولم يعكر صفو هذا الحدث إلا ما كان من حركات التمرد الساحلية اذ رأت ان جدي بذلك العهد قد تخلى عنهم ونقض اتفاقه ليتركهم بلا حماية تحت ضربات الشرق فكان انتقامهم ان غدروا بكتائب لياح وأبادوا من قدروا عليه منهم فلم يرجع من تلك الكتائب الى المركز سالمًا الا نصفهم او اقل .. عادوا .. وقد اضمروا لجدي في قلوبهم حقدًا لم يمح قط .

تلا ذلك العام عام من السلام فيه تبددت غيوم الحرب وألغي حظر التجوال وبتنا نرى أبي اسبوعيًا , أما أنت فقد تبدلت أحوالك وانعزلت بنفسك بعيدًا عن البيت وحتى المدرسة انقطعت عنها , كنت احيانا ارى امك تمر من امام المدرسة تسأل عنك وتشكو لي حالك كيف تغادر البيت لأيام ثم ترجع غير مبال بها , تسألني ان كنت اعرف شيئًا ثم تنصرف خائبة , في احد الايام دعتني لبيتها وبتردد ذهبت معها , فكرت لو سألتني أمي سأكذب فان افتضحت قلت جدي اوصاني بها , في الطريق كانت شاردة ولم تتلاشى نظرتها الحزينة منذ تلك الليلة .. احست بي انظر اليها فقالت بينما تبتسم كيف تمضين يومك في البيت .. قلت اذا كان أبي حاضرًا فأنا ادرس قليلا ثم امضي بقية اليوم استمع لقصصه عن الحرب .. كلها مرعبة لكن استمتع وانا اتخيلها , سألتني عن الايام العادية فقلت بملل أدرس ثم ادرس ثم اتظاهر بالدراسة وانام , قالت ضاحكة كل أم ستتمنى طفلة مثلك أما أنا فكنت لا اطيق البيت اعتدت كل ليلة التسلسل الى منطقة خالية بالقرب منه .. لا شيء كان يبهجني كاشعال مصباح والجلوس على على جزوع النخل المتساقطة حيث أحمل كتبي وأقرأ .. لسبب ما كان قلبي معلقا بالاماكن المقفرة ليلا .. اتذكر تعنيف أمي وصراخها ووصفي بالمجنونة .. ربما طفولتي كلها كانت صراعًا بين محاولتي للهرب ومحاولات أمي لمنعي .. كان ابي يغضب وأحيانا يضحك مني قائلا سيأتي يوم وتهجرينا للأبد .. مرت الاعوام وتحققت رؤيته لكنه مات قبل أن يشهدها , صمتت قليلا قبل ان تقول لعل ما يفعله ماجد الآن هي عقوبتي .. لذا يتمزق قلبي ولا اجرؤ على منعه .

في الصباح زرت أختي مع أمي وتحينت لحظة غابت فيها أمي عنَّا فحدثتها عن زياراتي لأمك كنت اخبرها بحماسة كم هي لطيفة نقيض ما تصورناه عنها , قالت مفكرة ربما كنت على حق اذكر في صغري سمعت ان جدي كان مؤيدًا لزواجها من عمي حتى انهما تزوجا في الشمال بعيدًا عن الانظار , ثم اوصتني ان احذر حتى لا تنتبه أمي ..

شجعتني كلمات نجد فأصبحت اطيل من زياراتي لها وذات ليلة دعتني لزيارة مكان تحبه .. وعلى اطراف المدينة اوقفت سيارتها وعبرنا لارض محاطة بالنخيل .. هيأت لنا جلسة صغيرة .. دعتني للجلوس واضاءت بعض الشموع .. غمرني السحر الآتي من الضوء المتوهج .. دائما ما كانت تدهشني بلمستها الراقية في كل ما تصنع .. اعدت لنا الشاي وقالت بحنين اعتدت المجيء هنا مع عمك .. اشارت لي ان انظر للسماء فلم ارى قبلها ولا بعدها قمرًا يلمع بهذا الجمال .. اهتز سعف النخيل بنسمة عابرة واضطرب ضوء الشموع قبل ان يسكن .. سمعتها تقول يومًا ما كنت اتخير ما بين حياتي المرسومة سلفًا ولحظة توهجت كلمعان هذا القمر .. ثم اذا اخترتها .. ثم اذا تصدعت فتهاوت فتبددت ففقدتها .. لم يبقى لي من الحياة إلا ذكرى .. هكذا اخترت حياتي ولست نادمة .. اضع كوب الشاي واسألها السؤال الذي طالما راودني .. اكان زواجك من عمي هو سبب .. قطعت كلامي اذ انتبهت لأي مدى كنت فظة .. ابتسمت ابتسامة حزينة وقالت سبب كراهيتهم لي .. لا بأس .. ثم قالت وهي تتنهد .. من البداية انا من القبيلة الثانية القبيلة التي امتلكت كل شيء عدا السلطة , فما كانت القبائل لترضى عن الاولى بديلا وكيف لا وهي التي لم تنحرف عن المركز يومًا بل من قبل ان يدون التاريخ , كم حاولت قبيلتنا عبر الازمان كسر هيمنتها وكم قامت من حروب وانقسامات إلا ان المركز أبى دومًا ان يخضع إلا للأولى .. ما بين نظرتكم المتعالية وأعيننا الجشعة كما نصفكم وتصفونا لم يتبدد قط مقتنا المتبادل .. جمعنا الاموال وجمعتم مفاتيح السلطة وتنافسنا على القبائل في تحالفات سرية وعلانية , لم اكن اول من تزوجت من القبيلة الاولى ولن اكون الاخيرة إلا ان عمي كانت لديه خططه لزواجي انا واخوتي بعد موت أبي , لكن حتى لو لم ألتقي بعمك ما كنت لاترك حياتي بين يديه , ربما كنت لأهرب إلى الشمال .. من يدري , كنت متشوقة لأعرف كيف تزوجت من عمي ولما تكرهها أمي لكنها لم تكمل , نظرت لها بفضول إلا أنها نهضت قائلة تأخر الوقت , ولم افهم وقتها انها كانت تمنع نفسها من جرح مشاعري ان تحدثت عن أمي ..


9FC85Iz.jpg


في تلك الليلة حلمت بك كنت على تلة تشرف على بحيرة محاطًا بالضباب وبجانبك تقف معلمتك التي تبدت من خلف الضباب فشعرت بالرعب من هيئتها التي لا اذكرها .. حاولت الاقتراب الا ان شيئًا ما كان يدفعني .. قاومت وانا احاول الدنو وفي لحظة انقشع الضباب وتردد صوتك في رأسي .. كنت تنظر اليها وتقول .. انا اخترت النهاية , استيقظت وقلبي يرتجف وفي الصباح .. أنت اختفيت .


مرت الاشهر عصيبة على أمك وانهارت بينما تفتش عنك بيأس , اخفقت الشرطة ولم تعثر على دليل يوصلها اليك او الى معلمتك الغامضة والتى لم يعد لها وجود بعد اختفائك , كان عنوانها المسجل لدى المدرسة كذبة وهويتها زائفة مما جعل الشرطة تشتبه بتورطها فاستمرت بالتحري عنها , وعجزت امك عن الوصول لجدي اذ كانت الحرب مع الغرب قد شمرت عن ساقها وارتدت الينا خضراء جزعة وما ان التقى الجمعان حتى نعي إلينا أبي , وكانت الصدمة بمقتله اكبر من ان تتجاوزها الجبهة الغربية اذ سرعان ما تقدم الغرب مخترقين خط المفترق وانهارات دفاعاتنا الجوية وللمرة الاولى شهدنا الغارات في عمق المركز , وكانت الحرب شمالا اعنف من ان تترك لجدي فرصة لدعم المحور الغربي , وعظمت على امي مصيبتها ولم يتحمل قلبها الصدمة واعتلت عضلتها القلبية وفي ذات اليوم فارقت الحياة على اثر نوبتها , كنت في الثالثة عشر يومها فارتعت وذهلت عما حاولي عاجزة عن النطق أو البكاء , تعانقي اختي وتبكي .. خالاتي .. عماتي .. بنات عمي واعمامي .. الجميع يواسينا ويبكي .. كنت ارى اختي تحاول كبت مشاعرها رغم دموعها المنهمرة .. اعرف كم تحب ابي وتفتقده لكنها تتماسك لأجلي .. وصلت أمك عند منتصف الليل .. قدمت العزاء متجاهلة نظرات عماتي وهمسات خالاتي .. مشت بهدوء صوب اختي وعانقتها .. نظرت لي لحظة ثم امسكت بيدي وصعدت بي الى الاعلى .. جلست على سريري وضمتني اليها واخذت تحثني على البكاء .. تمسح على ظهري وتقول لا بأس .. لا تجزعي .. بدأت أبكي وتعالى صوت بكائي .. ظللت ابكي حتى وهن جسدي .. اسندت رأسي الى الوسادة فتركت نفسي اغفو .. شعرت بها تبتعد فأمسكت بطرف ثوبها أرجوها ان لا تذهب , قالت بصوت خفيض .. لابد ان عماتك وخالاتك لم يأكلن سأعد لكم الطعام .. هممت ان اساعدها لكني سقطت في نوم عميق .
في الليلة التالية حضر عمي الاكبر .. أمرني وأختي أن نتجهز ليأخذنا إلى بيته , قالت أمك معترضة لا لن تذهبا انا من ستعتني بهما , عرفت الغضب على وجه عمي وشعرت بالخوف من نظرته , قال مستنكرًا انتِ , تدخلت خالتي الكبرى وقالت يا لقلبك الطيب والله لا ارضى بما كانت تكرهه نوره , خفت ان تتمادى خالتي فقلت لكن امي تركتني أبيت عندها تلك الليلة ولم تغضب , علقت خالتي الصغرى بل كانت تغلي من الغيظ , شعرت ان عمتي تريد الكلام لكنها سكتت احتراما لعمي لكن امك عادت تقول بإصرار لن أترك هيا , استمرت خالتي الصغرى تعلق .. كما لم تتركي ماجد , شعرت ان امك كانت مستعدة فلم تهتز بل قالت ماجد هو ابني وسيعود , نظر لي عمي فلم أجرؤ على الكلام فقالت اختي عمي انا لا نية لي بالرحيل عن بيت أبي ولو كانت زوجة عمي معنا فلا داعي للقلق , اشارت لي عمتي فاقتربت منها سألتني بصوت منخفض أتحبين زوجة عمك فقلت نعم , ثم اقتربت من اذنها وقلت ما كنت ادخره في نفسي لموقف كهذا .. جدِّي اوصاني ان اعتني بها , ضحكت من بين دموعها وهي تعانقني وقالت انت التي بحاجة الى من يرعاها , ظل عمي صامتا ينظر الينا ثم قال موجهًا حديثه الى أمك .. لا بأس .. اعني الى حين .

لما انهار المفترق وانكشف المركز كان الغرب قد اتعظ من معاركه الماضية حين استدرجهم صالح في حرب طويلة الأمد داخل المدن الشمالية , فما كان منهم إلا أن اتجهوا شرقًا في مناورة أرادوا منها الالتفاف ومحاصرة الجيب , وقد هدفوا منها قطع طرق الامداد عن الشمال وعزله عن المركز فإن تم لهم حصاره فسقوطه دفعوا بما اسموه جيش الشمال الذي اعدوه من بقايا تحالفهم القديم الى الجيب وفتحوا جبهة جنوبية للضغط على صالح وظنوا حينها ان معركة الشمال قد حُسمت , ولات حين الذي يرجون وأنى لهم وجدي على ظهرها , فما ان اتخذوا طريقهم شرقًا حتى فُتحت عليهم ابواب الجحيم , كان كمينًا أُعده جدي على قرى الجبل المطلة على الجيب غربًا اوقفت اندفاعهم ومنحت اللواء السادس الفرصة لهجوم مضاد شق جيشهم وتركه منقسمًا بين حصارين اوله قرى الجبل واخره الجيب يشقه اللواء السادس الذي حمل عليهم حملة مزقتهم أيَّما تمزيق , كان نصرًا مهمًا على مرارته اذ اوقف انقضاض الغرب المندفع بزخم انتصاراته عند المفترق إلا ان ما فقدناه من مدرعات ودبابات في تلك المعركة لم نستطع تعويضه الى نهاية الحرب .

وفي احدى الليالي تأخرت أمك لدى زيارتها المعتادة للبحث الجنائي , قالت اختي لا فائدة هو ليس طفلا تعرض للخطف , سألتها لما لا يعود .. كيف لا يبالي بأمه , قالت بهدوء تقاطعني يكفي لا تندفعي .. ألم يحدث من قبل ان تشردي بخيالك ولا تبالي بما حولك حتى ولو للحظات , نظرت لها بغير فهم فقالت ربما البعض يشرد بأفكاره حتى وكأنه في عالم غير الذي نعرفه , كانت عادتها ان تتكلم بغموض ثم لا تهتم بمن يسمعها فلم افهم ما كانت تقصده , ألقت بجسدها على السرير وقالت انها مرهقة , كنت انظر من النافذة انتظر أمك وانا افكر بما قالته نجد .. ثم سمعتها تقول .. كما قالت زوجة عمي هو ابنها وسيعود , لكن بعد ايام بدلت رأيها وقالت .. يجب ان نعثر على ماجد اخشى ان تنهار زوجة عمي , وكان اليوم نفسه الذي قالت فيه امك .. لم يبق امامي سوى حل اخير .. سأذهب الى عمي , لم افهم ساعتها ما حل بي , لكن اتدري حين ترتجف قلوبنا بغير باعث حين يغمرنا اليأس والهلع بغير داع .. أنتسآءل حينها عن أي طريق قد اتخذناه نحو قدرنا المحتوم .. لعلك لن تفهمني لكني في ذاك اليوم فقدت كلتاهما .

عندما اخبرت اختي عن معلمتك الغامضة تبدلت ملامحها وسكتت ساعة , قلت لا اظنك التقيتي بها .. تجاهلتني وقالت لا فائدة كل ما تحكينه لن يفيد لنسأل زوجة عمي , عندها تذكرت هاتفك وعزمت امري على فتحه , نهضت واحضرته ثم قدمته لها , نظرت لي فقلت قبل سنوات تركه معي .. اسفة لاني اخفيته خفت ان افشي اسراره ان فتحه احد , رددت من بعدي .. اسرار .. وضحكت , نظرت لها مندهشة .. قالت هل تعرفين ما يكتبه , اجبت أن لا , قالت لديه ذاكرة لا حدود لها فلا ينسى شيئًا قل او كثر , فان جلس بين جمع من الناس امكنه بعدها ان يصف هيئتهم مهما بلغت تفاصيلها من تعقيد وان يروي كل ما قالوا , وان قرأ كتابا لمرة اعاد سرده كمن امضى حياته في حفظه , كان يعجز عن النوم منذ طفولته عندما يبدأ عقله باسترجاع ما مر به في يومه فاصطحبته زوجة عمي لطبيب , ولم يجد الطبيب حيلة إلا ان نصحه بتدوين كل ما يتردد برأسه , فتحسنت حاله غير انه بات يتجنب كل ما حوله قدر استطاعته , شعرت بالدهشة وقلت تعرفين عنه الكثير , قالت كان مثيرًا للاهتمام منذ طفولته , امرتني ان اتركها وحدها .. ارادت التركيز وهي تبحث عن دليل في هاتفك .

كانت اختي عندما تنشغل تنسى ما حولها فلم ارد مقاطعتها ونمت على الاريكة , وعند منتصف الليل انتبهت علي أمك .. هزتني واصطحبتني للنوم معها , جافاني النعاس وكنت اتقلب حين سمعتها تقول سأذهب لبيت أبي في الصباح .. لم ارهم منذ زواجي بعمك لكن عليّ الذهاب , بدا على صوتها القلق وهي تسألني ان ارافقها , اجبت كنت سأرافقك حتى لو اردت الذهاب وحدك , كانت المرة الاولى التي شعرت بحاجتها إلي , وكنت افكر حين ارى الكراهية التي تحيط بها وهي بين قبيلتنا فإلى أي مدى ستكرهها قبيلتها التي هجرتها .. لكن النعاس غلبني وانا افكر .


IcKfypo.jpg

صحوت لأجدها بكامل زينتها ولم انتبه من قبل كم هي جميلة لا شك ان عمي كان ليتزوجها حتى لو كانت من قبيلة الشيطان , قالت احضرت لك ملابس جديدة .. شعرت بالقلق لكن بدلت ملابسي وخرجنا , وصلنا عصرًا وتوقفنا امام بوابة حديدية حتى سُمح لنا بالدخول ..

عبرنا الى حديقة لم ارى اجمل منها محاطة بقصور بيضاء تلمع تحت اشعة الشمس .. قلت متعجبة من هنا كنت تهربين .. كيف .. ضحكت وقالت للقصر مدخل سري لم يعرفه سواي وأبي , اوقفت السيارة ودخلنا احد القصور , ويعجز لساني عن وصف هذا الجو الخانق الذي احسست به .. كان اخوالك وخالتك ينظرون لنا بأعين امتلأت بغضًا , وقفت حائرة فأمسكت أمك بيدي ومشت بي مرفوعة الرأس حتى جلسنا أمام جدتك ويالها من عجوز قد اجتمع في عينيها غضب العالمين , قالت خالتك .. عادت ابنتك العاقة , ظلت امك وجدتك ينظر كل منهما للآخر حتى قالت جدتك .. تذكرت اخيرًا ان لك امًا , قالت امك بتحد .. جئت لأرى عمي , ثارت جدتك وصاحت .. ملعونة انت ملعونة , ارتجفت رعبًا من صوتها واقترب خالك الصغير من جدتك وحاول تهدئتها .. لكنها استمرت تصيح .. لو كان ابوك حيًا .. قاطعتها امك بحدة لو كان ابي حيًا لما سمح لهذا الرجل بأن يقرر حياتي .. انتِ سمحت له .. أنت من تخلت عني , صرخت خالتك .. بدل ان تجثي على ركبتيك وتقبلي قدمها .. وقفت امك ورفعت صوتها قائلة أين عمي .. أين هو , حاول خالك الصغير تسكين الحدة المتبادلة واخذ يقول اهدأوا لنسمعها لاجدوى من استرجاع ما مضى , اقتربت مني ابنة خالتك ربما كانت بعمري او اصغر بدت كالدجاجة بمعطفها الريشي ورأسها الصغير .. همست لي بصوتها الابله , تعرفين لماذا تكرهها امي .. لأنها عاهرة , لا ادري وقتها كيف منعت نفسي من صفعها , نظرت لها باشمئزاز وبعد لحظة قلت .. هذا دائما رأي الاخت القبيحة عن اختها الأجمل منها .. ثم ابتعدت عنها امنع نفسي من شتمها , اندفعت نحوي وهمت بصفعي الا ان امك جذبتها من شعرها وصرخت بها .. بنت تأدبي , على صوت خالتك تصيح ابعدي يدك القذرة عن ابنتي , جرها خالك من يدها وقال .. شهد اصعدي لغرفتك , سمعت خالك الكبير يتوعد امك .. صبرًا .. قريبًا ستأتي إلينا زاحفة وتتوسلي .. قاطعته امك .. لم تتغير ابدًا انت وتهديداتك الفارغة .. ألازلت عاجزًا لا تملك إلا أن تتوعد الناس بعمك , صرخ بها اخرسي , امسك خالك الصغير بيد امك وقال .. يكفي يكفي .. تعالي معي سأخذك لعمي , نظرت لي ان أبقى وذهبت مع خالك , راقبتها بعيني حتى ابتعدت , استمروا يتحدثون عنها بسوء ويتساءلون عني لكنهم لم يسألوني من أنا .. كنت غاضبة وعاجزة عن قول شيء , شعرت بجدتك تنظرالي فبادلتها النظر .. استمرت تحدق ولم ترفع نظرها عني , تذكرت حين روت لي امك كيف غضبت منها جدتك ذات يوم واخذت تصفعها بكلتا يديها , عاد خالك وجلس الى جواري وهو يقول مازحًا تبدين لطيفة بتلك النظرة , التفت نحوه فقال بصوت منخفض شكرا لك .. اختي تغار منها لان ابي كان يفضلها , سمعنا جلبة تصدر من الممر .. تعالى صوت امك وصراخ رجل عجوز , كنت اسمعه يقول اخرجوها لا تروني وجهها واسمعها تقول اعرف ما تدبره ستنفضح مؤامراتك .. ركض خالك وتبعته , رأيت خادمتان تخرجان امك من غرفة عمها , اخذها خالك واجلسها وهو يقول اهدئي اهدئي اخبريني ما المشكلة .. سعلت امك ورأيت دما على معصمها , اخذت منيلا ومسحت الدم وانا اسألها لماذا جرحت , سعلت من جديد وهي تقول لا بأس .. احضرت لها الخادمة كوبا من الماء تناولت منه رشفة وخالك يسألها ماذا قلتي له , برز عمها من الممر وعاد يصرخ اخرجوها .. مروا الحرس ان يمنعها اذا عادت .. وقفت امك بعصبية وقالت ما اوقحك تطردني من بيت أبي ثم غادرت , تبعتها وانا انظر لعمها كان قصيرًا قبيحًا له اعين جاحظة منفرة , التقت عينانا وهو يلتفت عائدا فلم يبغض قلبي شيئًا كبغضي له تلك اللحظة ..

في الخارج لحق بي خالك ناولني ظرفًا وقال اعطه لأسماء .. لا اعرف شيئا عن حالها بعد موت زوجها , في طريق العودة سألتها ماذا حدث فقالت لا شيء لا تهتمي .. اخبرتها عن الظرف فقالت ان افتحه , فتحت ثم نظرت اليه وقلت فيه مال .. انها جديدة كادت تجرحني .. اغلقته ثم سألتها هل نرجع ونرميه في وجهه , ضحكت وقالت لا بأس هو لا يعرف طريقة اخرى للتعبير عن مشاعره , عدت انظر للمال وقلت لديه الكثير من المشاعر , ابتسمت بحزن ولم تتكلم طوال الطريق , وكنت مكتئبة لأجلها وحزينة اذ لا اجد ما أخفف به عنها , لم ارى في حياتي من هو بلطفها وطيبتها ورغم ذلك تجافيها عائلتي وتكرهها عائلتها وحتى انت ابنها الوحيد تركتها وهي اشد ما كانت تحتاجك بعد موت عمي , بدت متعبة وتسعل فقلت لها لنتوقف لتستريحي قليلا .. قالت لا بأس أنا بخير , عدنا للبيت ولم تكن بخير .. استلقت على الفراش دون ان تبدل ملابسها .. قالت انها تشعر بالصداع , وكانت اختي قد حضَّرت الطعام لكنها رفضت الاكل وقالت سأنام قليلا , تركناها تنام بهدوء وسألتني نجد عما حدث , فتساءلت لكن قبل كل شيء ما الذي دفعها للذهاب , منعني القلق على امك من الاكل فقالت نجد .. لا تقلقي انا على وشك معرفة اين تقيم تلك المعلمة , كتب ماجد وصفًا للاماكن التي صادفها فيها .. في الأصل ابحث عن المنازل التي لم يسجلها اصحابها كعناوين لهم , ثم ارسلها لابن عمي واخرج معه برفقة معارفه من الشرطة نفتش حولها , لكن اختي تأخرت وتدهورت صحتها , لأيام كانت مرهقة ثم ارتفعت حرارتها .. ولازمت الفراش وكنت لا افارقها لحظة .. اخاف ان احتاجت لشيء فتغيبت عن المدرسة رغم اعتراضها وغضبها عليّ , ثم احضرت اختي طبيبة فحصتها وبدت حائرة من حمتها .. وصفت بعض الادوية وطلبت منها زيارة المشفى واجراء التحاليل إلا أن حالتها اخذت في التحسن فأهملت الذهاب الى المستشفى .

وكان ان اتت الأيام بالخطب الفادح والحدث الجليل اذ اختفى جدي وشاع بين الناس موته فاضطربت الاوضاع وأحكم الغرب حصار الشمال وقطع طرق الامداد عن الجيب بعد ان عزله عن المركز , وكأمر دبر بليل نقض الشرق عهده وشن هجوما على الشمال اتبعه بهجوم بحري على شرق المركز , وتمردت كتائب لياح واعلنت العصيان ودعت الجيش اليها وحرضته بدعم من القبيلة الثانية على اغتيال قادته الموالين لجدي , وانعقد المجلس في غياب جدي وصدر قرار بسحب الجيش من الشمال , ولم يكن الانسحاب ممكنًا إلا ان القرار اريد منه هدم الأصل وبث اليأس على الجبهات الشمالية , وصدر بيان عن نائب جدي على المركز طاعنًا بقرار المجلس الذي انعقد دون علمه , ومن الشمال بث رئيس الاركان خطابًا عنف فيه اشباه الرجال من المجلس وأقسم ان ما يلاقيه منهم اشد عليه من غدر الشرق , أما صالح فانخزل عنه جنده فأهل الشمال يقولون ما لنا ولمغامرات المركز واهل المركز يقولون ما لنا ولتحرير الشمال , وكم عانى رئيس الاركان وصالح في رْأبِ الصَّدْعُ الذي خلفه جدي .

أرقت تلك الليلة على صوت صالح وكان رئيس الاركان قد بث نداءاته عبر المركز وكانت امك تستمع ولا أدري أكانت تبكي , إلا أنها قد خفضت الصوت قدر استطاعتها , وكم اشفقت عليه وهو ينادي إليَّ أيها الناس .. يا جند الأصل أبناء الحروب أصحاب الغارات حتوف الاقران إلي فإِني في الحرب العوان موكل بِإقدام نفس ما أُريد بقاءها , لكن .. دون جدي كان الأصل يتهاوى , خرجت لأشرب وكانت اختي جالسة ممسكة بهاتف غريب المظهر فلما رأتني فزعت .. سألتها عما بها فقالت لا شيء ودخلت غرفتها , لم تخبرني ليلتها انها مع ابن عمي قد عثرا على بيت معلمتك حيث وجدوها منتحرة واحتفظت هي بهاتفها ، ومن حينها لم تعد هي أختي التي عرفتها , وكان المركز يعاني شقاقًا بين رئيس الاركان وسيد القبيلة الثانية وفي غياب جدي انحازت الكثرة من القبائل الى عم والدتك الذي جهر اخيرًا بمعارضته للحرب وعمل على بسط نفوذه على ما وسعه من العاصمة وحاول منع الامدادات عن جبهات القتال الا انه كان يومها اضعف من ان يعرقل الحرب ولم يكن مفر من الانقسام فأضحت الاشتباكات الداخلية بين الجيش عادة يومية تشتد حدتها وتتسع دائرتها شيئًا فشيئا .

كنت على الاريكة بين النوم واليقظة احاول ان اغفو فيتناهي لمسامعي صوت الغارات .. افتح عيناي متوترة لا ادري لما يخفق قلبي .. افكر بجدي كيف اختفى ومن قبله انت ومن قبلكما عمي .. اختي التي حملت عبئًا لا أفهمه وذهلت عني بغير سبب اعرفه , انتبه ان أمك ليست في البيت من باب حجرتها نصف المفتوح , افتش عنها فلا اجدها , ابدل ملابسي واخرج فيمنعني الحارس الذي أرسله عمي قبل أيام , أسأله عن زوجة عمي فيطلب مني ان انتظرها في الاعلى , عدت للداخل يائسة فلم ألبث إلا قدر تحولي .. عدت إليه مسرعة ارجوه ان يأخذني إليها , اندهش مني ثم ابى ثم استرجع كيف بدا عليها التعب وهي تمشي الى سيارتها فأذعن لي ..

وجهته الى حيث دفعني ظني الى تلك الارض المحاطة بالنخيل .. هناك كانت جالسة وقد اضاءت الشموع كعادتها , تركته في السيارة وتوجهت اليها , كانت شاردة فلما رأتني لم تبتسم لي كعهدي بها , نظرت لعينيها المرهقتان وتبينت الألم في ملامحها , وددت لو أسألها وأعاتبها إلا أن شيئًا ما حملني على الجلوس صامتة , قالت اردت لصالح ان يدفن هنا .. لولا ان الحرب كانت اقوى من ارادتي , رددت بغير فهم .. صالح ؟ .. لاشك انها تهذي .. صمتت لحظة قبل ان تقول ان حدث لي شيء .. لم اطق ان تكمل فقلت .. الجو بارد لنعد , اشارت لي ان اجلس وسكتت قليلا ثم قالت بحنين اشتقت لماجد , كأنها لم تعد تبالي بي .. اختلطت علي المشاعر فسألتها مرتبكة هل اعد لك الشاي .. انت لم تسمحي لي من قبل , تمهلت بتحضيره وحاولت ان انسى احباطي , سمعتها تقول بيأس ..كنا وَما يُخشى تَفَرُّقُنا فَاليَومَ نَحنُ وَما يُرجى تَلاقينا , عرفت ان كل ما سأقوله سيبدو سخيفًا فناولتها كوب الشاي دون ان اتكلم , ارعدت السماء بزحف الغارات من فوقنا , قالت لا أحد آمن بجدك كما فعلت , لا احد منحه ما منحته ، ولم يحرم أحدًا كما حرمني , ولم يخذل أحدًا كما خذلني , تفلتت منها ضحكة ساخرة وهي تكمل .. أَمَا لو علم الناس لأي غاية أضرمها جدك , اخذت تسعل وتوقفت عن الكلام .. عبرت من فوقنا طائرة حربية .. صببت لها كوبًا من الماء .. , رشفت منه وقالت .. هذا الذي يسعى اليه جدك دونه بحر من الدماء وها قد غشينا الموت بسحبه ولا اظنه يرضى حتى يفرغ علينا البلايا تتبعها المنايا لكن .. انا ما عدت احتمل .. سقط من يدها الكوب وانهارت امامي .

ساعتين من التسجيل الصوتي والمؤثرات الصوتية ما شاء الله شغلج جبار..
الله يعطيج ألف عافية.. راح أدخل أحلى جو انيميات الكلاسيك مع صوتج هذا (&).
 

Sam.

fire walk with me

ج٧ : إلى حيث تنتهي الحياة

بكتب تعليقي قبل انسى التفاصيل بما انها القصة اللي اجبرتني اكتب بكل طريقة اكرهها خصوصا التقييد في ان تكون القصة بمنظور شخصي .. واذا ابدأ من النهاية فتلميحات ان هيا ما بتموت كان اهمها اخر كلمات أسماء ومنها السر ان اهتمامها بهيا كان لانها تعرف ان واحدة من الاختين بتكون سبب موت ابنها , طيب كيف تعرف المستقبل .. احتاج اوضح نقطة هي ان عند سلام وجهة نظر للتاريخ مختصرها ان اذا تحققت ظروف مشابهة لحدث تاريخي معين يعيد التاريخ نفسه بشرط يكون الحدث التاريخي انتهى بمسار يعارض مساره اللي مفروض يكون عليه وكأنه يشوف للبشر مسيرة توقفت ويحاول يعيدها ومنها ان عنده نبوءات للمستقبل تعرفها اسماء ....
بالنسبة لحالة ماجد ففي بداية الصفحة قصة بعنوان " عندما انتهى العالم " هي تقريبا تفسير لحالته واكثر ...
اما الحرب فكنت مضطرة افصل فيها لهدف اهم من جو الحرب للاحداث ان احاول اعرض حرب فيها معنى النصر والهزيمة تكون اساس لحروب ماجد , في البداية ومن قصة عنوانها " تمضي وامضي مع العابرين " فيها نبوءة عن حرب استغلها سلام لحتى يقنع جماعته بأهداف تساعده ان يستغلهم لأهدافه وكان هو وجماعته يقنعوا الشمال بأكاذيب تساعدهم ان يستغلوهم لاهدافهم في سلسلة أكاذيب تكتشفها هيا في نهاية القصة , وفي الاحداث ان سلام كان يضحي بالجميع ويخسر لكن عنده قدره ان يصنع مشاهد انتصار تساعده ان يستمر في حربه وكأنه هو المسيطر على الحرب فكانت لحظة الهزيمة الحقيقية انسحاب الغرب من الشمال ومنحه نصر بارد وقتها بدأت خططه للحرب تنهار فاحتاج صالح ان يطيل الحرب لحتى تسوء الاوضاع وتثور القبائل على القبيلة الاولى او هو الشيء اللي كانت اسماء تفترضه ....

بالنسبة لتفاصيل ماضي اسماء وصالح وسلام وابنه وام هيا اكثر قصة تلح علي اكتبها بس كانت اكبر من ان تكون في نفس القصة ولو اكتبها لوحدها في الجزء التالي بتكون حرق لاحداث مفروض تنكشف في نهاية القصة .....


7qqIBId.jpg
 
أعلى